الخميس، 14 مايو 2009

من الأدب البرتغالي المعاصر
الملائكة
رواية برتغالية صغيرة
(تيوليندا جيرساو)
ترجمة : محمد المزديوي*


كانت أمي واقفة على كرسي، وكان في يدها حَطَبَة مشتعلة. أمّا أنا فقد توجهتُ لشدّ الكلب، وحين عدتُ، وجدتها على هذه الحالة.
صرختُ فيها من الباب:
- توقفي!
ولكنها لم تكن تسمعني، كانت تمد جسدَهَا وتحرك ذراعيها، كانت النيران تخرج من الحطبة وتلعق عوارض السقف. أسرعتُ نحوها وتعلقت بِرِجْليْها، فوقعتْ على قفاها واشتعلت فينا النيران، أحسستُ بحرارة كبيرة في وجهي وشعرت بثيابي وهي تلتصق بجسدي. توقفت عن التدحرج وعن الصراخ، التقطتْ جرة الماء وأفرغتها علينا، المطبخُ امتلأ بالدخان، ولم يكن بالإمكان تمييز أي شيء.
بعدها طفقت تبكي وترتجف من البرد وقالت بأن الغلطة غلطتي لأني التصقت بِرِجْلَيْها ولأنها لم تستطع أن تقفز من الكرسي.
لست أدري إن كانت سقطت بسببي. لقد كنت فقط أريد أن أجذب قميص نومها من أجل حثها على النزول، ولكنها، ربما، بسبب الهلع، ضغطت على رجليها وقلبت الكرسي. لا أعرف إن كانت الأمور جرت على هذه الحالة. ولكن لم يكن من سبب للإلحاح على المسألة.
حين نهضت من أجل أن تفتح الباب وتخرج الدخان، لاحظتُ تمزقا في قميص نومها. كان بإمكاني أن أقول لها: "لقد جذبتُ قميصك، والدليل هو أنه قد تمزق.". ولكني لن أتفوه بهذا.
الآن يوجد دخان أقل، أقل بكثير، كما لو أن لا شيء حدث. في نهاية المَطاف لم يحترق البيت، ولم أقُلْ شيئا لأبي. سوف نظل في المساء في الركن بالقرب من المدفأة، كما هو الشأن دائما، دون التفوه بأية كلمة، وسيشرب أبي قنينته إلى أن يأتيه النوم، أما أمي فسوف تظلّ جالسة على الأرض، العينان مثبتتان، كما لو أنها تريد أن تُلقي بِنَفسها في النار.
أحيانا تمد راحَتَي يديها فوق النيران، إلى أن تحترقا. يحمرّ جلدها وربما تحس بالألم، ولكنها لا تبين شكوى أبدا. دهنتْ يدها بزيت الزيتون ولفّتها في منديل، وعادت للجلوس مواصلة النظر إلى النار. إذا مررت من أمامها، فهي لن تراني. عيناها تبدوان فارغتين، كما لو أنها أصيبت، فجأة، بالعمى. لا تجيب أبدا على ابتساماتي، ولا تستدير أبدا حين ندعوها.
في البداية كان أبي يستشيط غضبا من موقفها. لم تكن ترتدي ملابسها ولم تكن تُصفف شعرَهَا، وتظل طول نهارها بقميص النوم، كانت تمشي حافية القدمَين وتتحدث لوحدها، ولم تكن تهتمّ بالبيت وتنسى أن تهيئ العشاء. كان أبي يشرب النبيذ ويكسر القنينة بضربها بالحائط، ويقول بأنه لا يمكن أن نظل على هذه الحالة، لم تكن أمي ترد وكانت الكؤوس والصحون تسقط من بين يديها، تلوي يديها وتنظر من خلال النافذة.
ذات يوم بدأت تهرب من البيت، وكنا نعثر عليها بعيدا، متساقطة تحت الأشجار، شعر رأسها مليء بالتراب، وتبدو كأنها نائمة وعيناها مفتوحتان. حين كنا نرفعها من الأرض، كانت تكتفي بالنظر إلينا، مرعوبة، كما لو أن كل ما حدث لم يكن له علاقة بها. أتذكر ذلك اليوم الذي قدت فيه معصميها بسكين المطبخ، وحيث وجدناها في بركة من الدم تحت شجرة الزعرور(الجرماني).
حين ذلك أركَبَها أبي فوق الحمار ليصطحبها إلى المدينة عند الطبيب. تمشيا ثلاثة فراسخ، أبي على قدميه، وهي راكبة على ظهر الحمار. كل الناس لاحظوا كم كان أبي متعلقا بها.
كان أبي يردد دائما بأن أمي كانت جميلة جدا. على الرفّ كان يوجد بورتيه لأمي تبدو فيه ببدلة جديدة، ذات يوم عيد. في تلك الفترة كانت أمي تضحك وتغني، وأنا لم أكن قد ولدتُ بعد.
والآن، وهي على ظهر الحمار، ما تزال جميلة، بقرب خُرْج وكيس المؤونة، لابسة قميصا ذا أزهار صغيرة وكُمَّيْن قصيرين أرغمها أبي على ارتدائه، وعلى رأسها قبعة من القشّ. ولكن تحت القبعة كان وجهها حزينا، وكانت عيناها تبدوان غائبتين.
حين وصلا عند الطبيب، قال له أبي:
- أنظر يا دكتور، سوف أموتُ إذا لم تعد إلى حالتها الأولى.
مسح الطبيب نظارتيها ومسح جبهتها، طلب منها أن تخلع قميصها، فحص صدرها بالتسمع، قاس نبضها وأمر لها بمسحوقٍ كانت تُذوِّبُه في كأس ماء ثم تقضي كل النهار في النوم.

حين انتهت من استخدام كل المسحوق، عادت مع أبي عند الطبيب الذي قدم لها وصفة بمسحوق آخر، وقال بأنه ليس بالإمكان فعل أي شيء، وبأن مرضها غير قابل للشفاء.
عاودت تناول المسحوق والنوم طول النهار، وواصلت الهروب والنظر إلى النار، بِذهول.
كان أبي يخشى عليها من أن تحترق وأن تضيع في الحقول أو أن تموت غريقة في الوادي. حين يكون في البيت كان يراقبها باستمرار، وقبل أن يذهب إلى العمل يقول لي:
- اهتمي بأمك حتى لا يقع لها مكروه.
أنا أيضا كنت أخاف من أن يحدث لها شيء ما؛ لأجل هذا السبب، وكي أطيع أبي، كنت أتبعها باستمرار.
ولكنها لم تكن تحب أن أتبعها، كانت تبدأ في الصراخ وكان جسمها يَحْمَرّ، كان ساقاها كما ذراعاها يتصلبان مثل أطراف خشب، كانت تتقيأ ويسيل لعابها، وعيناها جاحظتان. كانت نظرة واحدة إليها تكفي لإثارة غضبها، خصوصا من قِبَل أبي. حتى معي، كانت تغضب، فكانت تضعني في بيت الكلب، أو تُلقي بي في الخمّ ولا تقدّم لي الطعام طول النهار.
ذات مرة هربتُ من البيت واتجهتُ إلى النبع، تبعتني وهي تصرخ: "توقفي يا "إيلدا"، وإلا ستُعَاقَبين بشكل أكبر"، واصلت العدو لأني كنت خائفة، جريت إلى النبع، وكانت تجري ورائي، كان في النبع "لورينسا كارييرو" التي أمسكت بي، فقالت أمي: "آه، يا جارتي، ما الذي سيحدُثُ لها، الآن." كانت أمي تضربني فيما الجارة ممسكة بي إلى أن عضضتُ يدها حتى أدميْتُها، وهكذا استطعتُ الإفلات من يديها.
مرة أخرى، تبعت أمي وأنا متخفية خلف الأشجار، بعيدة عنها، حتى لا تراني، اجتزت حُفَرا وتخطيت حيطانا صغيرة، ولكني فجأة أحسستُ بألم قوي جدا بحيث إني سقطت أرضا وأُغمِيَ عليّ. حين تم العثور عليّ، كان الوقت ليلا، استعدت قِوايَ ولكن من دون أن أنجح في النهوض.
أتذكر أيضاً ذلك اليوم الذي أردتُ فيه أن أخيفها انتقاما. اختبأتُ تحت السرير حين ذهبتْ إلى النبع، وقلت في نفسي إنه حين عودتها ستمر بالقرب من السرير، وحينها سألمس رجليها، كما لو أن الأمر يتعلق بفأر، كي أجعلها تُصيِّحُ. ولكني نمتُ تحت السرير، وحين رجعت لم ترني، بحثت عني في كل مكان، كما أن الجيران اجتمعوا للبحث عني في البساتين أما أبي فاعتقد أني هويت في أعماق بئر، في حين خشيت أمي من أكون قد هربت. حين استيقظتُ ورأيت أن المنزل غاص بالناس اعتقدت أن مكروها ما قد حدث، لأن المنازل حين تمتلئ بهذه الطريقة فلأن شخصا ما قد فارق الحياة، قررت البقاء تحت السرير خوفا من أن يكون قد مات شخصٌ ما وألا يكون في علمي.
لقد حدث هذا قبل أن تسوء حالتها. لأني كنت ما أزال أستطيع، في بدايات مرضها، الذهاب للعب مع الآخرين تحت أشجار الزيتون، حيث كنا نعشق التواجد فيها نظرا للفضاءات الواسعة التي توجد هناك، كان صغار السنّ يجلسون على أغطية في حين كان المُسنُّون يهتمون بهم، كان عددنا دائما كبيرا جدا لأن "لورينسا" و"ماريليا" و"برازيريش" و"بيلميرا" كل واحدة منهن كان لها ثمانية أبناء، وكانوا ينامون جميعا في نفس الأَسِرَّة. باقي نساء القرية كان لهن كثير من الأولاد، وهكذا كان الأمر جيدا لأنه لم يكن يوجد فردٌ لوحده.
كنا نلعب بأحجار صغيرة، كنا نرمي بِدِقَاق الحطب في ثُقُوب، ونرسم شبابيك على الأرض ونلعب لعبة القط؛ أمّا الصغار فكانوا يَصنعون دواباً بأغصان زيتون معوجة حين يعثرون على جذعٍ ما في الطريق.
حين كانت طائرةٌ ما تمرُقُ فوقنا، كنا نصيح: "آه، لو تسقط هنا، سنُصبح حينئذ أثرياء." لأنه ستكون داخلها كثيرٌ من الأشياء. كنا إذاً نصرخ: "أُسقُطِي، أسقطي هنا." ثم ننظر إلى السماء ونحرك الأذرع وهي تطير.

ولكن بعد ذلك ساءت صحة أمي، فاضطررتُ للبقاء في البيت للعناية بها. لم يَكُن الأمرُ يضايقني، إذ لم أكن أحب المدرسة. أبي كان يقول أيضا بأن الأمر ليس خطيرا إذا لم أذهب إلى المدرسة، لأني، على كل حال، لم أتعلم فيها القراءة ولا الكتابة.
كانت أمّي تظل طويلا في النافذة، ثم تَعْقِدُ رزمة ثياب وتقول بأنها ستغادر البيت. أحيانا كانت تفتح الباب وتَضَع رزمة الثياب على العتبة، وحين كنتٌُ أقول لها بأني سأصطحِبُها، كانتْ تنفجر غضباً وتبدأ في ضربي. مرات أخرى تقول لي بأنها لا تستطيع أن تصطحبني، تبدأ في البكاء وتضمني إلى صدرها. ينتهي بها الأمر إلى إخفاء رزمة الثياب خلف الباب أو في دولاب الغرفة، تنزع حذاءَيْها وتضعهما تحت السرير، وتعود إلى النافذة وتبدأ في البكاء، وعيناها مُسلََّّطَتَان على الطريق.
حين ذهب أبي لإحضار والده، كان قد مر وقت طويل على وضعية أمي. حين عُرِف بأن الجدة قد ماتت وبأن الجد سيأتي للإقامة عندنا، غضبتْ أمي، وأطلقت صرخات كبيرة، كما أن أبي صرخ هو الآخر، لم يكن يُفهَم ما يقولانه، لأن كِلَيْهِمَا كان يصرخ بِقُوّة أكثر من الآخر. ثم صفق أبي الباب خلفه، وغادر البيت، بينما جلست أمي إلى طاولة المطبخ وطفقت تبكي.
في الأيام التي تلت، تخاصما من جديد. كانت أمي تقول بأن جدي عبءٌ، وبأن على ابنه أن يتحمَّلَهُ. ليذهب إلى الجحيم للبحث عن أبيه ويحمله على ظهره، ما دام أنه لا يَرْجِعُ عما قرره. وكي يهتم به فما على أبي إلا أن يعتمد على نفسه، وألا يحسب حسابا لأمي. إذْ أن أمي يكفيها إزعاجي أنا.
لاحِقا ستقول "جيرمانا ماريرا" بأن جدي هو الذي ألصق بها المرض، لأنه هو أيضا كانت الأشياء تسقط من بين يديه، وكانت ذراعاه تضطربان وكان يظل جالسا، ونظرُه شارد على عتبة الباب. الأمر لم يكن صحيحا لأن أمي كانت على هذه الحال قبل أن يصل جدي. ولكن، صحيح أن جدي كان هو الآخر مريضا، وكان هو نفسه يقول هذا. أبي كان على علم بحاله حينما ذهب للبحث عنه، ولكنه لم يقل شيئا.
حين وصل إلى بيتنا، بدا لي وكأن قامته تعادل تقريبا قامَتي، لأنه كان دقيقا ونحيلا جدا. كان يضع على رأسه قبعة صغيرة جديدا ولم يكُنْ يغتسل. انصرفت أمي للنوم، رافضة أن تكون في استقباله.
خلال فترة طويلة، تصنعت عدم رؤيته، ولم تكن تكلف نفسَها النظر إليه. كان أبي يمنحني النقود، فكنت أذهبُ لشراء ما هو ضروري وأهيئ الطعام بنفسي.
كان جدي يعشق الحديث. كان مختلفا عن أبي، الذي كان قليل الكلام. قب أن تسقط أمي صريعة مرضها كانت تسأله، في المساء، حين يعود من العمل:
-"كيف الحال؟" كان يهزّ كتفيه ويقول:
-"كما العادة."
كان أبي يقطع الأشجار لفائدة منشرة. أحيانا كنت أعتقد بأنه أصبح أبكما، مثل صخرة. لم يكن للأشجار ما تقوله. ولكنها
كانت هناك، حاضرة، وتخلق الظل. كنتُ أعشق أبي والأشجار.
أبي أيضا كان يعشق الأشجار، وكان يتمنى لو أنه لا يقطعها. ولكن كان يتوجب عليه أن يحصل على المال، وهكذا كان يحصل عليه منها.
جدي أيضا كان يحب أبي، على الرغم من أبي لم يزره تقريبا خلال الفترة التي كانت فيها جدتي ما تزال على قيد الحياة، وخلال الفترات القليلة والسريعة التي كان يذهب فيها لم يكن يعثر على ما يقوله لهما. كان جدي يقول عنه بأنه ليس سيء النية، ولكنها طبيعته.
جدي كان يحكي أشياء كثيرة. جدتي كانت تتمتع بصحة جيدة، ولكنها ماتت بصفة مفاجئة، في الوقت الذي لم يكن من أحد ينتظر ذلك. جدي وجدتي كانا مُزارِعَين في تلك الفترة، القرية التي كانا يقطنانها من قبل تعرضت لفيضان. فيضان متعَمَّد، بلى. تم تشييد سد، ثم أُغلِقَت عيون السدّ, فاختفت القرية، ولكن السكان لم يموتوا، لقد غادروها إلى قرى أخرى وإلى منازل أخرى.

في الفترة سقط مريضا. لم يكن يعرف بأنه مريض، كان يعتقد بأنها حالة عابرة. في البداية أحسّ بالوهن في معصمه الأيسر. كان يعتقد بأنه قام بحركة غير لائقة. ولكن هذا الألم لم يتوقف مع الزمن، بل إن الألم انتقل إلى الأصابع، فلم يعد يستطيع يفرق بينها ولا أن يطويها، يده أصبحت ثقيلة ومنتفخة. بِيَد واحدة لم يعد يستطيع أن يتناول وسائله، على الرغم من أن يده اليمنى كانت تلتقط جيدا المطرقة أو الإزميل. لقد كانت تنقصه اليد اليسرى كي يستطيع العمل. كان يقول ساخرا بأنه لم يكن ينقصه غير هذا.
ألحت جدتي عليه كي يذهب لاستشارة الطبيب، انتهى به الأمر إلى الإذعان، ولكن بعد أن كان الوهن قد اكتسح الساعد ثم اليد الأخرى. لأنه لم يثق مطلقا في الأطباء فهو لم يلتجئ أبدا إليهم من قبلُ. بعث به الطبيب إلى طبيب آخر، وهذا الأخير أرسل به إلى المستشفى. ارتاد المستشفى ما يزيد على عشرة مرات، أعطيت له الكينين ومَرْهَم البَلَسَان بل وأُجريت له عدة عمليات نقل الدم، ولكن تم إخباره بأن حالته ستزداد سوءا.
في تلك الفترة لم يكن يُريدُ أن يُصدِّقَ الأمرَ، ولكنه الآن يعرف ما ينتظره: لقد كان الأمر يتعلق بشيء ينتشر في الجسم، مثل لبلاب على حائط. كان هذا الشيء ينتشر ببطء، ولكن من دون تراجع. كان يحس به يتقدم، ويختط طريقا إلى رأسه، ثقل ضخم كان يثقل كتفيه وكانت الآلامُ تجتاح قفاه بمجرد تحريك عنقه. ولكنّ الحديث لم يكن يُكلّفه في شيء، وهكذا كان يتحدث، كان يتذكر رحيل كل سكان القرية التي تعرضت للفيضان، ورحيله من المنزل الذي عاش فيه ثمانية وأربعين سنة، والذي وُلِد فيه أبي.
قال جدي بأن الماء وصل، فجأة، وغطّى كل شيء. في لحظة اجتاح الشوارع والأبواب ونوافذ المنازل وكذلك السقوف والمداخن. كل شيء تم ابتلاعُهُ، الشوارع والممرات الأدراج والإسطبلات والأزهار في الشرفات. لأن السكان لم يستطيعوا حمل كلّ شيء معهم، وجَدّها بنفسه ترك أصيص أزهار الجيرانيوم الحمراء في كل جانب من النوافذ.
ولكني لم أكن أستطيع أن أُصدّق أن الأمور سارت على هذا الشكل، بهذه السرعة، كما لو أن الله فتح السماء وأغرق العالَم، لأنه لا يوجد من أحد، سوى الله، قادر على إرسال هذا الكم من المياه. كان جدي على خطأ، أو أنهم كذبوا عليه. إن كل شيء، بالتأكيد، حصل ببطء، أنا أرى المياه تجري مثل جدول(أفكر في الأمر ليلا، حينما لا أنام كي أنصت للمطر)، ثم تتضخم وتصبح مضطربة ومغتاظة مثل نهر، حينما يغضب النهر ويزمجر ويُغرق الأراضي، فيهرب الكل من أمامه، الناس والماشية والخيول والبغال والكلاب وقطعان البقر وقطعان الغنم والماعز، الرجال والمناجل على الأكتاف والنساء بين أذرعهن أطفالهن، بينما أطفال آخرون يتعثرون فيتم جرُّهم من أيديهم-ولكن كان لديهم الوقتُ للهرب لأن الماء لم يقتل أحدا، كما قال جدي-، كنت أرى الماءَ وهو يتَصَاعَد، مغطيا الشوارع وصاعدا إلى الأبواب والنوافذ، صاعدا إلى المطبخ إلى الفرن إلى عتبة الأبواب إلى أزهار النوافذ، ثم إلى ما فوق المنازل، بحيث أن القرية كانت تتواجد في القاع مثل كومة من المَحَار، من الحجارة أو من العظام.
على السطح كوّن الماءُ مدى واسعا مثل بحر. كان يسمع صوته، كان الماء يتكلم. ولكن القرية ظلت صامتة، فلم يكن من شيء سوى صوت الماء، القرية ظلت بكماء، مكانا للموتى. في القاع، في القاع.
إلا أنّه حين فُتِحَت عُيُونُ السدّ من جديد وبدأ الماء في الهبوط، كان يمكن للناس أن يعودوا، قال جدي. كان هذا يحدُثُ في بعض السنين.
إنه لا يستطيع أن يعود الآن، ولم يعود أبدا. وهذا أفضل، من دون شك، كي لا يرى الخسائر، والقرية التي أصلحت قاحلة، والشوارع المقفرة والأحجار والحيطان والسقوف المُقْتَلَعَة، لأن كثيراً من الأشياء، بطبيعة الحال، ذهبت مع التيار، ولكن الحياة هكذا، كثير من الأشياء تسير مع التيار، ندير الرأس فتختفي الأشياء بصفة نهائية، والناس يختفون كذلك.
إلا أنني تصورتُ بأن الأمر كان كما لو أن الماء، وهو يغطي القرية، كان يُحافظ عليها إلى الأبد. كنت أستطيع تخيل جدتي وهي تواصل الإقامة في بيتها، تأتي من وقت لآخر إلى النافذة في المساء، وهي تنظر جدي كي يتناولا طعام العشاء. كنت أستطيع أن أتخيل. كنت أتعلم أشياء كثيرة مع جدي.
المدرسة وحدها هي التي لم أكن أتعلم فيها شيئا. إلا أن أبي قرر مع ذلك أن أعود إليها مرة واحدة في الأسبوع، بينما يظل هو في البيت مع أمي وجدي.
جاءتني رغبة في الهروب أو الاختباء كي لا أُطيع أبي. في المساء، بكيت، لأن كل شيء سيعود إلى ما كان عليه.
طلبتْ مني المُدرِّسة أن أقول لها ما الذي كُتِبَ على السبورة السوداء، ولكني نظرتُ ولم أفهم شيئا. سألتْ آخرين، فأجابوها على الفور: "مستـ-ديرة"، "نـ-هـ-ر"، "جـ-د-و-ل".
حين ذلك ضربَتْنِي المُدرِّسة على راحتي يدي، وأرسلتني إلى الركن، واضِعة على رأسي قبعة حمار. أدرت وجهي صوب الحائط كي أخفيه، لكنها أمرتني بأن أقلب وجهي، وحين ذلك أجهشت بالبكاء، لأنهم كانوا يسخرون مني ولأن يدي المنتفخة كانت تؤلمني.
كان "جْواو" و"فوستينو"، في الصف الأول، يحركان يديهما فوق رأسيهما، مثل آذان ثم كانا يصرخان في الساحة حولي: "هَيْ، حمار! هي هان، هي هان"، حاولت الهروب، ولكنهما كانا يعدوان خلفي بسرعة فيمسكان بي، حين ذلك تعثرت فهويت.
فقدتُ قبقابا، أو أنهما أخفياه، ولم أعثر عليه أبدا، فرجعتُ إلى البيت بِرِجْل حافية.
ولكن جدي قال لي بأن قبقابا ناقصا أو زائدا ليس بالأمر الخطير. أعطاني تقويما كي أنظر الصور، وحكى لي بأنه كان يتقن العزف على إحدى الآلات، على الرغم من أنه لا يستطيع الآن العزف بصفة نهائية، لأنّ النَّفَس ينقصه. حينما كان صغيرا، مُنِحَت له آلة. كانت تسمى بـ"الهارمونيكا". هي أول آلة حصل عليها، وهو الذي ابتدعها: كان الأمر يتعلق بِمُشْط صغيرة، مُغطّاة بِوَرَق سيلّوفان. حينما كان ينفخ فوقها، كان الورقُ يغني.
حكيتُ له بأنه في ذلك اليوم، أثناء فترة الاستراحة، قام "جواو" و"فوستينو" بالنطّ حول "زِي بولو"، وبأنهما قالا بأن أخته ستذهب للقاء "سيرافيم داس كاناس" فطفق الجميع في الضحك وفي الصراخ، وهم يضربون معاصمهم براحة أيديهم: "أختك وسيرافيم، أختك وسيرافيم-يـم-يـم". وقال "روي" بأنه بسبب "سيرافيم" فإن زوج "بالميرا" كان...- ثم وضع اثنين من أصابعه على جبهته، فاستهزأ "ألبيرتينو كوينتاس" وضربه، لأنه ليس من اللائق التفوه بهذه الأشياء.
حرّكت "جوزيفا" تنورتها حول "زي بولو" وغنت: "آه، يا "لوريندينها"، برتقالى، برتقالة، من لا يتمتع بالحب فإنه سيَهُمُّهُم بسرعة"، أطلقوا كثيرا من صيحات الاستهجان والمزاح وكرروا بأن أخته لها علاقة بـ"سيرافيم".
حين أذهب إلى الحانوت أسمع كثيرا من الأشياء السيئة تُرْوَى عن "سيرافيم":
قالت "أديليد بينتو" لـ"فيرناندا كاندياس": "إن ما يربَحُه في النهار، يخسره في اللعب في تلك الليلة. إنه لا يساوي شيئا، هذا "سيرافيم داس كاناس" خارج لسانه الفاتن." ولكن "ماريا سالفادا"، تصدت للحديث وقالت: "ولكن هذا لا يساعد على العيش، ثم إن الفتنة التي تصدر منه وحديثه المُنمَّق ليذهب مع الشيطان." قالت "أدليد بينتو" إنه يَدينُ بالمال لكل الناس، كما أن "زي" الصياد لا يثق فيه. قالت "فيليسبيلا رابوزو": "يُقال بأنهُ لا يعطي شيئا لـ"موريسيا"، ولو قليلا من المال لإطعام الصغيرة." قالت "سالفادا"، ساخرةً: "نعم، "موريسيا" المسكينة، هي ضحية أخرى." ولكن "أوجينيا" قالت محتجّة: "ولكن النساء ما زلن ينظُرْن إليه. إن ما فعله لـ"موريسيا" لا يكفي. مَنْ يدري! إنهن يُرِدْنَ جميعا السقوط في نفس المصير. إنه يبدأ في إغوائهنّ فيسقُطْن في شباكه كما الذباب." قالت "أدليد": "لست أدري ما الذي يملكه اكثر من الآخرين. عدا جانبه؟ السافل." حينها قالت "فيرناندا كاندياس" متنهدة: "مسكينات هذه الفتيات اللواتي يَثِقْن في مثل هؤلاء الرجال."
حين أذهب إلى المقهى لشراء النبيذ، أسمعُ الناس وهم يَحكون:
قال "كروز" :"لقد أراد، مرة أخرى، أن يستدين من "باربيتوس"". قال "كانديدو موتينهو" ساخرا: "إنه يؤكد بأنه سوف يرث، وقد طلب حقَّهُ." صرخ "كارلوس"ـ بسخرية: "نعم، أنا أومن بهذا، كما أُومن بالسيدة العذراء". قال "بِيَاتو بوردالو": "هذا الشخص، لنْ يتأدَّبَ إلا حين سيغادر هذه الحياة." تدخل "كارلوس"، قائلا: "حتى بعد موته، حتى ولو أن ستة من أصابِعِه تحت الأرض، فإنه سَيُواصِلُ المُقامَرَة بأمواله وأموال الآخرين".
كنتُ أهيِّئُ الطعام وأُطْعِم جدي، لأن يديه كانتا تضطربان ولم يَعُدْ يستطيع الإمساك بالمِلْعَقَة. كان أبي يساعده على ارتداء ملابسه ويغسله ويظل صامتاً، يشرب النبيذ في المساء إلى أن ينام بالقرب من الموقد، أمّا أمي فقد واصلتْ الهروب من البيت والاختفاء تحت الأشجار أو كانت تظل مسمرة في النافذة، رزمة الثياب خلف الباب، ونظرها مُسَمَّرٌ على الطريق.
أنا أيضا كانت تنتابني رغبات في الهروب، كنتُ أبكي في الليل تحت شراشفي ولم تكن عندي رغبة في الحديث مع أحد.

أيام الآحاد، حين كانت أمي تحس بتحسن في صحتها كانت تصطحبني إلى القُدَّاس. كان "سيرافيم" حاضرا بشكل دائم لدى خُروجِنَا، محاطا بِرِجال آخَرين، ولكنه لم يكن يُوجِّهُ لنَا الحديثَ أبدا. أمي أيضا لم تَكُن تتفوه بشيء، وحين كنا نصل بالقرب منهم، كانت تَمُدُّ لي على الفور يَدَهَا وتَحُثُّ الخُطى وهي تجرني.
اليوم، لم تذهب أمي إلى القداس، كانت تحس بصداع في رأسها، فظلت مضطجعة على السرير، وجاءت "ماريا سالفادا" تبحث عني. لدى خروجنا من القُدَّاس، جاء "سيرافيم" لرؤيتي ومَدَّ لي علبة.
قال لي:
- إنه دواء من أجل جدك. لا تنسي أن تعطيه لأمك، فالأمر مستعجل.
لم أعط الدواء لأمي، لأني لم أكن أحب "سيرافيم"، بل إني مددته حالا لجدي. قام جدي بِشَمّ العلبة ولكنه لم يفتحها، وأعطاها لأُمِّي التي بدتْ ساخطة ودستها في جيبها.
قالت أمي لاحقا، ومن دون أن تنظر إلينا:
- لقد صنعه الصيدليّ "ألفياو". يقال إنه دواءٌ فعّال ضدّ الارتعاشات.
قبل جدي تجريب الدواء، فأعدَّتْ له أمّي شاياً شرِبَهُ في جُرْعَات صغيرة دون أن يتركه يبرد.
في الأيام التي تلتْ كان وجهُ أمي مُشْرِقاً. وبدَا وجهُها يشبه، بِشَكلٍ أكبَرَ، وجه البورتريه، حين كانت تَرقُص في الحفلات بِبِدلتها الجديدة. في هذه الفترة لم تكن تربط شعرها، ولم تكن تَعقد مِنديلَهَا خلف قفاها، كما تفعل الآن، ولم تكن تلبَس الثيابَ السوداء والرمادية، وهُمَا لونان رأيتهما دائما على جسدها، كانت تضع تنورات طائرة ملونة، وقصمانا ضيِّقَة بقامتها مربوطة بِشَرَائط، وكانت تعشق الضحك والرقص. حين يُمعِن المرءُ النظرَ في هذا البورتريه يخال بأن الجوقة الموسيقية منهمكة في الإنشاد.
جدي يتَذَكَّرُ أيضا أنه ارتاد كثيرا من حفلات القرية التي كان يعيشُ فيها. قال بأن الأقنعة كانت تتَعَاقَب، حيث كان "رامادا" يعزف على الأكورديون بينما يقوم "كزافيير" بالعزف على مِزمَار القِرْبَة، وكانت ثمَّةَ طبول وآلات موسيقية أخرى، وكان الحضور يُغنُّون ويَرقُصُون. كان الأكورديون هو الآلة التي تُسْمَعُ بِشَكل أكبر، وكان "رامادا" يبدأ في العزف في قمة القرية ثم في أسفل الكنيسة، وكان موكبٌ من الأطفال ينزلون خلفه. بعد ذلك كان سَيْلُ الشباب والنساء اليافعات وكذلك الرجال والنساء يزداد، وكلهم يهرعون إلى صوت الأكورديون ويبدأون في الرقص. كانت الجموع تصل إلى ساحة السوق، وحدهم العجزة يكتفون بالنظر من خِلال نوافِذِهم.
طلب مني جدّي أن آخذ معي قطا من الخزف ومرآة وعلبة زجاجية على شكل هِلال في كيس ملابس. قال لي بأن هذه الحوائج كانت لِجَدَّتِي وهي الآن هدية لأُمّي وَلِي. لم تُصْدِرْ أُمّي علامة شُكْر، أما أنا فقد احمرّ وجهي من المتعة، لأني لم أكن متعودة على تلقي الهَدَايَا.
أول هدية كانت عبارة عن تقويم. كان اهتمامي يزداد كلَّ يوم بالصُّوَر، فكنتُ أنظر إليها طويلا إلى أن حفظتُهَا عن ظهر قَلب. كانت بعض الصور تتضمن كتابات تحتها، جدي كان يُريني إيَّاها بإصبعه. كانت الحروفُ تقولُ نفسَ ما تقولُهُ الصُّوَرُ. وهكذا إذا كانت الصورة، مثلاً، تُرِي كلبَ "بلارمينو" فإن الحروف الموجدة تحت الصورة تُردِّدُ: "كلب "بلارمينو"". بالإمكان رؤية الصُّوَر والحروف، أما أنا فقد كنتُ أفضل الصُّوَرَ دائما.
ذاتَ يوم نظرتُ إلى صورة، ثم إلى الحُرُوف الموجودة تحتَهَا، ثم نَظَرْتُ إلى الصورة من جديد، حين ذلك تجمعتْ الحروف في أكوام صغيرة حين نظرتُ إليها من جديد. كل كومة صغيرة كانت تعني شيئا، إحداها كانت تعني كلبا، والأخرى تعني منزلا. احمرَّ وجهي من المفاجأة وأحسستُ تقريبا بالاختناق. ضحك جدّي ورأيتُ بأني لا أستطيعُ العودة إلى الوراء، إذ لم أكن أستطيع أن أرى الحروف من دون قراءتها. حدث معي نفسُ الشيء مع كل ما مكان يظهر أمام عينَيَّ، من لَصَائق الزجاجات وعلب عود الثِّقَاب أو علب السردين وعناوين المَتَاجِر وأسماء الشوارع على الحيطان. هكذا طفقتُ أقرأُ مقاطع في التقويم، أشياء صغيرة هنا وهناك.

أحسستُ بداخلي برغبة في الفُضُول والافتتان، حتى حينما كان يَغيبُ عنّي المعنى.
وضعتُ القطّ الخزفي على الرفّ وكذلك المرآة والعُلْبَة الهلالية الشكل. أدخلت التقويم في الدُّرْج الكبير لِخِزانَة الثياب، في أقصى مكان منه.
في هذه اللحظة جاءتني هذه الفكرة: لقد كانت أمي ترقُصُ مع ""سيرافيم"، في الوقت الذي لم أكن قد وُلدتُ فيه بعدُ.
في تلك الليلة، رأيتُ فيما يرى النائم بأني أسمع صوت الأكورديون الذي ينزل من الشارع وكذلك صوتا يقول: هيا ارقصي. وانصرف هذا الصوتُ محمولا بالموسيقى، وكانت أرْجُل الحاضرين بالكاد تمس الأرض، كما لو أنهم كانوا يطيرون، كانوا يرقصُون في كل حَدَب وصوْب، على رَمْل الكُثبان على شاطئ الأمواج، كانوا يرقصون ويزدادون رقصا فوق الوِهَاد الشديدة الانحدار إلى أن يَصِلُوا إلى حفا البحر، وهناك تزل أقدامهم فيسقطُون في البحر.
استيقظتُ من نومي وأحسستُ بأن الحلمَ كان حقيقيا. تذكرتُ بُورتْريها لـ"سيرافيم" في أعماق الدُّرْج الكبير لِخِزانة الثياب، في المكان الذي كانت فيه قطعةُ لوحةٍ مرفوعة. رأيتُ البورتريه منذ فترة طويلة، ثم نسيتُهُ. هل كان حُلما؟
توجهتُ إلى عين المكان للتحقق من وُجُودِهِ، وكان لا يزال في مكانه. كان عبارة عن بورتريه صغير، بِطُول ظُفْر، وكان لابسا ثيابا عسكرية. والآن، لم يعُد يلبس هذه الثياب قطّ، ولكن الوجهَ هو نفسُه حين ينتظر أمام خروج الناس من القُدّاس على الدرجات الأخيرة لِفِنَاء الكنيسة.
- أَوِي. قال لي يوم الأحد المنصرم، حينما مررتُ أمامه وأنا أشُدُّ على يد "سالفادا". لم أَرُدَّ عليه، لأني فكرتُ فيما حَكَتْهُ "فيليسبيلا" و"أدليد" والنساء الأخريات.
قال لي، على وَجه السرعة:
- غداً، سأعود إلى "ألْفْياوْ" وسأحضر الدواء لجدِّكِ. عليك أن تمري على بيتي للبحث عنه.
واصلتُ طريقي من دون الإجابة، وفي اليوم التالي لم أتوَجَّهْ إلى بيته للبحث عن الدواء.
بعد فترة وجيزة انتكست صحة أمي مرة أخرى، وقَدَّتْ، من جديد معصميها. فنزفت كثيرا، وأصبحت شاحبة جداً أكثر من المرّات الأخرى، فجاءت "لورينسا" و"فيرناندا كاندياش" و"كارلوس بوردالو" وقالوا لأبي بأنه من الأفضل أن يحمل أمي إلى مستشفى الأمراض العقلية، لأننا لا نستطيع أن نحرسها باستمرار.
انتاب جدي هلعٌ، وطفق يطوف مرات عديدة حول البيت، ورأسه مُنكَّسَةٌ. كان مثيرا منظرُهُ، كان يتقدم في مشيته بصعوبة بالغة، وكانت ذراعاه بَدَل أن تتحرَّكَا إلى الأمام تظلان ممددتين على طول جسمه كما لو أنهما لا تنتميان له. كما أن ساقيه، أيضا، فقَدَتَا من صلابَتهما. كان يبدو كما لو أن الأرضَ تتملَّصُ تحت قدميه، كما لو ساقيه قصيرتان بالنسبة لوزنه أو أنهما تحولتا إلى مطاط.
جلس في نهاية المطاف على كرسي، على عتبة الباب، كما اعتادت أُمّي أن تفعل، وبدا لي مذعورا وضائعا مثلها.
حدثته ببعض الكلمات على أمل أن يعود إلى حاله. حكيتُ له ما قاله لي "سيرافيم" عن الأدوية، وقلت له بأننا نود أن نترك "سيرافيم" بعيدا عنا، لأنه لا قيمة له، كما أن كل الناس يحكون عنه هذا.
لم يكنْ جدّي موافقا. قال لي بأن هذا الشخص يمكنه أن يَكونَ كل ما يحكونه عنه إلاّ أنه رجلٌ طيب. لقد ساهم الدواء في تسكين آلامه، ولهذا كان من المستعجل أن أذهب للبحث عنه. قال لي بأنه يتوجب عليّ أن أقطع حقل الزيتون، وبالتالي ليست ثمة حاجة لاجتياز القرية وتضييع الوقت في الحديث مع كل الناس.
لم أُحدثِّه عن البورتريه المخفي في الدرج الكبير في خزانة الثياب، لأن هذا بدا لي حلما. على الرغم من أن الأمر كان حقيقة.
أخذت طريقي، اجتزت أشجار الزيتون وأشجار الصنوبر البرية، متجنبة النهر والمنازل الموجودة على طول الضّفّة. منزلُنا كان الأخير، منعزلا شيئا ما. أما هو فقد كان يسكن من الجانب الآخر من القرية، بعيدا شيئا ما عن المنازل الأولى. وأول شيء يبدو للناظر، حين ينزل من حقول الزيتون، هو سقف بيته الأحمر، ومن خلال الباب التي كانت دائما مفتوحة، وَمْض الكُور.
لقد كان أولُ شيء أراه هو النار ووجهُهُ الذي كان أمام النار. حين اقتربتُ منه، سمعتُ المطرقة وهي تطرق على السندان. كان الطَّرْق يتصاعَد، أكثر قوة. كلمتُهُ من الباب، ولكنه لم يسمع صوتي، إذْ أن الطرقَ كان يُغطي صوتي بشكل نهائي.
انتظرتُ قليلا، ولكنه لم يتوقف، كان يحني ذراعيه على النار ويضرب على الحديد، من دون خوف الاحتراق. كانت رِجلاه حافيتيْن وكان عندي إحساسٌ بأنه يستطيع المشيَ على الجَمْر دون أن يحسّ بالألم.
كان الحديد يلمع، وكان أحمرَ مثل النار. والناظرُ إليه طويلا يظلُّ مُسمَّرا ومُقيَّدا.
أخيراً لَمَحَنِي. أصدر صيحة تعجب "وا!". نزع ثوبه الجلدي ثم خرج عبر باب الحديقة، نصفه الأعلى عاريا، فتح صنبور الماء وغسل يديه وذراعيه ووجهه. ثم غسل كتفيه ونصفه الأعلى.
لم يتبق أي عََرَق على جلده حين اقترب مني، وكانت منشفة لما تزل حول عنقه.
- أتيتِ إلى هنا بسبب جدكِ.
كان كلامه توكيدا وليس سؤالا.
لم أُجِبْ واجتزتُ العتبة خلفه. توقفتُ بالقرب من النار، مع رغبة في مدّ يديَّ ولمس اللهب. كنت أريد أن أراه، من جديد، يطرق الحديد، ويصارع النار كما لو أنه يريد ترويض حيوان.
لكنه لم يعاود العمل. فتح درجاً وسحب منه علبة شبيهة تماما بالأخرى، مربوطة بِخَيط من نفس اللون. طلب مني أن أعطيها لأمي لأن الأمر مستعجل.
لم أُعْطِهَا لأمي، بل لِجدّي مُبَاشَرَة. وحدثَ ما حدث في المرة السابقة، إذ أنّ جدي لم يفتح العلبة ومَدَّها لأمي. وضعتها أمي في جيب قميصها، واختفت في أقصى المنزل وهي تصرخ بمرح من المطبخ:
- سوف أحضر لك الشاي حالا.
هذه الليلة قرر جدي النوم في خزّان الذرة. قال بأنه يريد أن يفعل هذا من أجل الصلاة والتأمل.
حين رأيتُهُ في الصباح، كان مظهره يوحي وكأنه ميتٌ. كان أبيضَ مثل الجير(في الفترة الأخيرة أصبح أكثر شحوبا) واضطررت إلى مساعدته كي لا يسقط. نظرتُ إلى الصليب فوق السطح مُقَطَّعا في اتجاه السماء، كما لو أن مُستوَدَعَ الغلال قبراً، فخشيتُ أن أموت.

حين ذلك قال جدي:
- إن من يتواجد معها، هي الأرواحُ. على أمك أن تعرف ماذا تريد هذه الأرواح. يجب عليها أن تذهبَ لِلِقائها، وحيدةً، في الليل. وإلا فإنها لن تتركها في سلام.
تساءلتُ:
- ما هي الأرواح؟
قال لي:
- إنها ملائكة.
فسألتُه من جديد، لأني كنتُ خائفة على أمي:
- طيبة أم شريرة؟
طأطأ جدي رأسه، كما لو أن كل هذا لا معنى له.
قال معيدا ما قاله قبل قليل:
- إنها ملائكة.
اعتقدتُ أن الملائكة تضربها، وتواصل ضربها، وأنها تعذَبها وأنها تغرز عينيْها بالإبر، الملائكة أم الأرواح، يوجد الطيب والشرير من بينها، ولكن جدي حكّ رأسَهُ وهو يردد بأنها ملائكة وبأنه يتوجب على أمي الذهاب للقائها. قال جدي بأنه حين يقتضي الأمر الذهاب للقائها فعلينا أن نطيع، وإلا فإن شيئاً ما سيئا سيحدث. إننا لا نستطيع أن نعصي الملائكة.
لكني لم أَكُن مقتنعةً واستمرّ خوفي. وماذا لو أن أمي ضاعتْ أو إذا ما لو تعثر على الطريق؟ وإذا ما زلّت فوق الحجارة، وإذا ما سقطت على الأشواكن وإذا ما وجدن نفسها وجها لوجه أمام الذئاب، وماذا لو أنها زلت قدماها في وَهْدَة؟
ولكن جدي طأطأ رأسَهُ. قال بأنها ستكون في أمان، لأنّ الأرواحَ سترافقها وتقودُهَا. الملائكة.
أنا أذهب إلى التعاليم المسيحية وإلى القُدَّاس، ومعنى هذا أنني أيضا أعرف الملائكة. إنها تشبه الريحَ والعصافير، إنها مثل نَفَسٍ يمسّ الوجهَ مسّا خفيفاً. إنها تَنْقُلُ رسائلَ الله.
كما يوجد الكروبيون. وكذلك يوجد الساروفيم(الملائكة المقرَّبون) الذين يمتلكون ستة أجنحة، اثنان من أجل تغطية وجوهها واثنان لتغطية أرجلها واثنان للطيران. أنا متأكدة أنني سمعت هذا عن السيرافيم. إنها تمسك الجمر في أيديها دون أن تحترق.
قبل أن أنام أُفكّر في الساروفيم. ولكني لا أنجح في رؤيتها، كل ما أراه يبقى هو وجه "سيرافيم داس كاناس"، على الدرج الأخير للكنيسة مُسرَّح الشَّعْر باللمعين وتبدو عيناه ضاحكتيْن وترسلان شررا. حين أنام أراهُ جالسا بالقرب من طاولة المطبخ وهو يلعب الورق مع أمي وهو الذي يفوز دائما. ربما هو السبب الذي يدفعها للبكاء.
بدأت أمي تخرج من البيت ليلا مع تغيرات القمر. في بعض الأحيان كانت تخرجُ مع كل إطلالة هلال جديد. في اليوم الأول لتغير القمر.

لدى عودتها لا تجد أحدا حولها. إذ أنه لا وُجودَ لنا نحن، لا وجود للمنزل ولا وجود للبئر ولا للكلب ولا للأرانب ولا للدجاج. لا وجود لأي شيء. تجلس بالقرب من جدي على عتبة الباب وهي تمعن النظر في الطريق. ولكنها لم تعاود الهروب ولا تقطيع معصميها. وخلافاً لجدي فقد بدا أن حالتها تتحسن.
ولكنَّ أبي انفجر غاضبا. قال صارخا بأنّ جدي ما هو إلا خنزير عجوز وخنزير قذرٌ، وبأنه منهمك في مكافأة شخص آخر لمعالجة مرضِه وبأنه لا يهمه إن كان يُهينُ ابنه، لأنه يعرف كثيرا عن الملائكة والزّبرقان، ثم سحب مِجْرَفَة فرن الخبز بقوة كبيرة تصورت معها أنه سيقتل جدي أو أمي، ولكن جدي أصدر صرخة كبيرة بحيث إن أبي توقف فجأة. فترك المجرفة تتساقط من يده، واعتمد على الحائط وانزلق على الأرض كما لو أنه سيُغْشى عليه. ظل جالسا خلال فترة طويلة، ورأسه بين ركبتيه، ثمّ قام بعدها بصفق الباب كي لا يعود إلى البيت إلا بعد بضعة أيام.
بعد خروجه فتحتُ الباب ونظرتُ مليا إلى الطريق, كان الليل حالكا ولم يكن ممكنا رؤية نجمة واحدة في السماء.
تَسَاءَلْتُ حول ما إذا كان هو الآخر سيلتقي بالملائكة. ولكن من كل الجهات لمْ يَكُن يُرَى سوى الليل. اعتقدتُ بأنه في ما يخصه فإنه لن يلتقي بالملائكة في الطريق.
أغلقتُ الباب وسمعتُ جدي يقول بأنّ أُمّي إذا لم تذهبْ في كل تغير للقمر فهي التي ستتغير من جديد. ستُصبِح مجنونة وستموت.
في الليل، حينما أخرج لفكّ قيد الكلب، اعتدتُ على النظر إلى القمر وهو يضمحلّ وينقص في السماء، قمر مُكسَّرٌ يمتلئ ببطء من جديد، مثلما الماء وهو يرتفع في جرّة مستديرة. أحيانا أخرى أنظر إليه من كُوَّة نافذة المطبخ، يبدو لي وقد حطّ على إطار، مثل عصفور.
حينما يتغير القمر تخرج أمي. تعود إلى البيت في الصباح، ثيابها تنبعث منها رائحة الدخان. لا تترك هذه الثياب على حبل الغسيل، بل تقوم بوضعها حالا في الخزانة. خلال عدة أيام حين نفتح الباب نشمّ في الهواء رائحة الدخان ورائحة الراتنج والخشب المحروق.
خلال الليالي التي تخرج فيها، أقوم أنا بالجلوس في مكانها وأنظر إلى النار. الحطب يلتوي ويصفر مثل ثعبان ويتشَبَّك. تتراقص النيران لكنْ من دون التخلي أبدا عن ما تلمسه، إنها تلتف وتتكور، ثم تلتصق وتلتحم كما لو أن بعضَهَا يفترس البعضَ الآخر. الجذوع السميكة والخشنة تتقعر، وينتهي بها الأمر إلى أن تصبح أكثر رقة من دِقَاق الحَطَب أو من سُويْقَة الكرز. وفي الأخير تتلاشى في النار وتطير.
أخيرا قال جدي إنها ساعة النوم، وهو يحرك رأسه بِرِفْق وموقظا أبي الذي كان نائما.
سحب جدي من المَوْقِد الحَطَبَة الأخيرة وأطفأها بأن ضربها على الأرض ثم رش عليها الماء. طقطق الحطب، وخرج منه الدُّخانُ والماء رقص على السطح على شكل قطرات صغيرة ثم اختفى. ازدادت الحطبة سوادا وبقدر ما كان يضربها، كانت تتفكك إلى جمرات متوهِّجة. كانت تشتعل في داخلها على الرغم من الماء، لأن النار هي الأقوى.
في هذا اليوم، الأحد، تحدث الكاهن في قُدّاسِهِ أيضا عن الملائكة وعن النّار.
أمَرَ أحدُ الملوك بإلقاء ثلاثة فتيان في نار متأجِّجَة: كانت ألسنة اللهب ترتفع وتنفلت وتحرق كل من كانوا بالقرب منها، ولكن ملاك الله نفخ فيها نسيما باردا مثل الندى وسط النار المتقدة، فلم تتعرض لهم النار بأذى، وطفقوا يغنون.
في هذه الفترة كنتُ متنبهة جدا للقداس لأنني كنتُ بصدد أول تناوُل للقُرْبان المُقَدَّس. كان الكاهن يقول بأنه أسعد يَوم في حياتنا.
في هذه الأثناء انتكست صحة جدي من جديد، وأصبحت ساقاه، أكثر فأكثر، ثقيلتين كان يُحِسّ بآلام في رأسه وتنميل في ساقيه، ثم بدأت تشنجات كبيرة تهزه كَنَوْبات، وحينما كانت تُصيبُه كان لا يستطيع حِراكا. كان يظل في سريره أيّاما عديدة بكاملها، وساقاه منكمشتان. كان بصره ينقصُ باستمرار، أحيانا كنتُ أقرأ له بعض قصص التقويم، وكان يحب الاستماع لأنه لم يعد يستطيع رؤية الصُّوَر.
كنت أفتح الكتاب وأقرأ ما اتفق. خِنَّوص شهر يناير يصطحب أمه إلى غرفة التدخين. الكستناء المبكرة التي تضحك استهزاءً في شهر مارس. الشمس تشرق في الساعة السابعة صباحا و55 دقيقة وتغرب في الساعة الخامسة بعد الزوال و26 دقيقة. يُسحَبُ النبيذ في الوقت البارد والجاف. تحت فِراش للدواب ساخن تُزرَع الخيار والبطيخ والفليفلة واليقطين.
كان يُوَافِقُ بِرَفِّ جفنَيْه أو يحرّك رأسَهُ قليلا ويبتسم. أُواصِل القراءةَ، أحياناً، بصوت عالٍ، قافزة على الصفحات ومتصفحة بالصدفة، حتى بعد أن يَخْلُدَ للنوم.
هكذا عثرتُ على قصة "محمد"[1]. من هو "محمد"؟ سألت عنه جدي في اليوم التالي، ولكنه لم يَكُن يعرفه.
في دروس تعليم المسيحية سألتُ عنه القسيس. "لماذا هذا السؤال؟" قال لي وهو يُقطِّبُ حاجِبَيْه. حدثتُهُ عن التقويم فطلب مني أن أُحْضِرَهُ له دونما نسيان في المرة القادمة. لم أَنْسَ، وأحضرته له، وضعه في جيبه دون أن ينبس بِبِنْت شفة.
مر وقت طويل قبل أن يعيده إليّ. كنتُ في كل مرة أتمنى في نهاية تعليم الدروس المسيحية أن يُعيده لي ويجيبني على سؤالي، ولكنه كان يأمرنا بالانصراف من دون أن يقول شيئا. ترددتُ قليلا، وفي نهاية الأمر، وبعد مرور شهر طلبتُ منه أن يعيد لي الكتاب. تمتم بين أسنانه ببعض الكلمات، بصوت فظّ. وأخيرا أَعَادَهُ إليَّ بعد أن كان اليأس قد اجتاحني وبعد انتهاء شهر ثان.
أخذتُ التقويم وأسرعتُ إلى البيت. لا يهم الآن من يكون "محمد". إن قصته تكفيني، إنها جميلةٌ مثل صوت ناقوس.
تصفحتُ التقويم مرات عديدة، باحثة في البدء إلى النهاية، إلى أن اكتشفتُ أنه تم اقتلاع صفحات منه.
بكيتُ من شدة الغضب. ضربتُ بالتقويم على الحائط كما لو أني ألقيتُهُ في وجه اللصّ- لقد كان التقويم كتابي، وهذا اللص سرق شيئا ليس له. النار تنتظر اللصوص، واجتاحتني موجة غضب. كاهنا كان أم غير كاهن.
في يوم الأحد الذي تلا، كان موضوع موعظته يدور حول مخاطر القراءات التي لا تخضع للمراقبة. التقويمات والكتب الأخرى من نفس الشاكلة، على الرغم من مظهرها البريء، مليئةٌ بالخرافات والمعتقدات العبثية ويمكنها أن تَجْرِفَنا إلى ديانات مغلوطة. يجب الاكتفاء فقط بقراءة الصحف والكتيبات التي تجيزها الكنيسةُ لأن هذه الكتب صديقةٌ للشعب وتوحي بخشية الله.
بكيتُ مرة أخرى من شدة الغضب في غرفتي، والتقويم في يدي. لا يهم من كان "محمد"، ولكن قصَّتَه تَمَلَّكَتْنِي. إن قصته تواصل تَمَلُّكِي، على الرغم من أن القسيس سرقها مني. ما أزالُ أعرف القصة، لأني تأكدتُ منها وأنا أبحث في ذاكرتي عن التفاصيل.
قال "محمد" إن الوحي هو شيءٌ جاءه من فوق. شيءٌ ما كان يلمسه مثل كلام مسموع بصفة مفاجئة. ثم بعدها لم يَعُدِ الأمرُ كما كان في السابق. كلامٌ كان يشبه ومضةً ثم فتح نافذة على العالَم.
حين أحس بمجيء الوحي، أخفى وجهه، كانت الكلمةُ تصعَقُهُ فكان يَرْشَحُ بقطرات كبيرة كما لو أن عبئا ثقيلا يسحقه.
أحيانا تأتي الكلمة مثل صوت ناقوس. ثم تختفي، ولكنه يكون قد فهم الأمر. أحيانا يأتي الملاك على صور بشر فيتوجه نحوه ويكلمه.
كان "محمد" نائما حين جاء الملاك "جبريل" يبحث عنه ويقوده، بسرعة تضاهي سرعة الومضة، إلى السماء الأولى وإلى كل السماوات الأخرى. ارتفع "محمد" عاليا إلى درجة سماعه خفق أجنحة الملائكة فوق رأسه. جاب السماوات في خمسمائة سنة[2]. كان ثمة سماء من فولاذ، وأخرى من ذهب وأخرى من حجارة ثمينة. وفي الداخل، كانت تتواجد ملائكة من نار.
كانت هناك كثيرٌ من الأشياء، وحتى وجه الله، إلى أن جاءت اللحظة التي قام فيها الملاك بإعادته إلى الأرض. في ومضة واحدة عَبَرَ كُلَّ العوالم إلى أن وصل إلى المكان الذي جاء الملاك ليأخذه منه.
يحكى بأنه حين توجه إلى السماوات اصطدم بكأس ماء، وحين انسكب الماء وسقط الكأس على الأرض، كان قد عاد من سفره السماوي.
كنتُ أعرفُ هذه القصة عن ظهر قلب، وأحس بالانتشاء، وأحيانا كنتُ أقلبها، مرت عديدة، في رأسي، والقسيس لا يستطيع أن يفعل شيئا ضدي. القصة ستظل معي على الرغم من أنه اقتلع الصفحات. قصة اللحظة حيث تتعرض فيها حياة كائنٍ مَا للتحول.
فكرتُ فيها ليلَ نهار، لأن أسعد يوم في حياتي كان قريبا، فأنا أيضا سأتلقى رؤيا. سيمس الله جسدي ويغير حياتي إلى الأبد.
في القُدَّاس، كنتُ شاردة الفكر، ولم أكن أنصت للقسيس. كان يتحدث بصوتٍ بشري بينما الملائكة تتحدث فيما بينها بأصوات ترنّ مثل أصوات الناقوس.

الشمسُ تخترق الألواح الزجاجية المُلوَّنَة وهي تعكِس على الأرض ظِلاَلَهَا الزرقاء والحمراء. لهيب الشموع الذي تهتز على المَذْبَح، وموسيقى الأُرْغُن تتصاعد إلى شمعدان السقف الكبير والمُشَعَّب، والحضورُ يرددون بصوت واحد: "آه يا ملائكة، غني معنا، آه يا ملائكة سبِّحي بحمد الله."
الملائكة الساطعة والقوية مثل اللهب، تأتي صوبي مثل الريح، فأطير على أجنحتها من سماء إلى أخرى. سماءٌ من ذهب، والأخرى من أحجار ثمينة. وحولنا أسمعُ خبْطاَ مُدوِّيّا لخفق الأجنحة، ولكنه في نفس الوقت موسيقى هادئةٌ مثل طنين النحل. ربما توجد ملائكة زرقاء وحمراء وميضُهَا يتمَوَّجُ مثل اللهيب، وأخرى لها قوائمُ ماعز وتلمع مثل البرونز المصهور، وأخرى بأوجه حيوانية وبشرية، كما توجد ربما ملائكة بأوجه وأيدي آدميّة. أسمع لُغاتِهَا من دون حاجة إلى الكلمات، إذ النظر يكفيني. لأن ألف شيء يتحول في ثانية واحدة حين يلتقي نظري بنظر الملائكة.
أحد الملائكة منحني جسده كَسُلَّم أصعدُ عليه إلى أن أَصِلَ إلى الله. بينما مَلاكٌ آخر يمسك بين يديه قطعةً من جمرة يكون قد التقطها من المَذْبَح بِمِلْقط ويَمسّ بها شفتَيَّ.

حين ذلك سيَكون الحبيبُ فيّ وأنا فيه. خبزُ الذبيحة مسّ فمي مثل نار، أحرقها من دون أَلَم، بينما كان ينكشف وجه الله.
ولكن أسعد يوم في حياتي وصل، ومرَّ ولا شيء حدث.
كان خبز الذبيحة خفيفا مثل الغبار، فالتصق بِلِسَاني، فلمْ أُحِسَّ، تقريبا، بشيء حين ابْتَلَعْتُهُ. صلَّيْتُ كي يكشف الله عن نفسه وكي أرى نُورَهُ، ولكن لم يكن ثمة لا نور ولا وحي، باستثناء الشعلة المتمايلة للساَّهرة[3]، التي لم تتغير، تسبح على زيت الزيتون، أمام بيت القُرْبان. جوقة ساكني الخَوْرَنِيَّة يُنشدون "آه يا ملائكة، غنوا معي."، ولكن أصواتَهُم كانت نشازاً وبطيئةً، ونوطة في صفّ مَلاَمِس الأُرْغُن، حادة ضرورية، كانت صامتة. ربما شيءٌ ما تَكَسَّرَ.
في نهاية القُدّاس، كان ثمة حفل غذاء، وكل الحضور كانوا فَرِحِين، ولكني تمنيتُ أن ينتهي الأمرُ سريعاً كي أستطيع الانصراف.
في يوم الأحد التالي، لم أُكلِّفْ نفسي عناء الذهاب للقُدّاس، وتظاهرتُ بالمرض وظللتُ في فراشي، في الظلام. فكرتُ وقلت في نفسي بأن الأمر يشبه حالة أُمّي في ما مضى. ولكن تلك الحقبة أصبحت بعيدةً، الآن، لأنها لم تَعُد مريضةً. من الآن فصاعدا ترانا وتبتسم لنا، وأصبح طبعها صبورا حتّى مع جدّي الذي لم يَعُد يقوى على المشي. تدفعُ كرسيه المتحرك بالقرب من النافذة وتعطيه الطعام، ولم تَعُد قط لا متوترة الأعصاب ولا مُتْعبة.
تعود كل يوم أحد إلى الكنيسة، حيث "سيرافيم" ينتظر عند الباب كي يراها عند خروجها. ولكني قررتُ ألاّ أعودََ إلى الكنيسة، لأنه لا يوجد أيّ ملاك ينتظرني على ممرات الباب أو المذبح.
تعالوا إلى طاولة الطعام، قالت أمي، وهي تمد لي صحناً مليئا.
كرهتُهَا لأنها كانت تبدو سعيدةً بينما أسعد يوم في حياتي مرّ وكشف عن كونه يوما مثل باقي الأيام، إذا كانت هذه هي السعادة فأنا لا أريدُها، ومن الأفضل لي أن تنتهي حياتي في هذه اللحظة، لأنه ليس لها ما تمنحه لي. هكذا فكرت في يأس.
عند ذلك مسَّت الملائكة وجنتي مسّا خفيفا وأحرقتها بالنار. الملائكة الشريرة نزلت فِيَّ مثل ومضات، فمدّتْ يدي في اتجاه خزانة الثياب، فتحت فمي وملأته بِكَلِمَات تشبه جَمْرا.
إنها تحتفظ في داخلها ببورتريه "سيرافيم"، مرتديا لباسا عسكريا، يوجد بورتريه مخفيّ في أقصى الدرج الكبير، في المكان الذي يتقوَّس فيه الخشب.
ولكن الملائكة الطيبة مسّت وجنتي الأخرى مسا خفيفا، فلم أَقُلْ شيئا تحديدا. اكتفيتُ بأن تركتُ الصّحن يتساقط من يدي.
لم أتذكر بالتحديد بقية ما حدث. ما زال عندي التذكار العائم عن السطل وعن الممسحة وعن الماء المنتشر لتنظيف الوَسَخ وشظايا الخزف المبعثر وعن صوت أبي المغتاظ وهو يتحدّث عن الخسائر وعن الرعونة وصوت أُمّي وهي ترد عليه بأن الأمر ليس نهاية العالَم وبأنه ما يزال يوجد طعامٌ في القِدْر.
لا أتذكر أني سمعت أشياء أخرى، ربما كنتُ صمَّاء، بطريقة ما. ولكني أتذكر أني فتحتُ عينيّ وكان كلُّ شيء واضحا جدا كما لو أنه كان ثمة نورٌ قويّ.
رأيتُ أننا نُشكُِّلُ عائلة. أبي وأمي وجدي وأنا. مَهْمَا يَكُن فإن أمي تعود دائماً، لم تعد تتعثر في مشيتها ولم تعد تسقط من أعلى الوديان الصغيرة. لم تعد الريح تحملها، لأنها أصبحت مرتبطةً بنا.
نظرتُ إليها من جديد: كانت جميلة جدا، كما كانت في البورتريه، قبل أن أُولَدَ. وكنتُ سعيدةً بأن وُلِدْتُ.

[1] تقصد بالطبع محمد رسول الله(صلى الله عليه وسلم).
[2]في الإسراء والمعراج لا يوجد البتة حديث عن خمسمائة سنة جاب فيها النبي محمد(ص) السماوات. والأمر هنا يتعلق قط بمخيال غربي عموما، وبرتغالي فيما يخصنا نحن. الأمر مجرد قصة...
[3]المصباح الذي يترك مضيئا طوال الليل.

------
* كاتب وقاص مغربي مُقيم في فرنسا
elmezdioui@gmail.com
عبد الحميد عقار للشرق الأوسط:
اتحاد كتاب المغرب مستقل وحريص على استقلاليته
محمد المزديوي
٨ آذار (مارس) ٢٠٠٨
لا يتوقف عبد الحميد عقار عن العمل، الكتابة والاشتغال حتى الليل في مكتب اتحاد كتاب المغرب، في مقره الجديد، إذ هو رئيسه، كما أنه هو رئيس المجلة التي يصدرها الاتحاد «آفاق» وكذلك مجلة وزارة الثقافة المغربية التي تحمل اسم «الثقافة».
ثمة أشياء أخرى كثيرة يدلي فيها بدلوه، كما قال «برتولد بريشت» (في كل مسالة اتخذ موقفا). وكان هذا شعار مجلته الرائدة «الجسور» التي قرر إدريس البصري، وزير داخلية المغرب في لحظة سوداء، أن يمنعها بمعية مجلات حداثية أخرى من بينها «الثقافة المغربية» و«الزمن» و«البديل» و«المقدمة» وغيرها…
هذا الأستاذ المتخصص في الرواية المغربية، القارئ النهم لكل التراكمات المغربية والعربية من هذا الجنس الأدبي ومن غيره من الأجناس، يستطيع أن يتحدث عن كل القضايا التي تعتمل في الجسم المغربي. يهتمّ بالشأن السياسي ويهمه أن يدلي بدوره، من موقعه ككاتب ومثقف في مسائل التداول السلمي على السلطة في البلد، من حكومة التناوب والانتخابات الشفافة والحق في الاختلاف السياسي، وغيره. شجّع وبارك سياسة المصالحة في البلد من خلال طيّ صفحة مريرة وسوداء من تاريخه الحديث، ويواصل عمله في هذا المجال من خلال مساهمته كعُضوٍ في «المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان». كما أنه حريص على مساءلة الوضع الفكري والحضاري للمغرب، والعالمين العربي والإسلامي.
«كم كنتُ سعيدا أن يستقبل اتحاد كتاب المغرب المفكر والمؤرّخ عبد الله العروي في محاضرة حملت عنوان «عوائق التحديث»، يقول لنا، معبرا عن خيبة أمله لأنّ الحوار الذي أجراه اتحاد الكتاب مع المفكر المغربي الكبير لم ينل حظّه من النقاش.
«المحاضرة كانت في غاية الدقة والخطورة، وقد طبعناها في كتيب، وجاء باحثان مرموقان لمناقشة المحاضرة، عبد المجيد قدوري ونور الدين أفاية…»
ينصح عبد الحميد عقار بقراءة إجابات العروي على مساءلات المتدخّليْن، لأنها كانت أكثر عمقا أحيانا من المداخلة نفسها. يأخذ عقار المبادرة ويقرأ لنا: «الغرب يتحدث اليوم عما بعد الحداثة، لكن بعد أن أخذ بالحداثة، بعد أن عرف الحداثة. لكن يريد منا أن نتحدث عما بعد الحداثة ونحن ما قَبْلَها. لذلك فإن موقفي هو أنه لكل واحد الحق أن يتكلم في ما بعد الحداثة، إما في أبحاثه الفكرية أو في تصوراته الفنية إلى آخره… لكن شريطة ألا يدخل هذا في ميدان العمل الجماعي الذي هو السياسة».
نسأل عقار عن أعماله الكتابية، إذْ انه لا ينشر كثيراً، فأكّد أنه «بصدد وضع اللمسات الأخيرة على جزءين من اللقاءات التي أُجْرِيَت معه ومن الأبحاث والتأملات الفكرية السياسية». وماذا عن الأدب؟ أطرح السؤال: «ثمة كتاب ثالث، يتضمن المقالات الأدبية التي نشرتها في العديد من المنابر الثقافية، ويتضمن محاضرات ألقيتها في لقاءات وندوات». ليس ثمة ما يكشف عن انهماك الرجل في السياسة على حساب الأدب، ولا العكس، هما متلازمان ومتكاملان: وهو حين يمارس السياسة لا يمارسها من خلال اليومي المبتذل، وإنما من خلال ما هو استراتيجي وفكري، أي إخضاع السياسة للفكر وشروطه الصارمة.
حين رأيناه بسرعة، كان بصدد الإعداد لأنشطة ثقافية في الجنوب المغربي في أرفود، حيث الأنشطة تطال مجلات مختلفة من بينها السينما والثقافة الشعبية والأمازيغية. وكان الوقت يتصادف مع زيارة بعض أدعياء الثقافة الأمازيغية الموتورين إلى الكيان الصهيوني من دون رادع أخلاقي ولا وطني، «من أجل اعتراف إسرائيل بقضيتهم».
نسأله عما يؤرقه، فيقول «تشجيع المبدعين الشباب، من تجريبيين وحداثيين وحتى غاضبين، دون المساس بدور الكبار الذين رسموا الثقافة المغربية الأصيلة».
لا يتذمر عبد الحميد عقار من الانتقادات، التي تكون مبنية على وقائع وتروم تقويم حدث أو تصرف، لكن ما يغيظه هو الآخرون، الذين لا يريدون أن يعملوا، ويستمتعون بتوجيه اللكمات غير الأدبية. لكن الضربات عرفها الرجل، القادم من اليسار، في لحظات كانت صعبة جداً على العمل السياسي والثقافي، وأصبح بالتالي يتمتع بنوع من المناعة.
ثمة أشياء تغيظه، منها تشجيع، بعض الأطراف، للفرنسية وللعامية على حساب اللغة العربية الفصحى، كما يغيظه، تحامُل بعض الشوفينيين الأمازيغيين. وهو في هذه القضية التي يُنْتَقَدُ فيها، عن خطأ وعن سوء فهم، لا يوجد من يستطيع أن يزايد عليه، في انفتاحه على الثقافة الأمازيغية وإيمانه بدورها كرافد مركزي من روافد الثقافة الوطنية.
الذين يبحثون عن الرجل ويريدون أن يعرفوا إنجازاته، وهو محاط بالطبع بكوكبة من كتاب وكاتبات من أعضاء اتحاد الكتاب، لا يتوقفون عن العطاء، فما عليهم سوى أن يتأملوا إنجازات الاتحاد، على الرغم من إمكانياته المادية المتواضعة.
عقار واع بأن الإمكانات المادية لا تساعد على أداء كلّ ما هو منتظر من الاتحاد. يقول: «من هنا ذهب تفكيرنا إلى عقد اتفاقات مع اتحادات ومنظمات خارجية، الغرضُ منها تشجيع وترجمة الأدب المغربي إلى اللغات الأجنبية ومنها الأسبانية، التي تم إنجاز بعض الأنطولوجيات فيها».
ولمن يشاء أن يتتبع أعمال الاتحاد ونشاطاته، فلا بد أن يقرأ بكثير من المتعة ندوات الاتحاد ومنشوراته أيضا، وهي بالمناسبة من أفضل المنجزات التي يحققها اتحاد كتاب عربي (مستقل وحريص على استقلاليته)، ومن بينها، على سبيل المثال، ندوة «دون كيخوطي» والملتقى العربي حول المرأة والكتابة و«الكتابة النسائية التخييل والتلقي» وغيرها من الندوات، ومن تكريم كتاب (محمد برادة) أو المشاركة في تكريم (أحمد المنيعي) وإصدار العديد من الكتب والأعمال للكثير من الأدباء المغاربة، شبابا كانوا أو مكرَّسين. نه الشيء الذي ظل يؤرق «السي» عبد الحميد عقار، وأنا أودعه، هو الحفاظ على الاتحاد كرافد من روافد الثقافة الوطنية والدفاع، بقوة، عن استقلاليته عن القرار الرسمي.