كتبه تعاد طباعتها والحوار معه مستمر
جيل دولوز يعود إلى الواجهة في فرنسا وكأنه ما يزال حيا
باريس: محمد المزديوي ليس فقط لأنّ «كونزابورو أُوي» الروائي الياباني الحائز جائزة نوبل، قال إن «كتاب دولوز عن سبينوزا، هو الوحيد الذي ساعدني على الولوج إلى عالم هذا الفيلسوف الكبير»، وليس فقط لأنه مرت عشر سنوات على رحيله المفاجئ، إثر انتحاره (بعد معاناة شديدة مع جهازه التنفسي)، عاد الاهتمام إلى دولوز وأعماله. فالحقيقة تقول إن هذا المفكر لم يتوقف عن إثارة الجدل، والولوج في معظم النقاشات الفكرية والمجتمعية الفرنسية.
جيل دولوز هذا الفيلسوف الذي كان لا يتخوف من إبداء رأي، حتى لو كان جارحا، في أية قضية، يعرف عنه عداؤه الشديد لوسائل الإعلام، ومن هنا رفضه القوي لإعطاء حوارات أو لقاءات صحافية، شأنه شأن عالم الاجتماع بيير بورديو أو الفيلسوف الشهير ديريدا.
دولوز الذي كان يرى بأن وظيفة الفلسفة هي «خلق مفاهيم، وليس خلق أفكار»، أو تغيير العالَم، كما يروق للكثيرين، عُرِفَ عنه بقوة، انفتاحه الكبير على مواضيع خارج الفلسفة، إذ أنه اشتغل على بروست وبيكيت وكافكا، واهتم بالسياسة وخصوصا بالفلسطينيين (حوار أجراه معه المؤرخ الفلسطيني إلياس صنبر/صحيفة ليبراسيون الفرنسية: «هنود فلسطين الحمر»)، وعني بالسينما والفوتوغرافيا والموسيقى وعرفات (عظمة عرفات).
الذكرى العاشرة لرحيله حملت معها الكثير من الإصدارات التي تُولي، أو تحاول أن تولي، الرجُلَ المكانةَ التي يستحقها في وقت خلت فيه الساحة الفكرية من فلاسفة كبار من طرازه، بعد رحيل ديريدا وبول ريكور، وبعد أن سيطر على الوسط الفكري والإعلامي ما يسمى بالفلاسفة الجدد الذين كان يحتقرهم الراحل، ومن بينهم برنارد هنري ليفي أو فينكلكروت ومن لفَّ لفهما.
بين أهم الكتب التي ظهرت أخيرا بهذه المناسبة، يقفز إلى الواجهة عنوانان بارزان: «دولوز والفنّ» Deuleuze et l’art للباحثة آن سوفانيارغس Anne Sauvagnargues. تقوم فيه الباحثة بتحليل ما كتبه دولوز عن الأدب (بروست، كافكا، ميلفيل وبيكيت)، وعن الفن التشكيلي(فرنسيس بايكون) وعن السينما، وتنتهي بأن تعيد تشكيل مجموع «النَّسَقَ» الدولوزي، بصرامة. المُؤَلَّفُ سيكون مرجعا ضروريا للباحثين حول نصوص دولوز، إذ أن الفن يحتل مكانة مهمة في تفكيره. من الأدب إلى السينما، ومن الحرف إلى الصورة، يُنظِّر دولوز في ميدان الفن بالاستعانة بمصطلحات جديدة جدا، وصعبة وجذابة: جسد من دون أعضاء، آلات الرغبة، صيرورة ـ حيوان، ريزوم، خطوط الهرب، إلخ من المصطلحات الدولوزية... يتعلق الأمرُ بعرض الاشتغال الدقيق، من خلال إبراز كيف يصبح الفن، في نظر دولوز، آلة لارتياد مصائر المجتمعات: في «نقد وعيادة» يكتشف القوى الاجتماعية ويجعلها محسوسة. ولكن الفنّ ينتج بشكل خاص، تأثيرات حقيقية، وليس فقط مُتخَيَّلَة، وإذنْ فإن الصورة ليست معطى ذهنيا ولكن واقعا موجودا. هذا المُؤَلَّف يقترح تسهيل الوصول إلى الأعمال الحاسمة لدولوز، من خلال إعادة مساراتها، انطلاقا من هاجس أقصى درجات الوضوح.
الكتاب الثاني الهام هو «دولوز بأصوات متعددة، مقاربات وبورتريهات» Deleuze épars, approches et portraits عبارة عن مقالات قام بتجميعها «أندري بيرنولد» André Bernold و«ريشارد بينهاس» Richard Pinhas وصدرت عن دار النشر «هيرمان» في أكتوبر 2005. الكتاب يحوي مقالات متعددة، ونقرأ فيه وجهات مختلفة، بسبب تعددية اختصاصات المشاركين في هذا الكتاب/التكريم. من البداية، يجب أن نعترف بأن كل المشاركين لهم تقدير ومحبة كبيرة تجاه الرَّاحل. ومن هنا لا يجب أن ننتظر انتقادات، أيّا كان نوعُها. المشرفان على تجميع المقالات، كانا من طلبة الفيلسوف ومن مرافقيه الأوفياء. ويكفي أن نرى صورة واحدة لدولوز وهو يلقي محاضراته في «جامعة فانسين» حتى نلمَحَ الرَّجًُلَين، وهما يصغيان لحديث دولوز باهتمام كبير.
شارك في الكتاب المفكر الفرنسي، جون ـ ليك نانسي بمقالة هامة عن «الاختلاف المتوازي ما بين دولوز وديريدا» والمفكر، جون بيير فاي بمقالة عن «دولوز ظَهرا لِظَهر وفي الواجهة» في حين يكتب الباحث روجي ـ بول دروا عن «صُوَر ـ دولوز»، أما روني شيرير فيتطرق لـ«تصوف دولوز غير المؤمن»، ونقرأ مع جانيت كولومبيل عن «دولوز ـ سارتر: آثار»، ونقرأ في المقال نصا نادرا لدولوز عن الفيلسوف الراحل جون بول سارتر، وكذلك مقالا طريفا من توقيع أرنولد فيلاني بعنوان «كي يمكن للمرء أن يكون دولوزيا؟»... ثمة مقالات أخرى حميمة عن الراحل، يكتشف القارئ من خلالها جوانب غير معروفة من حياة المفكر. كما أن الكتاب يتضمن صورا نادرة للمفكر، بالإضافة إلى صور من مخطوط كتابه الشهير «نظرية التعدديات لدى برغسون».
كثيرٌ من الكتب الأخرى ظهرت أو أٌعيدَ إصدارها، ومن بينها «ما الفلسفة؟» لديل دولوز وفييكس غاتاريGuattari، وأيضا كتاب «فلسفة جيل دولوز«لـجون ـ كليت مارتين Jean-Clet Martin، الذي أعيد طبعه بالإضافة إلى العدد الممتاز من مجلة «لارك»، وأيضا الكتاب الذي صَدَر حديثا عن دار «لارماتون»: «جيل دولوز، اختبار الزمن» لـيان لابورت Yann Laporte أو كتاب «الصحراء أو استيتيقا جيل دولوز» لميراي بويدينس Mireille Buydens الذي سيصدُرُ قريبا جدا عن دار النشر «فرين».
لم ينس الباحثون والمهتمون جيل دولوز، ولم ينتظروا هذه الذكرى العاشرة كي يعودوا إليه من جديد، لكن المناسبة هي لتذكير الجمهور العريض بقامة كبيرة من وزنه، ولإعادة طبع كتبه القيمة، ومواصلة الحوار معها، خصوصا أنه من بين الفلاسفة الفرنسيين الأكثر شهرة في العالم إلى جانب ديريدا وفوكو وريكور.
جيل دولوز، مفكر يحتاجه بالفعل الواقعُ الصعبُ الرّاهن، السياسي والمجتمعي المُعَوْلَم، في وقت خَفَتَ فيه دورُ المثقفين في الساحة، إن لم يكن قد تلاشى نهائيا. كما أننا، نحن كعرب، افتقدنا فيه واحداً من ألمع المفكرين المتضامين مع قضايانا العادلة، وأصبحنا بالفعل من بين أيتامه.
|
|
نقلا عن جريدة الشرق الأوسط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق