الأحد، 16 يونيو 2013

المبدعون يعبثون بأجندات السياسيين في فرنسا

المبدعون يعبثون بأجندات السياسيين في فرنسا
المهاجرون العرب يثأرون لأنفسهم في الصالات السينمائية وبسنّ القلم
باريس: محمد المزديوي 

1 نوفمبر 2006/ صحيفة الشرق الأوسط


لعل ما أحدثه فيلم «اندجين في فرنسا» خلال أقل من شهر، يفوق في تأثيره النفسي والعملي ما استطاعت ان تحققه أعمال الشغب
التي اشتعلت في الضواحي الباريسية منذ سنة بالتمام والكمال. والمثير ان هذه الظاهرة لا تقف عند حدود «أندجين» وحده، فثمة أفلام أخرى وكتب ومقالات فعلت فعلتها في نفوس الفرنسيين في الفترة الأخيرة، وتفاعلوا معها، وأثرت بشكل مباشر على مسار حياتهم، ودفعت بالعديدين الى اتخاذ مواقف لم تكن متوقعة. الفرنسيون يحبون الكتب والأفلام، هذا ليس خبراً بحد ذاته، لكن ان تصبح الأفلام والكتابات عوامل تغيير جوهرية، فهذا أمر يستحق النظر.

ريديكير روبرت، ليس فيلسوفا خلافا لما يقال، هو مدرس فلسفة، وإذا كانت الفلسفة، حسب التعريف الدولوزي (نسبة إلى الفيلسوف الراحل الكبير جيل دولوز) هي اختراع المفاهيم، والكل يعرف قوة المفاهيم والحمولات التي تغصّ بها، فصاحبنا اكتشف، على شاكلة كتاب رديئين وجهلة، من أمثال تسليمة نسرين والإيطالية العنصرية فيلاّشي، أن الشهرة ربما تأتي من تحقير وذم دين سماوي نبيل مثل الإسلام. فقد فجرّ ريديكير قلمه، على طريقة كتاب القرون الوسطى الذين كنا نتصور أن البشرية، حاليا، تجاوزتهم، وأن التعارف والحوار والتفاهم هو الأساس الأوحد للنقد والوصول إلى الحقائق.
وكي نعرف مواقفه وحقده على العرب، لا بأس من قراءة مقالة في مجلة «ماريان» الصهيونية بتاريخ 10 يونيو 2006، وفيه اعتراف بخطئه في دعم الغزو الأميركي للعراق: «كنت مسكوناً بجمود الديمقراطيات إزاء ديكتاتوريات ما قبل الحرب. كما كنت أتصور أن العراقيين سيستقبلون الأميركيين بأذرع مفتوحة. كما أني بالغت في الإيمان بقدرة الأميركيين على معرفة الأرض، واندهشت من غياب كامل لأي مشروع لمرحلة ما بعد الحرب«.
وينتهي به الأمر إلى الإقرار بأن «الوضعية اليوم مأساوية، فالأميركان لا يستطيعون البقاء ولا يستطيعون المغادرة، ولكن يتوجب عليهم الاختيار في نهاية المطاف«. ثم يبلغ ريديكير ذروته في مقاله السجالي (البعيد عن أي نقاش موضوعي وعلمي) في «الفيغارو» الذي يتحدث فيه كيف أن «الحقد والعنف يسكنان الكتاب الذي يتربى عليه كل مسلم متعلم، أي القرآن». ويذهب في مقارنة سوريالية بين المسيحية والإسلام ويكتب: «إن اللجوء إلى محمد، يقوي الحقد والعنف».
تظهر خطورة هذه الكتابات في كونها جاهلة للتاريخ والدين الإسلاميين. إذ ان العديد من الذين قرأوا مقال أستاذ الفلسفة، لاحظوا أنه لم يفهم حتى كتاب مكسيم رودنسون، المستشرق الذي أغنى المكتبة العالمية بكتابات جديرة بالقراءة عن النبي، وهو يستشهد به.
مثل هؤلاء لن ينقرضوا، ويخطئ العرب والمسلمون إذا أضاعوا وقتهم وطاقاتهم في كل مرة بالتصدي لجاهل أو حاقد على هذه الشاكلة. ويبدو أن العرب والمسلمين لم يستفيدوا بعد من تجربة سلمان رشدي، ولا من الرسوم المسيئة للرسول.
حين يفرض الفن نفسه على السياسيين
يوم الأربعاء 27 سبتمبر 2006 أعلن سكرتير الدولة لشؤون المحاربين القدامى حملاوي ماكاشيرا (وهو من أصول جزائرية)، تسوية الأوضاع المادية لقدامى المحاربين الأجانب، وجعلها تتساوى مع ما يتقاضاه إخوانهم في السلاح من الفرنسيين. شيراك أراد بهذا وضع حد لخمس وأربعين سنة من الظلم، تحت تأثير فيلم «أندجين». ودون أن ينتظر معرفة المداخيل، أعلن رشيد بوشارب مخرج فيلم «أندجين» وممثلوه عن أول انتصار.
الفيلم الذي عرض بصالات كثيرة جدا، قياسا الى افلام من هذا النوع، هو عمل استثنائي، أسال الكثير من المداد: «فيلم درامي تاريخي من إخراج الفرنسي ـ الجزائري رشيد بوشارب، حاز جائزة هامّة (أهم الأدوار الرجالية لممثليه الأربعة: جمال دبوز وسامي بوعجيلة وسامي ناصري ورشدي زيم) في مهرجان كان السينمائي.
الفيلم يتخذ موضوعه الأساس من مشاركة مقاتلين وقنّاصة ورماة من المغرب العربي ومن أفريقيا السوداء، في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، ولكن حقوقهم هُضمت وعاش أغلبهم على الكفاف قبل أن يموتوا في نسيان عارم، وما تبقى منهم، وهم لا يتجاوزون المائة ألف، يعيشون على الأوهام والذكريات ويتلقون مساعدات مادية لا تتجاوز عُشُر ما يتلقاه رفاقهم من الفرنسيين.
الفيلم لا يطالب فقط بإصلاح هذا الخطأ التاريخي، ويبدو أن هذا الخطأ سيتم إصلاحه، فيما يخص الأحياء، إذْ أن الرئيس الفرنسي شيراك الذي حضر صحبة العديد من المسؤولين والذي تأثر كثيرا لمشاهد الفيلم، قرّر، (الصحافة تنقل بأن سيدة فرنسا الأولى صاحت، وهي تشاهد الفيلم، بزوجها: «جاكْ افعل شيئا ما»)، زيادة المعاشات التي يتلقّاها المُحاربون القدامى غير الفرنسيين.
الفيلم لا يلتفت فقط نحو الماضي، ولكنه يروم الانفتاح على المستقبل، إذ هو يذكر المسؤولين الفرنسيين والطبقة السياسية الفرنسية بأن كل مشاريعها لإدماج الأقليات المرئية فشلتْ، ولا يزال أحفاد أولئك الذين صنعوا تحرير فرنسا يعانون من عنصرية وتمييز قاسيين.
الفيلم الناجح يكون زواجا بين عوامل ناجحة ومتجانسة، ومن أهمها مخرج ذكي، وممثلون يؤدون أدوارهم ويتقمصونها بحذق ومهنية، وتمويل سخي، وجمهور على موعد مع الفيلم. بوشارب مخرج فرنسي، من أصول جزائرية، من أذكى المخرجين الشباب، أما الممثلون الأربعة، فهم معروفون، وعلى رأسهم الجزائري سامي ناصري الذي لمع في فيلم «تاكسي1 وتاكسي 2» وغيره. أما المغربي جمال دبوز، الذي ساهم، جزئيا، في تمويل الفيلم، بعد رفض المسؤولين الفرنسيين وقنوات التلفزيون الفرنسية فعل ذلك، فهو من بين أكثر الفنانين الفكاهيين، شعبية في فرنسا. وكان مُرتَّبُه الأول سنة 2004 مقارنة مع باقي الفنانين الفرنسيين.
يرى المؤرخ الفرنسي باسكال بلانشارد في هذا العمل «أول فيلم لا يندرج ضمن أي ميثولوجيا، ولكنه يؤدي دورا تربويا بذكاء، وضمن إطار تاريخي مُحدَّد». ولا يني المؤرخ يؤكد أن الفيلم سدَّ فراغا تاريخيا كبيرا: «هذا الفراغ، هذا الغياب للتمثيلات الرسمية، الذي يعود لِعُقود من الزمن. وحده من يمسك بآيديولوجيا مُحدَّدَة هو من يستولي على هذا التاريخ». سيواصل هذا الفيلم، الذي لن يتركَ أحدا على الحياد، إسالة الكثير من الجدال. إنه يفتح صفحة مؤلمة من تاريخ فرنسا لمّا تُدْرَس بعدُُ، أو أنها لم تُدْرس بشكل كافٍ، ويصفع بقوة أولئك النواب اليمينيين الفرنسيين، الذين صوتوا في غفلة من الضمير والزمن، على قرار برلماني، سرعان ما ألغاه شيراك، يعترف بـ«الدور الإيجابي للاستعمار الفرنسي». الزعيم الفرنسي العنصري، جون ماري لوبين، عبّر عن رغبته في مشاهدة الفيلم، ولكنه حتما لن يوافق على موضوعه.
ليس لوبين العنصري وحده، من لا يوافق على موضوع العمل، إذ أنه يخشى من مرحلة ما بعد الفيلم، ونقصد تطبيع وضعية أبناء الجمهورية من أصول غير أوروبية. فحتى وزير الداخلية نيكولا سركوزي عبّر عن تشكيكه في نجاح الفيلم، ولم يتوان عن التذكير بفشله في تحقيق الإيرادات، وأضاف ساخرا ومعلقا على تخصيص مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» صفحتها الأولى للفنان جمال دبوز، بالقول: إن مبيعات المجلة تهاوت بسبب صورة دبوز على الغلاف، وهو ما كذبته المجلة بقوة. لم تخسر فرنسا كثيرا، من الناحية المادية، حين صححتْ خطأها إزاء المحاربين القدامى، إذْ أن أغلبهم قضى، ولكنها، وهي تمنح الدروس لعديد من الدول، وخصوصا تركيا، حول المسألة الأرمنية الشائكة، تجد نفسها، الآن، في موضع أقوى من السابق.
تأثير فيلم «أندجين» على القرار السياسي لم يغب عن ذهن معلّق صحيفة «لوموند» الفرنسية «ناثانييل هيرزبيرغ» الذي رأى أن هذا الفيلم، ليس التعبير الفني الوحيد الذي أثر على الساسة، إذ أن هناك رواية «نوتردام دو باري» لفيكتور هوغو التي ساهمت في إنشاء مفتشية الآثار التاريخية، كما أن فيلم «ميرفين لوروي«(أنا هربت) لعب دورا حاسما في تحريم الأشغال الشاقة وربط السجناء في الولايات المتحدة، وأيضا فيلم «أريد أن أعيش» لروبرت وايز كان له وزن في بعض الولايات الأميركية التي ألغت حكم الإعدام. ويختم المعلق بالقول: «انّ فيلم «أندجين» ونجاحه، يبعثان صورة أقل لمعانا عن «سَيْرَكنا الكاتودي». كما أنهما يوقعان، على طريقتهما، هزيمة السياسيين، ولكنهما يُذكّران أيضا الفنانين بأنه في ساعة الخيبة والانطواء، لا يزال يمكن لفيلم أن يغير العالَم».
الذكرى الأولى لانتفاضة الضواحي: لا شيء تغير
يكره ساركوزي ذكر كلمة «ذكرى أولى» لوصف مرور سنة على اشتعال الانتفاضة، ويرفض الإقرار بالحقائق التي كذّبت كل توقعاته واتهاماته. الانتفاضة التي اشتعلت بعد موت المُراهٍقَين، «زياد» و«بونا»، صعْقا بالكهرباء بعد أن طُورِدَا من قبل الشرطة الفرنسية، اتهمتهما ظلما وعدوانا، بمشاركتهما في أعمال سرقة وعنف. في مثل هذه الأيام، من العام الماضي، اشتعلت الضواحي الفرنسية خلال فترة طويلة معلنة تمردا أو ما يشبهه ضد قوانين الجمهورية الفرنسية «الظالمة» أو غير المكترثة» لمآسي ومعاناة أبنائها من الأصول المغاربية والسوداء.
وُعودٌ بمساعدات، تبلغ مئات الملايين من اليورو لم تصل أبدا، والحالة على حالها، والتوتر سيد الموقف، ولا شيء يمنع من أن تشتعل من جديد. وقد جاء تقرير، من فترة قصيرة، للاستخبارات يحذّر من انتفاضة قادمة، إذْ أن كل شروطها متوفرة. التظلمات التي بلغتْ عشرات الآلاف وصلت إلى البرلمان، علامة على أن أصحاب الضواحي لا يتقنون فقط أسلوب الحرق والتخريب، ولكن استقبال أصحاب الشأن السياسي لها فاترا.
ولأنّ الأمور لم تستقم بعد، فقد ظهرت في نفس أماكن اضطرابات السنة الماضية، طرقا جديدة في الصراع المفتوح بين الشرطة والشباب. طرق تتخذ أشكال الكمائن المسلحة (من بالغين وأحداث) والشعارات الحائطية التي تهاجم وزير الداخلية مباشرة بالاسم، وأغاني الراب التي تُهاجم الشرطة والوزير معا.
لا شيء حدث بعد ما وقع العام الماضي. عينُ اليمين الحاكم على الانتخابات القادمة، واستطلاعات الرأي تمنح سركوزي ومعالجته الأمنية القمعية (وحدها) لأزمة الضواحي قبولا كبيرا لدى الناخب الفرنسي الباحث عن الأمان. ويذهب النائب البرلماني اليميني، عن مناطق الاحتجاجات إلى درجة الطلب من المواطنين القيام بدور الوشاية. يعللها بكونها «وشاية جمهورية»..
أما الحكومات المغاربية، التي نفضت أيديها من مثل هذه القضايا الفرنسية ـ الفرنسية، فهي لا تفعل شيئا سوى انتظار عودة رعاياها لحلبهم حين يعودون إلى البلاد.
تجدر الإشارة إلى أن العديد من المجلات والجرائد الفرنسية كرست ملفات كبيرة حول المشكلة، ويمكن، في هذا الصدد، قراءة العدد الممتاز من «Manières de voir» الذي تنشره مجلة «لوموند ديبلوماتيك» ومجلةRevue Esprit  وكذلك مجلة Annales وغيرها من المجلات والكتب.

الحركيون والانتقام من التاريخ بالكتابة

بدأت الأصوات تتعالى من أجل تصحيح خطأ تاريخي آخر، ويتعلق الأمر بالحركيين. وهم الجزائريون الذين حاربوا مع الجيش الفرنسي في الجزائر ضد أبناء جلدتهم من مناضلي جبهة التحرير الوطنية، وربطوا مصيرهم بمصير فرنسا. بدأت تنكشف بفضل مؤرخين وروائيين شباب من أبناء هذه الطائفة، حقائق مأساوية عاشوها حين وصلوا إلى فرنسا. حقائق لم يكن أحد من المعجبين بفرنسا/حقوق الإنسان يعرفها أو يتخيلها.
وليس من الجديد التذكير بأن العديد منهم تُرِكُوا في الجزائر ليلقوا مصيرهم القاتل على أيدي مناضلي جبهة التحرير الوطنية المنتصرة. وأما المحظوظون منهم، والذين نجحوا في العبور إلى فرنسا، فقد عاشوا لعقود حياة تصعب على الوصف. فقد وُضعوا في معسكرات محاطة بالأسلاك الشائكة، ومنعوا من الالتقاء بالفرنسيين. وكأنهم مصابون بأمراض معدية. وتعرضوا لمعاملات قاسية من الجنود الذين كانوا يحيطون بهم. ولم تتح لهم فُرَص الخروج إلى العلن إلا منذ فترة قصيرة.
تقفز إلى الذهن دليلة كرشوش Dalila Kerchouche من خلال كتابها اللافت: «أبي، هذا الحَرْكي «Mon père, ce harki، وفيه تتناول هذا الماضي «المخجل»، وتتحدث عن أبيها المنحدر من جبال شليف الذي سيخون بلده، الجزائر، حين انخرط سنة 1956 في القوات الفرنسية، وتتحدث أيضا عن أخيها الأكبر «محمد» الذي انتحر، شنقا، سنة 1996، عن عمر 35 سنة، وكيف أن إخوتها وأخواتها عاشوا محاصرين بالأسلاك الشائكة في جنوب فرنسا، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تعيش على إيقاع «الثلاثين الخالدات» (سنوات الازدهار الاقتصادي الكبير).
والكتاب ليس الأول الذي تنشره هذه الشابة التي لا تتجاوز الثلاثين من العمر، إذ سبق لها أن نشرت كتابا يحمل عنوان: Leïla : Avoir dix-sept ans dans un camp de harkis وهو نص سردي عن حياتها في هذا المعسكر القاسي.
ومثلما حدث مع «أندجين»، بدأ يحدث مع هذا الموضوع الذي توقف عن أن يكون «تابو». بدأت فرنسا الرسمية تفرج عن الوثائق، وتعترف بمسؤوليتها وتحاول الآن أن تعتذر، دون أن تفقد ماء الوجه. وقد نجحت دليلة كرشوش، في العثور على تمويل كاف استطاعت من خلاله إخراج فيلم لاذع عن هذه المأساة، حرّك شجون الفرنسيين وكشف لهم خيوطا مجهولة من تاريخهم، خيوطا لا تدعو للفخار. وكم كان الفنان الفرنسي «إسماعين» من أصول جزائرية، لامعا في هذا الفيلم. ولأن الأشياء الجميلة لا تأتي فرادى، فقد أشرف المخرج والصحافي الفرنسي سيرج مواتي على إخراج فيلم وثائقي مستلهم من كتابات دليلة.
هذا دليلٌ آخَر على أن الكتابة تستطيع فعل شيء. بمقدورنا من الناحية التاريخية والسياسية أن نلوم هؤلاء الحركيين على موقفهم، وهو موقف شبيه بجيش لبنان الجنوبي، ولكن ما ذنب أبنائهم؟!

رقابة فرنسية على "سيلين"، أو حين يتنكر البلد لِمبدعيه!

شرطة الثقافة في فرنسا تحرم فرنسا الأدبية من الاحتفال بكاتبها الأعظم فرديناند سيلين
الرقابة هي فرنسية، أيضا



باريس. محمد المزديوي
23 يناير 2011
مرة أخرى يواصل الصهاينة الفرنسيون، أوصياء الثقافة، مُطارَدة الأدب الفرنسي، بدعوى معاداة السامية. وليس الأمر مسألة فردية، بل أصبح مناخا عاما. فبعد كتاب "بادية فرنسا"، للفرنسي رونو كامو، الذي اتهم فيه الصهاينة، قبل سنوات، بالاستيلاء على الإعلام الفرنسي، فتم منع كتابه، ولم يُطلق سراح الكتاب حتى صبغت باللون الأبيض الفقرات التي يتناول فيها هيمنة الصهاينة على الإعلام والميديا والثقافة. وأسلم رونو كامو نفسه للنوم حتى استيقظ، بعد غسيل دماغ (شارك فيه كتاب صهاينة من بينهم ألان فينكلكروت)، ولم يَعُد يرى أمامه من عدوّ سوى الإسلام والتطرف الإسلامي. إذنْ فالأمر ليس حدثا فرديا، بل إن الكثير من الأصوات يتم تكميمها ومطاردتها، كما أن النصوص والأصوات التي تريد أن تنتقد الهيمنة الصهيونية على الإعلام والميديا، تتعرض للمنع والتهديد. ولعل مثال العجوز هيسيل(الذي يتجاوز التسعين سنة)، الذي يُحارَب ويطارد وتمنع الندوات التي يشارك فيها، على الرغم من كونه يهوديا، بل وهو من المُرحَّلين من ضحايا النازية، دليل على أن الصهاينة قادرون على محاربة أبناء جلدتهم إن كان عندهم رأي يخالف الإجماع الصهيوني.
آخر مثال لضحايا الصهيونية الثقافية في فرنسا، هو الكاتب الفرنسي الكبير فرديناند سيلين، صاحب رواية "سفر في آخر الليل"، التي صدر سنة 1932 والتي تعتبر إلى جانب "البحث عن الزمن الضائع" لبروست، أهم روايتين فرنسيتين في القرن العشرين، وبالتالي فالروائي سيلين (وهم اسم جدته) وبروست يعتبران أهم روائيي فرنسا في القرن الماضي والأكثر ترجمة في اللغات الأجنبية.      
وكان سيلين قد رحل عن عالمنا يوم 11 يوليو سنة 1961، أي قبل خمسين سنة تقريبا. وهو ما جعل اسمه يدخل ضمن قائمة كتاب عديدين تحتفل بهم فرنسا، ووزارة الثقافة الفرنسية، هذه السنة، ولكن الدوائر الصهيونية كانت بالمرصاد، فدفعت بعض أوصياء الثقافة ومن بينهم المحامي اليهودي الفرنسي سيرج كلارسفيلد، رئيس جمعية أبناء وبنات المرحلين اليهود، إلى التدخل وممارسة الابتزاز والتهديد ضد الساسة الفرنسيين، ومن بينهم وزير الثقافة الفرنسي الحالي، فريديريك متران ( الذي يعتبر غير كبير أهمية إذا ما قورن بالروائي أندري مالرو، وزير ثقافة الجنرال شارل دو دوغول، أو جاك لانغ وزير الثقافة في عهد فرانسوا ميتران)، ابن أخ رئيس الجمهورية السابق، ومسؤولين آخرين في الجمهورية، من أجل سحب اسم سيلين من قائمة المحتفى بهم. وكان لهم ما أرادوا. وها هو اسم سيلين، صاحب "سفر في آخر الليل" وأكثر الكتاب الفرنسيين، احتفاء باللغة والأسلوب الفرنسيين، غريبا في وطنه.  
وإذا كانت شبهات معاداة السامية ظاهرة في بعض كتب سيلين، فهي موجودة في كتب نظرية، وليست في رواياته التي تعتبر احتفالا بالكتابة والأسلوب. وهذه الفكرة دافع عنها العديد من الكتاب الفرنسيين، الذين رأوا في انهيار وزير الثقافة أمام ضغوط الطائفة اليهودية، انهيارا للعلمانية الفرنسية، وتدخلا للدين في مجال الثقافة والأدب. وهو ما ليس بالأمر المقبول. ولو كان الأمر يخصّ الثقافة الإسلامية لكان الأمر غير ذلك. ويكفي أن المثقفين الفرنسيين ورئيس الجمهورية ساركوزي تداعوا جميعا للدفاع عن حق رسامي الكاريكاتير في تصوير نبينا الأعظم (ص)، دون مراعاة لشعور المسلمين.
الروائي بيير أسولين، وهو كاتب من أصول يهودية، ندد بمنع سيلين، واعتبر أن الأمر غباء كبير. ومن جهته أكد الفنان المسرحي فابريس لوشيني (الذي قرأ خلال سنة مقاطع من فصول سفر في آخر الليل لسيلين في أحد المسارح الباريسية بنجاح منقطع النظير) امتعاضه من منع الاحتفال ب الكاتب الفرنسي الكبير، وعبر، في سخرية ظاهرة، عن مخاوفه من منع رواية "سفر في آخر الليل"... ونبّه إلى حقيقة يتناساها الرقيب الغربي، وهي ضرورة الفصل بين حياة الكاتب ومؤلفاته، احتراما للأدب والثقافة.
قد يكون سيلين معاد لليهود، وقد كانه بالفعل، ولكنه، مع ذلك، وفوق ذلك، من أهم روائيي فرنسا والعالم...
حتى لا يقول قائل: الرقابة فقط موجودة في بلاد العرب!