الأرنب
والسلحفاة
قمعٌ وتَجاوُزٌ
يانْ ليانك
YAN LIANKE
تنظم
صحيفة لوموند الفرنسية Le Mondeوفيلا جيلي Villa Gilletمؤتمرا سنويا للرواية، تختلف ثيماته، باستمرار، ثم تطبع
أعماله في كتاب يصدر عن دار النشر الفرنسية، كريستيان بورغوا Christian
Bourgois Editeur. وقد تم تكريس مؤتمر 2010 لموضوع:
(الرواية: هل يمكن قول كل شيء؟) وبالطبع كان الحاضرون من دول وقارات عديدة، وقد اخترنا
للقارئ العربي ترجمة مُداخَلَة الروائي الصيني يان ليانك
( من مواليد سنة 1958 في محافظة هينان، في وسط الصين. وهو حاصل على دبلوم من جامعة
هينان ومن معهد الفنون والجيش الشعبي الصيني، بدأ مساره الأدبي سنة 1978، باعتباره
كاتبا في الجيش. وقد ترجمت له روايتان إلى اللغة الفرنسية سنة 2009 وهما: قُبَل لينين الحارة، والأيام والشهور والسنوات)
بسبب طرافتها وتشابهها مع جو الكتابة والرقابة في عالمنا العربي الكبير من المحيط
المحبط إلى الخليج الهادر.
ترجمة وتقديم محمد المزديوي
المؤتمر الدولي للرواية
الذي ينعقد في فرنسا هو مناسبة يستطيع فيها الكُتّاب أن يتحدثوا من دون مواربة. إنه
مشهد واسع يمكننا أن نتحرر فيه ونُغنّي على هوانا. لهذا السبب أريد، مثل العصفور
البري الذي يستيقظ في الفجر، أن أعبّر بصوتي، الأكثر خشونة، بابتذال، عن القمع وتجاوُز الكتابة.
أمّا
فيما يخصّ كون الكتابة مقموعة، فإنّها مسألة سارية في الصين، وهي مسألة يتوجب
مواجهتها. ولكننا لسنا في صين ما قبل ثلاثين سنة، أي صين "الثورة
الثقافية"، حيث كانت الكتابةُ ممنوعةً، بشكل كامل، كما أن كل صوت فردي كان يتم
محوُهُ. هنا تعقّد وخصوصية الكتابة في الصين، اليوم. إذا كانت التنمية الاقتصادية
بنفس سرعة الأرنب، فإن السرعة التي تتقدم بها حرية التفكير تشبه، بالأحرى، تحرّك
السلحفاة. والوضعية التي يتواجد فيها الكُتّاب الصينيون هي، اليوم، تحديدا، سباقٌ
ما بين أرنب وسلحفاة، على طريق سيّار، يُعتبر المشاركون فيه غيرَ متساوين.
بالتأكيد،
إننا نستطيع أن نكتب، ولكننا نُواجِهُ قمعا غير مرئي وقويّا. وفي كل لحظة يُواجِه
الكاتبُ قمعا ثلاثيا: 1 سلطة الأيديولوجيا؛ 2 الإغواء الذي تأتي به التسلية والمجد
والثراء المرتبط بالتنمية الاقتصادية؛ 3 الرقابة الذاتية، السلاسل التي يُكبِّل
الكاتبُ، نفسه، بها. أما فيما يخصّ الفساد(الرشوة) وقمع الأدب عن طريق
الأيديولوجيا والمال والشهرة أو الملذات، فهو شيءٌ عرفناه جميعا، كما عرفه الذين
سبقونا، بدرجات متفاوتة، هنا أو في مكان آخر، الآن أو في حقب أخرى من التاريخ،
وكانت لدينا، جميعا، قوة المُقاومة، الحكمة والذكاء الضروري للمُجابَهة. لكن أن يقوم
الكاتب بِكبح نفسه، ويمارس رقابة ذاتية، هو ربما، هنا، الظاهرة الأكثر خصوصية
بالصين. لماذا يبدو الأمر على هذا الشكل؟ لأن الصين، منذ أكثر من نصف قرن، قادت
سياسة بالغة الصرامة، فيما يخص الكتابة، وإن مُخالفة قواعدها يُعرِّضُ لعقوبات
قاسية، بل للسجن. وفي الحقيقة فإن الكتابة، بالنّسبة للمؤلف، تعني الرقص مُقيَّدا.
بحيث إنه، مع طول الوقت، في اليوم الذي يتحرر فيه الكاتبُ، فإنه لن يعرف حقيقة
المشي والجري أو الرقص.
من
جهة أخرى يمكن للمرء أن يُؤلِّفَ كتابا يمكن الحكم بأنه جيد من قبل السياسة
القائمة؛ ويمكن حينها أن تمنحه الحكومة مكافأة وسلطة وشهرة، يمكن أن تُعيّنه
مُوظَّفا ساميا، وتمنحه فرصة الحصول على كثير من الأموال وبيتاً؛ كما أن وسائل
الإعلام وأناس الشعب، الذين لا يعرفون شيئا عن الفن، ستشرّفه، حتى إنّه يمكنه أن
يستمتع بشكل كامل بشهرته. وهكذا بدأ العديد من الكتاب الموهوبين، مبكرا، في تتبع
طريق الإبداع، بطريقة تلقائية، مندرجين في هذا المنظور. أنا شخصيا، بعد سن العشرين
تقريبا، كنتُ مثل هؤلاء. حين يبدأ المرء يكتب بهذه الطريقة، في سن العشرين أو
الثلاثين، فهو حين يصل إلى الأربعين أو الخمسين، سيجد صعوبة في الكتابة من أجل
الفن ومن أجل الجمال، ومن أجل العالم الداخلي والروحي للكاتب نفسه. جالسا إلى
مكتبه، القلم في يده، صوت يرتفع في أعماقه ويقول له إنه يستطيع أن يكتب هذا ولا
يستطيع أن يكتب ذاك. ويقول في نفسه إنه من خلال الكتابة بهذه الطريقة سيقترب من
السلطة ويحصل على التشريفات والمال والمكانة الاجتماعية؛ وإلا فإنه لن يتعرض فقط
للانتقادات ويُعامَل ببرودة بل ولن يعثر على ناشر.
بطبيعة
الحال، يوجد شكل آخرُ للرقابة الذاتية: الرقابة الغريزية. يعتقد الكاتب أنه يكتب
بحرية، ولكنه في حقيقة الأمر، حتى قبل أن يُسيل الحبر على الورقة، حتى قبل أن
يتخيل القصة التي سيكتبها، تكون الرقابة الذاتية الغريزية واللا واعية قد انطبعت
على إبداعه. بنفس الطريقة، يتصور الطفل المتوجه إلى المدرسة أنه حرّ وسعيدٌ، ناسيا
أن القوانين المدرسية والاجتماعية قامت بقولبته. كما أن الكاتب، وكي يبرهن على أن
كتابتَهُ حرّةٌ، سيضع موهبته في خدمة مَسالِك روائية وفي خدمة التقنية ودراسة
التعاليم الأجنبية، مبرهنا على أنّ عمله ليس إلا أدبا صافيا، وبأنه يبتعد عن
النظام وبأنه موجود وبأنه مستقل. الكتابة الروائية، بالتأكيد، تستلزم السيطرة على
المسالك والتقنيات والبحث عن التعاليم؛ إلا أنه في مواجهة واقع يتطور، واقع معقد
ومضطرب، ومليء بالتناقضات والمشاكل، إذا لم يُركّز الكاتب فكره إلاّ على هذه المسالك
أو التعاليم، ألاَ يُشبه الأمر إعصارات مائية تتفجر لديه، أو حريقا يشتعل، القدمان
في الماء أو الوجه في مواجهة النار، وقد كان لا يزال غارقا في جمال الآلة بين
يديه، وفي مداعبة قلمه؟
إذا
كان على الفنّ والشكل أن يَفْتِنَا ويستوليا على كل كاتب، فالأمرُ لا يتعلق
بالنسبة له بإهمال الواقع مع ذلك. إن الروايات الكبرى والأعمال الفنية الكبرى يجب
أن تكون مثل سُفُن، أو قوارب صغيرة على مساحة المياه أو البحر المحيط، ماء بئر
مصبوب على النار. وإلا فإن العمل لن يكون سوى عوامة إنقاذ أو واق من النيران
ضروريان للكاتب.
وها
هو تحديدا المشكل الذي أُريدُ أن أحدّثكم عنه: إن تجاوز الرقابة الذاتية والقمع
الذاتي وأيديولوجيا النظام والثروة والتشريفات والوضعية الاجتماعية التي يمكن أن
يحمله التطور الاقتصادي. إذا استطعنا التحرر من كل هذا وتجاوز الرقابة الذاتية من
أجل الوصول، بشكل حقيقي، إلى حرية العقل، فإننا لا نحتاج فقط إلى الشجاعة وبصيرة وتفهما
عميقا وأصيلا للواقع الاجتماعي، ولكن أيضا عشق الأدب تحديدا مثل المُريد أو
المؤمن، يجب علينا أن نعشق، بشكل حقيقي، الأدب وأن نُمثّل لها ما يمثله العشب
للسهل وشخصية المعشوق بالنسبة للحب
الحقيقي. يمنح الكُتّاب الصينيون الانطباع بأنهم الأكثر ذكاء في العالَم، وكثيرٌ
من الحركات السياسية جعلت منهم الجماعة الأقدر على توفير الحماية لنفسها. أجدني في
كثير من الأحيان غير قادر على معرفة إن كانت كلمات مُعاصِرِيَّ صحيحة أم مغلوطة،
وإن كانت تصرُّفاتُهُم تتعلق بالوجود أو بالظهور. يستطيعون إنكار كل شيء من أجل
الحفاظ على سمعتهم السياسية وفن سمعتهم لدى الجمهور. إذاً فإذا أردنا أن نتحرر من
السياسة ومن الدين ومن الحزب ومن المال ومن الناس ومن هؤلاء القُرّاء، أيضا الذين
لا يفهمون ماهية الأدب، فإن الوسيلة الوحيدة هو اعتبارُهُ (أي الأدب) مثل حياتنا
الخاصة وتركه يتحول إلى روحنا الخاصّة وسببنا الأوحد للحياة. يجب علينا أن نعتقد
أنه إذا كانت السياسة قوة، مُقارَنَة مع الأدب، فما هي إلاّ طَبقا على وليمة
الآداب، إلاّ قصعة أُرز عادي في الحياة. إذا كانت السياسة قادرة على قتل الكاتب
فإن الأدب يمكن أن يعيد له الحياة، وهنا اختلافٌ ذو أهمية كبيرة.
من
أجل الكتابة في الصين ومن أجل تجاوز السياسة والنظام والدين والحزب والثروة
والتشريفات وامتيازات وملذّات المجتمع المعاصر، بالإضافة إلى القُرّاء الذين
يتبعون بصفة عمياء كل هذا، يجب، في البدء، تجاوز رقابتنا الذاتية نفسها، الواعية
واللا واعية، وأيضا تجاوز التجربة الأدبية التقليدية لمسقط رؤوسنا، بنفس درجة
تجاوز التجربة التي وضعت الكتابة الغربية في قلب الأدب الحديث في القرن العشرين.
إن إرث الأدب الغربي في القرن العشرين كنزٌ، لكنه فيما يتعلق بأدبنا الشرقي
المعاصر، فهو بصدد التحول إلى أيديولوجيا جديدة. وإن أدبنا لن يكون له سبب خاص به
لوجوده واستمراره، إلا إذا أجهدنا أنفسنا على تجاوز كل هذا. أن يكون الأمر ممكنا
أو غير ممكن مسألةٌ، وأن نُجهد أنفسنا من أجل تحقيقه مسألةٌ أخرى. وفي الواقع
الصيني اليوم فإن الكتابة من أجل التعبير، بحرية، عن عالم روحي وعاطفي، لا
يَتناسب، فقط، مع سباق الأرنب والسلحفاة ولكن يتناسب أيضا مع سباق السلحفاة مع
القطار السريع. ربما، الأدب الشرقي المُعاصر، على المستوى العالمي، يجد صعوبة في
العثور على مكانه، وهو ما يَحكُم على أدَبنا بالبقاء على الهامش، بل بالبقاء
مُهْمَلا، ولكن في هذا الشعب الشرقي، على هذه الأرض التي أُكِنّ لها الحب والحقد
معا، أتمنى التقدم خطوة خطوة في ظل القطار السريع، والتقدم من دون التوقف أبدا،
حتى النهاية.
لا
أتمنى المضي إلى الخلود، أريد فقط أن أكون كاتبا، وليس غريقا وسط مليار وثلاثمائة
مليون من الصينيين. أريد أن أكونَ الشخصَ الذي نعرف أنه موجود ونعرف أين يوجد.
أتمنى ألا "أختفي" في الحشود، وأن أواصل، دون كلل، تقدُّمي البطيء.
