الخميس، 26 مارس 2009

المكتبة، ليلا
ألبيرتو منغويل
Alberto Manguel
La bibliothèque, la nuit
Actes Sud/2006

كتاب في مديح المكتبة والقراءة
باريس. محمد المزديوي


المتعة التي تثيرها المكتبة أكبر من أن يُكْتَبَ عنها كتاب واحدٌ. وأن يتصدى، ألبيرتو منغويل،ALBERTO MANGUEL هذا الكاتب الفذّ، المتواضع، تواضع العالِم الحقيقي، فأمر جيد ويغري بالمتعة والقراءة. وليس غريبا أن يكون المؤلف من تلاميذ خورخي لويس بورخيس، مدير مكتبة بيونس إيريس، الشهير، ثالث مدير لنفس المكتبة يُصاب بالعمى، وكأن المكتبة يجب أن يُنظَر إليها بنور القلب، وليس فقط بملء العينين.
الأرجنتيني الأصل والكندي الجنسية والمقيم في الريف الفرنسي، ألبيرتو منغويل، الذي يعرفه القراء العرب من خلال رائعته "تاريخ القراءة"، والذي تتبع بورخيس، كواحد من الذين كانوا يقرأون عليه بعد أن أصيب بالعمى.. وقد أتحفنا سابقا بكتاب جميل بعنوان: "مع بورخيس"، هو صاحب الكتاب: "المكتبة، ليلا". ولا يخفى أن الليل مع الكتاب يضفي حالة استثنائية على الموضوع.


قسّم منغويل كتابه إلى أجزاء تحمل الأسماء التالية: أسطورة، نظام، فضاء، سلطة، ظل/شبح، شكل، الصدفة، كابينة العمل، ذكاء، جزيرة، البقاء، النسيان، هوية، مسكن.
المكتبة في نظر منغويل هي كل هذه الأشياء. وهي تبدأ بالحبّ بالضرورة: "مثل معظم أشكال الحب، حبّ المكتبات يُتعلَّمُ. لا أحد يمكنه أن يعرف عن طريق الغريزة، حين يخطو خطواته الأولى داخل مكتبة مسكونة بالكتب، كيف يمكن أن يتصرف، وما يُنْتَظَرُ منه، ما هو موعودٌ، وما هو مسموحٌ به. يمكن أن نحسّ بالرعب إزاء هذا الركام المختلط وهذه الرحابة وهذا الصمت، وهذا التذكير الساخر بكلّ ما لا نعرف، وإزاء هذه الحراسة، وهذا القليلُ من هذه الحساسية الضاغطة يمكن أن يظل موجودا بعد أن نكون قد تعلمنا الطقوس والتعاقدات وبعد أن نكون قد امتلكنا فكرةً عن الجغرافيا وبعد أن يكون الأندجين قد كشفوا عن جوانب حياتهم الودية."(16-17)
كل الفصول عبارة عن موسوعات حقيقية تكشف غنى معلومات الكاتب. الأسطورة لا يمكنها أن تغفل مكتبة الإسكندرية: "مكتبة الإسكندرية الحاضرَة، بشكل ضمني، في مذكّرات الرحّالة وفي حوليات المؤرخين، والتي تمّ إعادة خلقها في أعمال تخييلية أو في خرافات، جاءت لتُمثّل لغزَ الهوية البشرية مع السؤال المطروح من رفّ إلى آخر: " من أكون؟" في رواية إلياس كانيتي1935: "الإعدام حرقاً"، نجد بيتر كين، العالِم الذي يحرق، في الصفحات الأخيرة، كل كتبه وأيضا يحرق نفسه، حين تصبح تدخّلات العالم الخارجي المتطفلة غير مقبولة، وهو يُجسِّدُ كل وريث للمكتبة، وكقارئ يتمتع بشخصية عميقة جدا مرتبطة بالكتب التي يمتلكها، مثلما قدامى واسعي العلم في الإسكندرية، يتوجب عليه، هو أيضاً، أن يصبح غبارا في الليل حين لن تكون المكتبة موجودة. غبار، في حقيقة الأمر، هذا ما يلاحظه الشاعر فرانسيسكو دي كيفيدو في بداية القرن السابع عشر. وأضاف، بهذا الإيمان في بقاء العقلية التي جسدتها مكتبة الإسكندرية: غبار، نعم، ولكنه غبارٌ عاشقٌ."(41)

"الصدفة"، شعورٌ كثيرا ما ينتابنا ونحن نلج مكتبة ما. " المكتبة ليست فقط مكانا يسود فيه النظام والفوضى، إنه أيضا مملكة الصدفة. إذ على الرغم من أن الكتب مُنحتْ رفّا ورقما، فإنها تحافظ على قدرة تحرك خاصة بها. تُتْرَك لنفسها فتتجمع في أشكال غير منتظرة."(153) يورد الكاتب رأيا لأمبرتو إيكو يرى فيه أن " المكتبة يجب أن تحافظ على الطابع غير المتوقع الذي نجده في سوق من الأسواق الذي تباع فيه الأشياء القديمة والمستعملة"(153)
وعلى الرغم من أن الكتاب يرصد مختلف الجوانب المتعلقة بالمكتبة، إذ يعجّ بالتاريخ والشخصيات والأساطير، فهو أحيانا يمنحنا بعض الإشارات الأتوبوغرافية: "مثل ماكيافيلي، أجلس في مكتبتي ليلا، بين كتبي. إذا كنت أكتبُ نهارا، فأنا أفضل القراءة في الليل في صمت مطلق، حين تقوم المثلثات الضوئية لمصابيح القراءة بشطر المكتبة شطرين.(...) مكتبتي ليست كاتالوغا، أنا بنفسي من رتّب الكتب على الرفوف"(179)
ليس من الصدفة أن تكون المكتبة الشخصية لمنغويل كبيرة جدا، فهذا العاشق الكبير للكتب لا يألو جهدا في البحث عن نوادر الكتب في الأسواق وفي اقتنائها، وهو يمتلك من المكتب الشيء الكثير. يتحدث لنا عن مكتبته: " مكتبتي تتضمن نصفا من الكتب التي أتذكرها، في حين أن النصف الثاني نسيتُه. ذاكرتي الآن ليست حيية كما كانت في السابق، الصفحات تتلاشى في اللحظة التي أحاول فيها تذكرها. البعض الآخر من الصفحات يختفي بصفة كاملة من تجربتي، منسية وغير مرئية. البعض الآخر يسكنني، مُسوّلا وغاويا، عبر عنوان أو صورة أو بعض كلمات خارجة من سياقها. ما اسم الرواية التي تبدأ بهذه الكلمات: "ذات مساء من ربيع 1890"؟ "أي قرأت أن الملك سليمان استخدم مرآة ليكتشف إن كانت الملكة بلقيس كانت تمتلك ساقين فيهما زغب"؟ (...) هذا الأسئلة تمتلك أجوبتها في ركن ما من مكتبتي ولكني لا أعرف أين."(233-234)
الفصل الثالث عشر، وهو من بين أحلى الفصول، وخصوصا حين يتحدث عن بورخيس. "من فترة شبابه شجعه الوعيُ بعماه، الذي يهدده، على عادة تخيّل مؤلَّفات معقدة لا وجود لها أبدا في شكلها المطبوع. لقد ورث عن أبيه هذه البلوى التي أضعفت من بصره. فمنعه الطبيب من القراءة تحت نور غير كاف. ذات يوم، كان مسافرا في قطار وكان غارقا في قراءة رواية بوليسية إلى درجة مواصلة القراءة صفحة بعد أخرى في الشفق الصاعد. بعيد وصوله إلى نهايته، ولج القطار في نفق، ولما خرج منه لم يعد بورخيس يرى شيئا سوى ضباب ملون، لم يعد يرى سوى" هذه الظلمات المرئية" التي كانت بالنسبة لـ"ميلتون"Milton تعني الجحيم."(249)
حضور بورخيس كبيرٌ في الكتاب ويمنح القارئ لذة كبيرة جدا: "كان زوار بورخيس، الذين يعرفون عنه أنه يُشبّه الكونَ بكتابٍ. ويقول بأنه يتخيل الفردوس "على شكل مكتبة"، ينتظرون أن يجدوا مكانا غاصا بالكتب ورفوفا مكدسة ومطبوعات تحد من حركة الأبواب- أي غابة من الحبر ومن الورق. لكنهم بدل كل هذا يعثرون على شقة متواضعة تحتل فيها الكتب مكاناً صغيرا ومنظما. وحين زاره الكاتب البيروفي ماريو فرغاس يوصا، وكان لا يزال شابا، اندهش من بساطة الأثاث وسأله لماذا لا يحب أن يعيش في وسط يحتوي كتبا أكثر وفيه فخامة. تألّم بورخيس كثيرا من الملاحظة وأجاب: "ربما هذا ما يحدث في العاصمة ليما، ولمكننا، هنا، في بوينس إيرس، لا نحبّ التباهي."".(171-172)

لا يمكننا، في هذه العجالة، أن نولي الكتاب ما يليق به، سوى أن نذكر بأنه كتاب شيق ولابد من ترجمته. ترد في الكثير من الإشارات إلى أسماء أعلام عرب ومسلمين. عبد الرحمن، أبو نواس، أبي عامر المنصور، ابن النديم، نجيب محفوظ وغيرهم.
يتحدث المؤلف عما يسميه المكتبة الذهنية(العقلية) في غياب المكتبة المادية(أي المتضمنة لكتب) ويرى بأن هذا النوع كان معروفا في الإسلام. "إذ على الرغم من القرآن (الكريم) دُوّن في وقت مبكر، فإن كل الأدب العربي القديم، تقريبا، ظلَّ معهودا به لذاكرة القراء. بعد وفاة الشاعر الكبير أبو نواس، سنة 815 ميلادية، لم يعثر ولو على نسخة واحدة من أعماله، إذ أن الشاعر كان يحفظ كل أشعاره عن ظهر قلب. ومن أجل تدوين أعماله اضطر النساخ إلى الاستعانة بذاكرات الذين استمعوا إلى أشعار الراحل."(181-182)
يخرج القارئ بنفس الدهشة، إن لم تزدد. وللقارئ أن يتخيل مكتبة تغصّ بكتبها وأسرارها، في عزّ الليل، ثم يزيد في خياله قليلا، وإذا به أمام قرّاء عميان، أمام أناس من طينة بورخيس، وهم يقرأون. ليتخيل القارئ منظر بورخيس، في بيته، وهو يرشد زواره الباحثين،عن شيء ما، في مكتبته، وبين ثنايا كتبه وتعليقاته وهوامشه، بفضل ذاكرته التي لم تشخ أبدا. للقارئ أن يتخيل بشار بن برد، وهو "يعشق بأذنه" إذ أنها "تعشق قبل العين أحيانا" أو طه حسين وهو يناقش دكتوراه في جامعة السوربون.
الكتاب يحبب للقارئ ارتياد المكتبات وإنشاء مكتبات خاصة، وفوق هذا وذاك يشجع على القراءة في وقت فعلت فيه الشاشات، بمختلف أنواعها، بالمرء ما فعلت.