برنامج تلفزيوني فرنسي حر ومثير للجدل ضيوفه مشاكسون ومهمشون
الإعلامي فريديريك تاديي يشكل قطيعة مع ثقافة الرأي الواحد
باريس: محمد المزديوي
برنامج ثقافي خارج عن مألوف التلفزيونات الفرنسية، ضيوفه مشاكسون، مشاغبون وممنوعون من الظهور على الشاشات، ومحجوبة آراؤهم بالتواطؤ الضمني. انهم الآن ضيوف البرنامج الجديد الذي يعده ويقدمه فريديريك تاديي، ويمثل متنفساً للراغبين برؤية المختلف والمهمش. أي شيء أكثر إثارة ومتعة من رؤية الناشطة الفرنسية من أصول جزائرية حورية بوتلجة Houria Bouteld- وهي الناطقة الرسمية لحركة «أندجين الجمهورية»- تقارع الكاتب ألان فينكلكروت، غير ما مرة، أو تنتقد صمت السوسيولوجي واليساري الفرنسي السابق ألان تورينAlain Touraine على انبطاح المثقفين الفرنسيين أمام ساركوزي وأفكاره اليمينية... متعة كبيرة في الاستماع إليها، وهي تدافع عن أفكارها بقناعة وجدية كبيرتين. هذه الشابة المنحدرة من الهجرة دليل على أن ثمة نساء يختلفن عن أخريات ارتضين أن يمثلن دور الكورس لدى الحكومات الفرنسية المتعاقبة (من قبيل رشيدة داتي أو فضيلة عمارة أو غيرهما). فرصة رؤية حورية بوتلجة، كانت بفضل برنامج Ce soir ou jamais (يقدم خمسة أيام في الأسبوع) الذي يعده فريديريك تاديي الذي حصل مؤخرا على جائزة فيليب كالوني 2007 PHILIPPE CALONI المكرسة للموهبة ولحيوية الصحافي في ممارسة الحوار. اختار كالوني أن ينفتح على الكثير من الذين لا صوت لهم في المشهد الإعلامي الفرنسي. ومن الجدير بالذكر أنها ليست المرة الأولى التي تدعى فيها بوتلجة لهذا البرنامج الجاد. وعلى الرغم من الفترة المتأخرة التي يُبثُّ فيها هذا البرنامج الثقافي، أي نحو الحادية عشرة ليلا، فإن برنامج (Ce soir ou jamais) الذي تبثه القناة الثالثة الفرنسية، يشكل استثناء كبيرا في المشهد الثقافي البصري في فرنسا. ليس معناه أنه البرنامج الوحيد، لكن البرامج الثقافية الأخرى، لا تولي كثير أهمية للاختلافات، ولما يثير الصخب والجدل ولا لشيء مختلف. صحيح أن ثمة برامج في إذاعة فرانس كولتور (فينكلكروت وألكسندر أدلير وغيرهما...)، وبرامج تلفزيونية في القنوات الأولى والثانية والثالثة أيضا، لكنها تتسم بالرّتابة وبكثير من التصنع، إن لم يكن دفاعا عن الأدب الرسمي. تاديي، المتهم، بإعجابه بالكاتب الفرنسي الراحل جون إيدرن هاليي Jean-Edern Hallier ، أحد مؤسسي مجلة «تيل كيل»، مع فيليب سوليرز، الذي كان الرئيس ميتران يعتبره من أهم كتاب فرنسا في القرن العشرين، لا يحيط نفسه، بكثير من النقاد الأدبيين (خصوصا من مسؤولي الصفحات الثقافية)، والمتخصصين الذي يعرفون الإدلاء بآرائهم في كل المواضيع، حتى في مسألة الشوارب، كما يقول أحدهم، على غرار العديدين من معدي البرامج الثقافية. الكثير من الذين حضروا برنامج تاديي أحسّوا بالارتياح لكونه، يتمتع بخصلة الإنصات، ويسمح لهم بالإجابة عن أسئلته، في حين لا يمنح الآخرون من مُعدّي البرامج الثقافية، الوقت الكافي لضيوفهم، ويمقتون لحظات الصمت التي تخترق الإجابات. وهو ما جعل الفيلسوف الفرنسي الراحل جاك ديريدا وبيير بورديو، على سبيل المثال، يرفضان حضور الكثير من البرامج التلفزيونية. ابتدأ عشق تاديي لهذه المهنة من خلال الاستماع للبرنامج الشهير «راديوسكوبي» لجاك شانسيل، ثم اشتغل في كثير من البرامج الثقافية والمنوعات، لكن أحلامه كانت منصبة على اليوم الذي يستطيع فيه أن يكون سيد برنامجه. البعض من الذين يستولون على البرامج الثقافية يلومونه لأنه يستقبل شخصيات (مارقة) ومثيرة للجدل، من قبيل المحامي الكبير جاك فيرجيس reçoit Jacques Vergés والكوميدي الساخر ديودوني Dieudonné (الذي كان في وقت ما نجم الصحافة الصهيونية الفرنسية وفنانها الأكبر حين كان يعادي اليمين الفرنسي، وأصبح شخصا غير مرغوب فيه حين تجرأ على انتقاد اللوبي الصهيوني وعلى استعراض معاناة الفلسطينيين). وتاديي منتقد أيضاً، لأنه يستقبل أمثال الكاتب الفرنسي الذي حُرِم من وسائل الإعلام الفرنسية العامة لمدة تُقارب العشرين سنة مارك - إدوارد ناب Marc-Edouard Nabe، بسبب أن كتاباته اعتبرت معادية للسامية. المراقب العربي أو غير الأوروبي، حين يرى، أحيانا، الخطابات التي يتم إنتاجها عن العالم العربي، في برامج إذاعية أو تلفزيونية، يمكن أن يحسّ بالصدمة، بالفعل، لأنه يبدو وكأن الفكر والواقع الفرنسيين لم يتغيرا، خصوصا حين يتم تجميع كتاب ومفكرين، كلهم، ويا للصدفة! متخصصون في الشؤون العربية والإيرانية وفي شؤون الإسلام، يذهبون في نفس الاتجاه فينهالون انتقادا على الفلسطينيين لأنهم لم يمدوا يدهم لتلقف حسن النوايا الإسرائيلية، أو انتقادا للخطر الإيراني، الذي لا تمثل أمامه إسرائيل النووية، أي شيء. يبدو الأمر، في هذه البرامج، التي تدعي الجدية، وكأنها تصديق من كل ضيف لآراء الآخر. في برنامج فريديرك يمكن للمشاهد أن يرى اختلافا في الآراء، أو هذا النشاز الذي قلّما نراه، حاليا، في الغرب. المتعة كبيرة، وروح المفارقة أيضا، ونحن نرى رولاند دوما Roland Dumas وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، وهو ينتقد اللوبي اليهودي، أو يعبر عن رفضه أن يحدّد الغربُ من يحاوره من العالم الإسلامي، منددا بمحاصرة إيران ونسيان الخطر الإسرائيلي. في برنامج تاديي، المشاهد على يقين أنه على موعد مع آراء متضاربة ومتناقضة، وأن الانسجام و«الهارمونيا» التي تعبر عنها برامج أخرى، حتى من التي يدعى إليها عرب ومسلمون، يكون دورهم في التعبير عن الدعم والإسناد لرؤية استشراقية أو غربية منحازة، تحل محلها مقارعة الحجة بالحجة، وفي المحصلة النهائية، نخرج برغبة في مواصلة التفكير في الموضوع، وفي هذا تنشيط للحس النقدي للمشاهد، بدل اليقينات التافهة. الكثير من الذين تجاهلهم الإعلام «الرسمي» باتت لهم فرصة للظهور والدفاع عن آرائهم وقياس مفعول أفكارهم. كانت ثمّة فرصة لمشاهدة ألان سورالAlain Soral، الذي يعتبر نفسه مناضلا شيوعيا انضمّ لحزب الجبهة الوطنية مع الناخبين الشيوعيين الذين أصبحوا يمينيين مؤخرا، وهو يعبّر عن سخطه من سيطرة فكر رسمي، جدير بجمهورية موز حقيقية... ويبدو أن تاديي لا يترك الآخرين لا مبالين، ومن هنا أصالته، إذْ حاولت صحيفة لوموند رسم بورتريه لفريديرك تاديي نقرأ فيه، وكأننا أمام محكمة تفتيش (توابل ضرورية لتحطيم الرجل)، أن تاديي «ليبرالي وفوضي ويُسراوي من اليمين ومفكّر حر». يستعرض المقال بدايات تفتح تاديي على عالم الكتابة التي كانت مع صحيفة الأبله الدولي Idiot International الفرنسية حيث ارتبط، بفضلها، بعلاقات مع كل من مارك - إدوارد ناب (نعرف أنه عرّاب ابنه) وألان سورال. ولا يتورع المقال/ البورتريه عن لوم فريديريك تاديي، لأنه دعا إلى برنامجه، طارق رمضان وديودوني وألان دي بونواست Alain de Benoist (منشط حركة «اليمين الجديد») وغيرهم... البرنامج لا يزال مستمرا، وعدد الذين يسهرون الليل في تزايد مستمر، كما أن من يستولي عليه النوم، أمام شاشته الصغيرة يمكن له أن يستعيد البرنامج على الإنترنت. رغم المناخ السائد من سيطرة الثقافة الساركوزية فإن كُوّات صغيرة لا تني تمنح، من يرى بأنه غير مُمَثَّل في المشهد الإعلامي والثقافي والفكري الفرنسي، شيئا من الأمل... طلبت «الشرق الأوسط» من كتاب عرب رأيهم في هذا البرنامج: الروائي السوري خليل النعيمي قال بأن «البرنامج ضروري لمنح الكلام للذين يحلمون، في الحضور في البرامج الفكرية والثقافية الأخرى التي تزخر بها القنوات التلفزيونية في فرنسا». وأضاف بأنه على الرغم من وجود هذا البرنامج الجاد، فإنه لا بدّ من «ظهور برامج أخرى تعبر عن التعددية الثقافية الحقيقية في هذا البلد». قدور زويلاي، السوسيولوجي الجزائري أكّد أن هذا البرامج يصالحنا مع القطاع السمعي البصري في فرنسا: «لا تنس أننا ندفع له ضريبة كل سنة تقارب 120 يورو، وأحيانا ونحن نرى الرداءة أو زحف البرامج المتصهينة أو التحقيرية للعربي، التي تداعب ما تبقى من أفكار كولونيالية في المخيال الغربي، نحس بالغضب من دفع هذه الضريبة». أما محمد باديش الباحث المغربي، فيرى «أنها قطرةُ ماء في بحر الإعلام التضليلي في فرنسا. إننا أمام ما نشهده هذه الأيام من بسط ساركوزي وأوساطه من كبار رجال الأعمال والمال لأيديهم على الإعلام، ليس لنا سوى أن نضع أيدينا على قلوبنا خوفا على هذا البرنامج، الذي يتعرض لكثير من الهجمات (البعض نَعوه قبل الأوان، أو حذّروا من عدم انضباطية المُقدّم)، وأن نشدد على وجوب وجود برامج من هذا النوع في المشهد الثقافي والفكري الفرنسي». أما الباحث والروائي المغربي أحمد المديني فقد رأى «أن البرنامج، دليل على حيوية الحركة الثقافية في فرنسا، وعلى أن أصواتاً لا تزال تؤمن بالرأي والرأي الآخر». | |||
الأربعاء، 21 نوفمبر 2012
TADDIE تاديي وبرنامج اللانمطي... وحيد ضد موجة فاسدة
الاثنين، 19 نوفمبر 2012
الأحد، 18 نوفمبر 2012
السبت، 17 نوفمبر 2012
عن باتريك موديانو
«مقهــى الشــباب الضائــع» لباتريــك موديانــو
أمكنــــة ميتافيزيقيــــة
| ||||||||||||||
مازن معروف
في رواية «مقهى الشباب الضائع» (دار مقاليد، ترجمة محمد المزديوي)، يجمّد الكاتب باتريك موديانو، المكان الأول الذي تتكرر صوره، في لعبة الزمن والحدث. والمكان الاول كما يشير عنوان الرواية الصادرة عام 2007 بالفرنسية، هو المقهى «كوندي». هذه التقنية، في عدم زحزحة المكان، لا تشي فقط بالترميز إلى ما هو ميتافيزيقي في العمل، بل تضمن للكاتب، تحريك الحدث بخفة متفاوتة، كأنه حجر شطرنج يبتعد أو يتوسع في احتلال المربعات شيئا فشيئا. وهي مربعات العاصمة الفرنسية باريس. من هنا، يتفق كثيرون على أن رواية موديانو الأخيرة، هي رواية المكان، او محاولة كشف عوامل الارتباط السري ما بين الكائن الإنساني والكائن الإسمنتي. ولذلك، فإن هذه المكاشفة المقصودة، لا تخلو من مكاشفة جانبية، لتعرية أحياء باريس وشوارعها. ولذلك، فإن للرواية مسحة فهرسية أو طوبوغرافية، على علو منخفض من اليابسة الباريسية. موديانو لا يترك لشخوصه المجال في التخييل إلا لماما، فقط لملء فراغ، ولكسر قسوة الخسارة أو الفقد في العمل. كما أنه لا يبدو مهتما بالقسمات النفسية للأفراد. وهو لا يسعى لإقامة بنية روائية، تتوازن ما بين الداخل (البسيكولوجي) والخارج المادي (البصري). لتتماهى الشخصيات مع الأمكنة، بشكل تام، كأنها جزء من هذه الأمكنة، ولد معزولا عن التطور السياسي والانقلابات في النظم الاجتماعية للعاصمة الفرنسية.
فالكاتب لا يبدو مهتما، برفع الاختلافات الحضارية لأشخاص العمل، إلى القارئ، وهم يبدون على تماس تام، مع متطلبات العيش في المدينة الأوروبية، بل فإن موديانو لا يلتفت، ولو للحظة للفوارق في الخلفية التربوية والثقافية والحضارية التي يتميز بها زكريا عن جون- ميشيل، وعلي الشريف عن دون كارلوس، لأن المقهى، هو الخلية الاجتماعية التي ترفع الكلفة عن هذه العلاقات، وتعيد الأشياء إلى البداية: حاجة الإنسان للإنسان. وفي موازاة ذلك، فإن المعادلات النظرية تطل برأسها، من خلال النص، باستحضار لأسماء كتّاب (أداموف، لوباج، نيتشه،..)، وكتب («أناشيد مالدورور»، «الإشراقات»، «المتاريس السرية»، «لويز العدم»، «آفاق ضائعة»، «فلسفة العود الأبدي»..) تتحرك جميعها في فلك، العود الأبدي. تكون البداية، من خلال ثنائية متوازنة، ما بين فتاة، ومحقق، ومن ثم فتاة وعشيق. بين هاتين الثنائيتين، يقبع المكان ـ المقهى بخبث. المشهد الأول ينطلق منه، والمشهد الأخير، ينتهي فيه. ليتعادل الغياب المؤقت لـ «كوندي» في جسم العمل الروائي، مع استحضار شخصي يوهم بأنه ديمومي، للبطلة لوكي (من خلال عشيقها)، قبل أن يعاد للمقهى وجوده، بلؤم واضح، كتعويض عن فقدان البطلة النهائي في نهاية العمل. هذا الأسلوب في تجسيد المكان يضمن لموديانو فسحة واسعة في اللعب بالتواريخ، في الرواية كما وتفعيل الزمن من خلال تحديد كمية الغياب والحضور المتفاوت للأشخاص. فهم يتحركون فقط بموجب حراك البطل ـ المحقق (في الجزء الأول) والبطل ـ العشيق (في الجزء الثاني) في البحث عنهم. يعاد اختصارهم، في شخصية لوكي، فضياعها يرتب على العمل أولوية، ويرتفع سريعا وبشكل حاد ليشكل الحدث الموحد ما بين جزأي العمل. المقهى في الرواية، لن يكون ذلك المكان المستهلك. ثمة حيادية مرسومة بخبث، ما بين المحقق والمقهى، وهي حيادية سيتسع بيكارها في الجزء الثاني من العمل، الذي يختلط فيه الرومانسي بالبسيكولوجي والوجودي. الرواية متخمة بالكتب والمثقفين، في مربع العود الأبدي النيتشوي، لكنها على الرغم من ذلك، لا تنوء تحت ثقل البعد الرمزي، ولا تمثل أطروحة لإعادة النظر في هذه الفلسفة المثيرة للإرباك والجدال. والمقهى، على هذا المنوال، يتم تخفيض قيمته إلى العادي، كسبيل إلى الارتقاء الأوتوماتيكي، في قيمة ذاتيته أو كيانيته. ومن هنا تنبع خصوصيته، التي تشترط خصوصية أشخاصه، ومن ثم الظروف التي أنشأت هذه الخصوصية كالتاريخ الحديث لفرنسا، والسيستم السوسيولوجي الذي يسحق كائنات تبدو كأنها أطياف (والدة لوكي التي يتم الحديث عنها غالبا بصيغة الغائب) ويعزز بالمقابل من حشرية كائن آخر (لوكي) لاستكشاف العالم، الذي هو دائما ضمن المساحة الجغرافية التي يحددها موديانو، أي باريس. الشبان والشابات لا يسعون إلا لبناء علاقة شخصية مع المكان، بمنأى تام عن الحاجة للمقهى كمعرض أفكار أو تأدية فروض يسارية مثلا، وهو كذلك لا يحمل أبعادا مجازية خرافية أحيانا كما لدى الشعراء، الذين لا تفلت رمزيته الرومانسية عن مخيلتهم. يكون مقهى كوندي بمثابة تصفية حساب مع الزمن، والتاريخ البائت، كما وتصفية حساب مع أشكال روائية سابقة، لطالما محورت أحداثها حول المقهى كماكان أليف بديل عن الشارع، سري ومعلن في وقت واحد، ومباح أمام الجميع وحتى رجال المخابرات الذين دأبنا على التريث في قراءة المقطع الروائي حينما يحضرون إلى المشهد العام. الانسان يتحرك من المكان الثانوي، إلى المكان الأساس (من الناحية الجغرافية)، فالمقهى جزء من المدينة. مكان ربما موقت، قياسا بالمدينة ذات المحتوى السوسيولوجي الأغنى، إنما من الناحية الفنية أو الروائية تحديدا، فإن نقطة الانطلاق، تبدأ من المقهى الذي يمثل السمة الأساس في العمل لتبدو باريس، وكأنها مكان حتمي فرض نفسه كملجأ لقيمة الفقد أو الخسارة اللينة، التي لا ترقى لحتمية الموت، ولا الإنتفاء، أو اليأس، ما يجعلها خسارة مغلفة بالطزاجة، جاهزة لتنزلق من بين أنامل الزمن، الأمر الذي يعتبر أحد ألعاب موديانو الروائية. المقهى يعيد موديانو للمقهى وظيفته الاولى، المتعلقة برمزيته كمادة من ماود المنظر العام أو الشارع، فلا حاجة للإسهاب في تفسير تموقعه، أو جدواه كمتنفس وجودي أو كملهاة. يتقاطع هذا التحديد مع فكرة نيتشه، فكأن المقهى يعود ليعيش لحظات نشأته الأولى، التي سبقت أدلجته. غير أن هذا الأمر، يسحب على المقهى جماليات تكمن في عنصرين أساسيين في الرواية، لا يعلنهما موديانو بصورة مباشرة، وللصراحة، فإن اكتشافهما ليس إلا شأن القارئ نفسه. أولا، يعلن المقهى الأشياء الأولى، الحركة الأولى للزمن، الذي يرتبط بحركة أشخاص نحدس وجودهم للمرة الأولى، ومن هنا، تنتفخ القيمة الوجودية وتتعمق العلاقة ما بين المقهى كمكان عام، وغاية «الزبائن» وفردانية كل منهم، الذين قد يكون وجود بعضهم ليس إلا موزاييكا روائيا. إذاً فإن علاقة ما تقوم بين كائن صامت، لا يتحرك، ويحمل في الوقت ذاته قيمته الوجودية ـ المادية، وهو المقهى، وكائن آخر (لوكي)، التي وجودها غير المفتعل، في المقهى، يعد سابقة لتفعيل مساحة الفكري ـ الرومانسي، وإن للحظات موقتة في العمل. أما الامر الثاني، فهو الاتساع التدريجي للمسافة الفاصلة، ما بين خط الأشخاص، الميتافيزيقي، وخط المقهى كنقطة من الزمن، أو كمرجعية لزمن مضى. فالمقهى سيتم ادخاره في العمل، إلى النهاية، حينما يقوم موديانو بمزج مصائر أبطاله ومصيره. سيتم العودة في النهاية إلى هذا المقهى، بما يحمله من حتمية الخسارة، التي تتحول الآن إلى خسارة صلبة، وثقيلة على نفس القارئ، لأنها محملة بالحقيقة الدرامية (موت لوكي). فالغياب ـ الحضور ثنائية تشكل كماشة العمل، وتحيل المكان إلى خط الإحتمالات، يحضر المكان في الجزء الأول من الرواية، في موازاة الأشخاص الغائبين، أما في القسم الثاني فالعكس هو ما يحصل. يتم تغييب المكان، كوضعه على مسافة بعيدة بعض الشيء عن العدسة المكبرة، لتأمل حيزه، دون الإسهاب في تأمل تفاصيله. هذا التكتيك الصعب الذي اختاره موديانو، بقدر ما هو سوداوي، إلا أنه يبقي النهاية على صفيح الصدمة التي تقفل العمل، ويفتح أنهارا من الأسئلة، تشير كلها إلى غاية موديانو في صب التخييل الروائي، في مصلحة الفكر الإنساني، الذي لا يمكن أن يتحقق صفاؤه إلا بشرط القلق. لذلك، فإن خيبة موت لوكي، والمأسوية غير المتوقعة للسياق الروائي، من جهة، والتعاطف الملحوظ للكاتب مع فكرة العود الأبدي، من جهة أخرى، تتعادل في رأس القارئ، ومن هنا يكون موديانو قد نجح بتهريب روايته بعيدا عن فخ الدراما، الذي غطاه نيتشه بكل كاريزماتيته. وإلا فإنه كان ليكون لنا حديــث آخر حول هذا العمل. أي أن التعكيز على «العــود الأبدي» هو ما أنقذ موديانو من ورطة شبــه مؤكــدة في نهاية الرواية. التقى والد موديانو بوالدته في باريس المحتلة إبان الحرب العالمية الثانية، وبدأت علاقتهما بشكل شبه سري. كان لطفولته مناخ واحد، فرضته التحولات التي طرأت على العائلة، خاصة بغياب والده الذي كان يسمع الكثير من القصص المضطربة عنه، وجولات الأم بعيدا عن الطفل باتريك، الذي تحتم عليه أن يكمل تعليمه الثانوي عن طريق المساعدات الحكومية، وقد قربه ذلك كثيرا من شقيقه رودي الذي توفي بسبب المرض وهو لم يتجاوز بعد العاشرة من العمر (أعمال باتريك موديانو من العام 1967 وحتى العام 1982 هي مهداة له). موت الأخ، كان بمثابة توقف لطفولة موديانو، التي استعادها في العديد من أعماله، كأنه عقد اتفاق مع الحنين إليها. ارتبطت أعماله في البداية، مع مرحلة ما بعد الديغولية، وإشتغل على إعادة تقييم الاحتلال والمقاومة، من خلال الأدب، وابتكاره لاحقا لشكل كتابي حديث في الرواية. ثم مدد تجربته أو تنقيبه ليطال فترة ستينيات القرن العشرين، محتفظا بالمناخات النفسية لشخوص أعماله. ثلاثيته الشهيرة عن الاحتلال، «ساحة النجمة» (1968)، «جولة الليل» (1969) ، و»بولفارات الأحزمة» (1972) يتجلى فيها افتتان ملحوظ بالعالم، من خلال الدخول إلى بسيكولوجيات أبطاله، في مناخ لا ينفلت من الحرب والمقاومة الشعبية. حائز جائــزة روجــيه نيمــيه (1978) عن روايته «ساحة النجــمة»، وجائزة غونكور عن روايته «درب الحوانيت المعتمة». وقد منحته مؤســسة (بير دي موناكــو) جائزتها كتقدير عن مجمل أعماله عام 1984. له قرابــة الثلاثين رواية، زائداً مساهمــاته في كــتابة العديد من سيناريوهـات الافــلام السينمائية. وهــو أحــد المــجددين البــارزين في الروايــة الفرنسية.
عن السفير اللبنانية
| ||||||||||||||
الخميس، 15 نوفمبر 2012
الطاهر بكري عند قبر محمود درويش
طاهر البكري: كيف يمكن للشاعر أن يصمت أمام آلة القتل؟
بعد صدور ديوانه بالفرنسية «أسمّيك تونس»
|
باريس: محمد المزديوي
يمنحنا الالتقاء مع الأكاديمي والشاعر التونسي، طاهر البكري، المقيم في باريس فرصة لمعرفة جديده ومواقفه من القضايا التي تهم الإبداع دون إغفال موقفه من الربيع العربي، وفي عمقه الربيع التونسي. ولعل تأخرنا في استبيان موقف هذا المبدع المتعدد التخصصات والاهتمامات، الذي لا يتوقف عن الكتابة وعن السفر، والرغبة في عدم التعجل فِي مساءلته، كما يفعل عادة، فالأدب السريع والمتعجل لا يستطيع أن يعبر بصدق عن الأحداث الكبرى، ولعل ما سمي أيام الراحل صدام حسين «أدب الحرب» مثال على هشاشته، ولا يبدو أن ثمة نصوصا كبرى خرجت من رحم الحرب العراقية - الإيرانية.
ابتدأ لقاؤنا بالتساؤل عن جدوى الشعر حاليا؟ فكان جوابه: «وما جدوى الشابي والسياب ودرويش ورامبو وسان جون بيرس وهولدرلين ولوركا ونيرودا وبيسوا؟ هل تساءل هؤلاء عن فائدة الشعر أم كتبوا قولا ضروريا يرفع من قيم الإنسان؟ الإجابة عن جدوى الشعر هي من واجب المتلقي أولا، ثم قد يعتبرها الشاعر من مشاغله. على الشاعر أن يكتب، مهما كلفه ذلك. تصلني من حين لآخر رسائل عبر الإنترنت من قراء يسكنون بقاع الدنيا المختلفة، لا أعرفهم ولم ألتق بهم ولكنهم وجدوا فيما أكتب بعضا مما يحرك سواكنهم. يكفي هذا لنقتنع بجدوى الشعر. ما ينفع الناس يبقى في الأرض أما الزبد فيذهب جفاء».
وحين نسأله حول ما يريد أن يعبر عنه من خلال نصوصه الشعرية؟ يقول: «هناك بون بين ما أريد التعبير عنه وما أستطيع كتابته. لأن كتابة الشعر هي عملية صراع دائم مع اللغة التي بها نكتب - وفيما يخصني مع لغتين - في معاناة وجهد لتوليد القصيد أبعاد النفس في توقها للحرية وجمال الكون وحب الحياة. لا أكتب من الإجابات السطحية أو المواضيع العقائدية في خطابها السياسي المتداول، بل من خطورة السؤال وأهميته. وأعمل في بعض الحالات على مساءلة الحداثة من باب التراث. كتبت في مواضيع كالمنفى والترحال والحب وهموم الإنسان العربي حتى وإن كانت غالب كتبي بالفرنسية. هكذا كتبت على لسان امرئ القيس ديوان (نشيد الملك الضليل) وعلى لسان ابن حزم ديوان (مسابح الوصل) وكذلك ديوان (إذا كان على الموسيقى أن تموت) في الدفاع عن الفن والحضارة الإنسانية، إلى غير ذلك من الدواوين التي أملتها علي ضرورة الكتابة».
ولكن، هل بإمكان القصيدة أن تقول كل شيء؟ «قديما وحديثا يعسر تعريف الشعر وماهيته فما بالك بإمكانيته. لو تمكن القصيد من قول كل شيء لما حاول الشعراء في بحثهم الدائم إيجاد أشكال ومعان ودلالات وإيقاعات جديدة. القصيد ليس جاهزا كطبق نملؤه بما نشاء ونقدمه للقارئ النهم المتسرع، بل هو عصارة الأيام في وعيها اليقظ وطوبى الحلم المتيقظ إلى ما نصبو إليه من مثل إنسانية، واقعا وخيالا. قد نفلح في القول وقد نعجز ولكن مهمة الشاعر تكمن في جعل الكلمة تسمو بما يقول ويكتب، بعيدا عن الابتذال والرتابة والفقر النصي، مهما كان الموضوع. إن صمت الشاعر حينا، لا يعني أنه يخل بدوره أمام الخطب الجلل وهول الفاجعة. كيف يمكن للشاعر أن يصمت أمام آلة القتل وسلطان الرعب، أمام من يقتل شعبه ويسيل دماءه؟ حتى وإن عجزت القصيدة عن القول، فالشاعر يجب أن يقول كلمته كمواطن. وثق أني لا أخلط بين كتابة الصمت وصمت الكتابة».
وبما أن الثورة التونسية حاضرة في الأذهان فقد سألنا الشاعر البكري عن موقفه من الثورة التونسية خصوصا، ومن الربيع العربي عموما، فقال: «الثورة التونسية هي ثورة شعبية ضد الظلم والقمع وانتهاك الحريات وسرقة الأموال العامة ومطالبة بالحرية والديمقراطية التي تنادي بها كل الشعوب العربية منذ عقود. إن موت الشهداء في كل يوم في سوريا مثلا وفي المنطقة العربية عامة لبناء حياة عزيزة حرة وتأسيس المجتمع العربي الديمقراطي - مهما كانت الاختلافات في المذاهب والعقائد - ليبعث على تواضع الشعر بقدر ما يطالبه بمسؤوليته التاريخية حتى لا يصبح الربيع شتاء قاسيا أو يستغله بانتهازية رهيبة سياسيون لا هم لهم إلا السلطة أو فرض قيود جديدة، بعيدا عن مطامح الشعب وآماله».
ولأن الشاعر سافر كثيرا وكتب نصوصا كثيرة تتحدث عن كثير من القضايا السياسية سألناه، وهو الذي كتب عن فلسطين وعن مواضيع سياسية أخرى، ألا يخاف من سقوط الشعر في السياسوية المقيتة؟ وكأنما حاول سل نفسه من الفخ، قال: «نشرت كتابا عن فلسطين (سلام غزة) وفيه يومياتي عن الحرب على غزة وكذلك يومياتي عن رحلة قمت بها إلى فلسطين المحتلة في مارس (آذار) 2009. كتبت بكل جوارحي ما أحسست به من ألم ووجع لدى زيارتي إلى رام الله والقدس الشرقية ونابلس وبير زيت ومع الأسف منعت من الذهاب إلى غزة. في الكتاب كذلك قصائد كتبت عن محمود درويش وحصار جنين وغزو جنوب لبنان. كيف يسقط الشعر في السياسوية - هل هذه نزعة انبتات هامشية أو غيبوبة ينادي بها البعض أمام الفشل الذريع - وتاريخك مثخن بالجراح ومثقل بالهزائم والمآسي. لا خوف على الشعر من أي باب، إن كان اقتناعنا مسيكا وغير متنازل عن عمل الكتابة وقيمة الإبداع، فنا وشعورا وصدقا. لا أكتب صراخا حماسيا أو جعجعة، بل كلمات رقيقة، عنيدة ومتجذرة في الكيان العربي. أكتب عن كل أقحوان تدوسه أحذية المستوطنين، عن كل نبتة زعتر تأتي عليها دبابات الغزاة. أكتب عن موج البحر الذي يحمل صخبي الداخلي، عن كل شجرة زيتون تحتاج إلى لقاح الرياح الأربع».
أحيانا تستبد بالشاعر نوبة من الكآبة إزاء الاحتفال بـ«يوم الشعر» فكان لا بد أن نسأل شاعرنا عما يوحيه له الاحتفال بيوم الشعر وبربيع الشعر؟ فكان رده: «رغم تذمر الناشرين من كساد سوق الشعر لا يمر عام دون أن تتكاثر الكتابات والمظاهرات والقراءات والاحتفالات بربيع الشعر في كل المدن والقرى الفرنسية. أصبح الاحتفال شبه عالمي، وهذا يعطي للشعر حيوية وحضورا وشعورا بأن الشعر أصبح فنا قريبا من الناس ونزل من برجه العاجي. فهو كالموسيقى والرسم والغناء، له دور ثقافي وجمالي في المجتمع. وحبذا لو نستمع أكثر في بلداننا العربية والإسلامية لأصوات الشعراء والفنانين عامة، عوض أصوات الرصاص الحي والمدافع والقنابل وعويل الأمهات».
ماذا فعل الشعر لمصلحة الثورة في تونس، وهل بإمكان القصيدة أن تكون رديفا للثورة التونسية؟ أجاب الطاهر بنوع من الحذر المسؤول: «كيف يمكن للشاعر أن يكون رديفا للثورة؟ لا بد من التواضع أمام من قدموا أرواحهم وأصبحوا شهداء الحرية والكرامة. لم تكن أبيات أبي القاسم الشابي التي رددها المتظاهرون وما زالوا يرددونها في ربوعنا إلا حافزا ملهما وتعبيرا متأججا عن نفاثة صدورهم كما كان الشابي نفسه يعرف الشعر. أتفق مع الشابي في أناشيده وأحب تسمية ديوانه (أغاني الحياة)، لأني أعتبر الثورة تأسيسا لحياة أفضل وحبا جميلا». وقبل أن ينتهي لقاؤنا كان من الضروري أن نسأل طاهر البكري عن جديده، فقال: «آخر ديوان لي هو (أسميك تونس) وصدر بالفرنسية في باريس عن دار المنار للنشر. وكذلك صدر لي قرص يجمع بين الشعر والموسيقى (إذا كان على الموسيقى أن تموت) عن دار قواسكو. الشعر مترجم إلى عدة لغات والموسيقى من تأليف بول هويلو بمعية موسيقيين من آيرلندا وفرنسا وأرمينيا وإنجلترا».
عن صحيفة الشرق الأوسط
يمنحنا الالتقاء مع الأكاديمي والشاعر التونسي، طاهر البكري، المقيم في باريس فرصة لمعرفة جديده ومواقفه من القضايا التي تهم الإبداع دون إغفال موقفه من الربيع العربي، وفي عمقه الربيع التونسي. ولعل تأخرنا في استبيان موقف هذا المبدع المتعدد التخصصات والاهتمامات، الذي لا يتوقف عن الكتابة وعن السفر، والرغبة في عدم التعجل فِي مساءلته، كما يفعل عادة، فالأدب السريع والمتعجل لا يستطيع أن يعبر بصدق عن الأحداث الكبرى، ولعل ما سمي أيام الراحل صدام حسين «أدب الحرب» مثال على هشاشته، ولا يبدو أن ثمة نصوصا كبرى خرجت من رحم الحرب العراقية - الإيرانية.
ابتدأ لقاؤنا بالتساؤل عن جدوى الشعر حاليا؟ فكان جوابه: «وما جدوى الشابي والسياب ودرويش ورامبو وسان جون بيرس وهولدرلين ولوركا ونيرودا وبيسوا؟ هل تساءل هؤلاء عن فائدة الشعر أم كتبوا قولا ضروريا يرفع من قيم الإنسان؟ الإجابة عن جدوى الشعر هي من واجب المتلقي أولا، ثم قد يعتبرها الشاعر من مشاغله. على الشاعر أن يكتب، مهما كلفه ذلك. تصلني من حين لآخر رسائل عبر الإنترنت من قراء يسكنون بقاع الدنيا المختلفة، لا أعرفهم ولم ألتق بهم ولكنهم وجدوا فيما أكتب بعضا مما يحرك سواكنهم. يكفي هذا لنقتنع بجدوى الشعر. ما ينفع الناس يبقى في الأرض أما الزبد فيذهب جفاء».
وحين نسأله حول ما يريد أن يعبر عنه من خلال نصوصه الشعرية؟ يقول: «هناك بون بين ما أريد التعبير عنه وما أستطيع كتابته. لأن كتابة الشعر هي عملية صراع دائم مع اللغة التي بها نكتب - وفيما يخصني مع لغتين - في معاناة وجهد لتوليد القصيد أبعاد النفس في توقها للحرية وجمال الكون وحب الحياة. لا أكتب من الإجابات السطحية أو المواضيع العقائدية في خطابها السياسي المتداول، بل من خطورة السؤال وأهميته. وأعمل في بعض الحالات على مساءلة الحداثة من باب التراث. كتبت في مواضيع كالمنفى والترحال والحب وهموم الإنسان العربي حتى وإن كانت غالب كتبي بالفرنسية. هكذا كتبت على لسان امرئ القيس ديوان (نشيد الملك الضليل) وعلى لسان ابن حزم ديوان (مسابح الوصل) وكذلك ديوان (إذا كان على الموسيقى أن تموت) في الدفاع عن الفن والحضارة الإنسانية، إلى غير ذلك من الدواوين التي أملتها علي ضرورة الكتابة».
ولكن، هل بإمكان القصيدة أن تقول كل شيء؟ «قديما وحديثا يعسر تعريف الشعر وماهيته فما بالك بإمكانيته. لو تمكن القصيد من قول كل شيء لما حاول الشعراء في بحثهم الدائم إيجاد أشكال ومعان ودلالات وإيقاعات جديدة. القصيد ليس جاهزا كطبق نملؤه بما نشاء ونقدمه للقارئ النهم المتسرع، بل هو عصارة الأيام في وعيها اليقظ وطوبى الحلم المتيقظ إلى ما نصبو إليه من مثل إنسانية، واقعا وخيالا. قد نفلح في القول وقد نعجز ولكن مهمة الشاعر تكمن في جعل الكلمة تسمو بما يقول ويكتب، بعيدا عن الابتذال والرتابة والفقر النصي، مهما كان الموضوع. إن صمت الشاعر حينا، لا يعني أنه يخل بدوره أمام الخطب الجلل وهول الفاجعة. كيف يمكن للشاعر أن يصمت أمام آلة القتل وسلطان الرعب، أمام من يقتل شعبه ويسيل دماءه؟ حتى وإن عجزت القصيدة عن القول، فالشاعر يجب أن يقول كلمته كمواطن. وثق أني لا أخلط بين كتابة الصمت وصمت الكتابة».
وبما أن الثورة التونسية حاضرة في الأذهان فقد سألنا الشاعر البكري عن موقفه من الثورة التونسية خصوصا، ومن الربيع العربي عموما، فقال: «الثورة التونسية هي ثورة شعبية ضد الظلم والقمع وانتهاك الحريات وسرقة الأموال العامة ومطالبة بالحرية والديمقراطية التي تنادي بها كل الشعوب العربية منذ عقود. إن موت الشهداء في كل يوم في سوريا مثلا وفي المنطقة العربية عامة لبناء حياة عزيزة حرة وتأسيس المجتمع العربي الديمقراطي - مهما كانت الاختلافات في المذاهب والعقائد - ليبعث على تواضع الشعر بقدر ما يطالبه بمسؤوليته التاريخية حتى لا يصبح الربيع شتاء قاسيا أو يستغله بانتهازية رهيبة سياسيون لا هم لهم إلا السلطة أو فرض قيود جديدة، بعيدا عن مطامح الشعب وآماله».
ولأن الشاعر سافر كثيرا وكتب نصوصا كثيرة تتحدث عن كثير من القضايا السياسية سألناه، وهو الذي كتب عن فلسطين وعن مواضيع سياسية أخرى، ألا يخاف من سقوط الشعر في السياسوية المقيتة؟ وكأنما حاول سل نفسه من الفخ، قال: «نشرت كتابا عن فلسطين (سلام غزة) وفيه يومياتي عن الحرب على غزة وكذلك يومياتي عن رحلة قمت بها إلى فلسطين المحتلة في مارس (آذار) 2009. كتبت بكل جوارحي ما أحسست به من ألم ووجع لدى زيارتي إلى رام الله والقدس الشرقية ونابلس وبير زيت ومع الأسف منعت من الذهاب إلى غزة. في الكتاب كذلك قصائد كتبت عن محمود درويش وحصار جنين وغزو جنوب لبنان. كيف يسقط الشعر في السياسوية - هل هذه نزعة انبتات هامشية أو غيبوبة ينادي بها البعض أمام الفشل الذريع - وتاريخك مثخن بالجراح ومثقل بالهزائم والمآسي. لا خوف على الشعر من أي باب، إن كان اقتناعنا مسيكا وغير متنازل عن عمل الكتابة وقيمة الإبداع، فنا وشعورا وصدقا. لا أكتب صراخا حماسيا أو جعجعة، بل كلمات رقيقة، عنيدة ومتجذرة في الكيان العربي. أكتب عن كل أقحوان تدوسه أحذية المستوطنين، عن كل نبتة زعتر تأتي عليها دبابات الغزاة. أكتب عن موج البحر الذي يحمل صخبي الداخلي، عن كل شجرة زيتون تحتاج إلى لقاح الرياح الأربع».
أحيانا تستبد بالشاعر نوبة من الكآبة إزاء الاحتفال بـ«يوم الشعر» فكان لا بد أن نسأل شاعرنا عما يوحيه له الاحتفال بيوم الشعر وبربيع الشعر؟ فكان رده: «رغم تذمر الناشرين من كساد سوق الشعر لا يمر عام دون أن تتكاثر الكتابات والمظاهرات والقراءات والاحتفالات بربيع الشعر في كل المدن والقرى الفرنسية. أصبح الاحتفال شبه عالمي، وهذا يعطي للشعر حيوية وحضورا وشعورا بأن الشعر أصبح فنا قريبا من الناس ونزل من برجه العاجي. فهو كالموسيقى والرسم والغناء، له دور ثقافي وجمالي في المجتمع. وحبذا لو نستمع أكثر في بلداننا العربية والإسلامية لأصوات الشعراء والفنانين عامة، عوض أصوات الرصاص الحي والمدافع والقنابل وعويل الأمهات».
ماذا فعل الشعر لمصلحة الثورة في تونس، وهل بإمكان القصيدة أن تكون رديفا للثورة التونسية؟ أجاب الطاهر بنوع من الحذر المسؤول: «كيف يمكن للشاعر أن يكون رديفا للثورة؟ لا بد من التواضع أمام من قدموا أرواحهم وأصبحوا شهداء الحرية والكرامة. لم تكن أبيات أبي القاسم الشابي التي رددها المتظاهرون وما زالوا يرددونها في ربوعنا إلا حافزا ملهما وتعبيرا متأججا عن نفاثة صدورهم كما كان الشابي نفسه يعرف الشعر. أتفق مع الشابي في أناشيده وأحب تسمية ديوانه (أغاني الحياة)، لأني أعتبر الثورة تأسيسا لحياة أفضل وحبا جميلا». وقبل أن ينتهي لقاؤنا كان من الضروري أن نسأل طاهر البكري عن جديده، فقال: «آخر ديوان لي هو (أسميك تونس) وصدر بالفرنسية في باريس عن دار المنار للنشر. وكذلك صدر لي قرص يجمع بين الشعر والموسيقى (إذا كان على الموسيقى أن تموت) عن دار قواسكو. الشعر مترجم إلى عدة لغات والموسيقى من تأليف بول هويلو بمعية موسيقيين من آيرلندا وفرنسا وأرمينيا وإنجلترا».
عن صحيفة الشرق الأوسط
الأربعاء، 14 نوفمبر 2012
Miroirs en fuite
Miroirs en fuite
Anthologie de nouvelles marocaines contemporaines
Collectif
Sous la direction de Mohammed Berrada. Traduit de l’arabe par Xavier Luffin
Aden / coll. Label Littérature
Nouvelles
10 x 18 cm / 160 pages
ISBN 978-2-805920-28-8
2012
12 €
À paraître
Collectif
Sous la direction de Mohammed Berrada. Traduit de l’arabe par Xavier Luffin
Aden / coll. Label Littérature
Nouvelles
10 x 18 cm / 160 pages
ISBN 978-2-805920-28-8
2012
12 €
À paraître
Mohammed Berrada est un romancier marocain arabophone, considéré comme le chef de file du roman moderne marocain. Enseignant la littérature arabe à l’université de Rabat, il est aussi traducteur et critique. Il est marié à Leïla Chahid.
Dans cette anthologie, Mohammed Berrada a choisi de nous présenter le meilleur de la jeune littérature marocaine arabophone : Yassine Adnan, Anis Al-Rafii, Latifa Baqa, Abdelmoumen Chentouf, Mohammed El Harradi, Youssef Fadel, Maati Kabbal, Latifa Labsser, Mohammed Mezdioui, Rabia Rihan, Abdeljabbar Shimi et Mohammed Zelmati participent d’un courant littéraire dans lequel l’intrigue romanesque passe par le prisme de nouvelles techniques d’écriture qui renouvellent la narration classique. Celle-ci s’écrit par tableaux, scènes, réflexions, portraits, et suggère plus qu’elle ne décrit.
Cette publication s’inscrit dans le contexte de DABA Maroc, saison culturelle marocaine en Belgique francophone, proposant un vaste programme axé sur la découverte de la richesse artistique contemporaine du Maroc, qui participe du mouvement citoyen qui bouleverse le Maghreb depuis un an. À travers les pratiques artistiques actuelles s’opérera un regard croisé entre le Maroc et l’Europe. DABA Maroc veut aussi mettre en lumière la création artistique et intellectuelle issue des immigrations marocaines, en particulier dans ce que les jeunes générations proposent, de manière souvent décomplexée, comme innovation, mémoire, proximités et éloignements avec le pays d’origine.
Parution : septembre 2012.
À propos de l’auteur
السبت، 3 نوفمبر 2012
العدد السادس من مجلة "بيت الشعر" الإماراتية
صدر العدد السادس من مجلة «بيت الشعر»، عن بيت الشعر في أبوظبي التابع لنادي تراث الإمارات، وتميز العدد باحتفائه بالشعر الكلاسيكي، وقد كتب في هذا الملف خالد بلقاسم عن «امرؤ القيس - الأثر طريق خفي»، ومحمد الغزي عن «الجواهري في ذكراه .. بهاء الديباجة القديمة»، ومحمد عريقات عن «الحداثة في الشعر الكلاسيكي»، وحنين عمر كتبت عن «القصيدة العمودية ثلاث ملاحظات أفقية «، وتناول جهاد هديب في هذا الملف «القصيدة العمودية الإماراتية حتى تأسيس الدولة»، وتحدث سامح كعوش عن الشاعر الإماراتي المعروف أحمد أمين المدني تحت عنوان «حكاية الشاعر العاشق». وقد جاءت افتتاحية العدد بقلم مدير التحرير الشاعر بشير البكر بعنوان «ليس دفاعا عن القصيدة العمودية». وفي العدد الجديد من المجلة نقرأ أخبار الشعراء، والإصدارات الشعرية، وخصص في باب «شعر وشعراء» مساحة لعرض العديد من الدواوين الشعرية. واحتوى العدد على حوار مع الشاعر اللبناني عباس بيضون أجراه معه فيديل سبيتي، وحوار آخر مع الشاعر الإيطالي أليساندرو موشي أجراه أحمد لوغيلمي، وتحقيق حول الشعر والنقد أنجزه حمزة قناوي، وتحقيق أعدته خلود الفلاح حول موضوع «لحظة الكتابة الشعرية»، وقراءة في ديوان «أذىً كالحب» كتبها جهاد هديب، كما كتب محمد المزديوي حول «الان روب غرييه .. الشعر والشعراء الذين أُحبهم»، وكتب خلدون عبداللطيف حول «سؤال المرجعية». |
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)




