السبت، 12 أبريل 2014

خليل النعيمي: "يصعدُ الجبلَ بعد عشرين قرناً الرجلُ الذي جاء من بادية الشام. يصعده باحثاً عنهم، عن آبائه، الذين عرفهم أكثر مما عرف أباه"


الروائي والكاتب خليل النعيمي لـ «العرب»:
كتابتي عن الأمكنة تكاد تكون كتابة سرية للرواية
2009-07-18 
حاوره من باريس: محمد المزديوي 
يستعد الجرّاح والروائي والرحالة العربي خليل النعيمي لنشر نصوصه الجديدة عن رحلته إلى أوزبكستان، حيث تتبعَ بعض خطى جده الحكيم والفيلسوف ابن سينا وتأمَّلَ طريق الحرير وكذا الطريق التي تتبعها تيمورلنك وهولاكو، وآخرون في رحلتهم المدوية حتى انكسارهم على أبواب دمشق (بالطبع ليست "دمشق 67" وهي رواية للكاتب).. وقد صدرت، منذ فترة قصيرة، طبعة ثانية لكل من رواية "تفريغ الكائن" ورواية "الخلعاء" (التي كتبت بجرة قلم واحدة، ومن دون نقاط ولا فواصل) وقد التقيناه في باريس، مدينة إقامته، وهو عائد للتو من لقاء هام حول أدب الرحلة وارتياد الآفاق عقد في الرباط (بالتنسيق بين مديرية الكِتَاب التي يديرها الشاعر حسن نجمي وبين مؤسسة "ارتياد الآفاق" التي ينسق أعمالها ودورياتها الشاعر السوري المقيم في لندن نوري الجراح) .. وكان هذا الحوار اللافت والصريح والشامل عن البدايات الباريسية والصخب الثقافي الباريسي (الذي خَفتَ كثيرا) وعن "موت الشعر" وعن أدب الرحلة وغيرها.

- نريد أن نعرف بدايات الدكتور خليل النعيمي الباريسية؟
* عندما وصلت إلى باريس في منتصف السبعينيات، بعد أن أنهيت دراسة الطب والفلسفة في جامعة دمشق، وبدأت تسجيلي في باريس في السوربون للتخصص في الجراحة ولمتابعة الدراسة في الفلسفة السياسية المعاصرة، كانت باريس، آنذاك، في قمة نشاطها الفكري والإبداعي، وأكاد أقول والجنسي أيضاً، لأن هذه السنوات القليلة التي تلت ثورة الطلاب في سنة 1968 كانت قد انفتحت على حركية اجتماعية سياسية هائلة، خاصة في الحي اللاتيني. وأتذكر، الآن، أنني حين كنت أهبط شارع "سان ميشيل" من ليكسمبورغ حتى نهر السين، كنت ألتقي بعشرات من المحلات والأكشاك التي تبيع الجرائد، وبخاصة الجرائد الثورية، جرائد الفوضويين: "الإباحي"، و "العالم الإباحي"، و "الطريق"، وجرائد الحركات السياسية المتمردة الأخرى التي كانت تُباع على الرصيف، ونشرات حركة الـ "situationistes"، و"اشتراكية أو بربرية"، بالإضافة إلى الجرائد والمجلات المعتادة. وكانت الفئات اليسارية في فرنسا في تلك المرحلة نشيطة جدا وتقيم الاجتماعات واللقاءات التي تكاد تكون يومية. والحركة السياسية في أوج نشاطها.

- القليل فقط من الكتاب والمثقفين يعرفون أنك أسهمت في إثراء الجدل والنقاش والمعارك الثقافية والسياسية في باريس، إلى جانب أسماء كعبدالقادر الجنابي والتونسي العفيف الأخضر، كما أنك أصدرت كتاباً لافتاً بعنوان "موت الشعر".. فهلاّ حدثتنا عن هذه الأشياء؟
* في هذه الفترة التقيتُ بأصدقاء عرب وصلوا أيضاً مثلي للتو إلى باريس، كان هناك شلة من الشباب الذين يهتمون بحال المجتمع العربي، والذين كانوا يبحثون عن منظور آخر للحركة السياسية العربية، لأننا مبكراً، في ذلك الوقت، بدأنا نحس أن الوضع السياسي العربي راكدٌ وسكونيٌّ ولن يؤدي إلى نتيجة، وأن الحركات العربية السياسية، خاصة في شقها اليساري الذي كنا نسميه في ذلك الوقت بـ "الشق الستاليني"، هي حركات أُفُقُها مسدود، وليس لديها منظور تاريخي. كانت تبدو لنا حركات كسيحة، ومشوِّهَة، أقصد أنها تشوِّه الواقع والتاريخ، وأتذكر أن أحد الأصدقاء كان يقول لي مبكراً إن الامبريالية السوفييتية ستنتهي قبل أن تنتهي الإمبريالية الأميركية، وكان هذا القول بالنسبة لي، آنذاك، وأنا القادم للتو من دمشق المحافِظة، نوعاً من التجديف، لأنني كنت أتصور أن الاتحاد السوفييتي بعظمته وأيديولوجيته التي هيمنت على العالم الثالث لعقود طويلة سيستمر أكثر من ذلك، وسيعمّق مسيرته الاشتراكية. هذا اللقاء "الباريسي" بالحركة السياسية الهامشية، عربياً، كان له تأثير عميق على توجهاتي واهتماماتي، حتى في مجال الكتابة، ولا تنسَ أنني وصلتُ إلى هنا، و "فكري" ملتبس وبليد، مع أن توتّراتي كانت في أوجها. هذا اللقاء العربي المنفَلِت معهم، والذي ترافق، بطبيعة الحال، بلقاءات أخرى مثيرة، وبخاصة مع "ثقافة" الفلاسفة الفرنسيين النقديين الذين أنشؤوا ما يمكن أن نسميه حركة الـ "situationistes"، أو فلسفة الأوضاع، وهي حركة ألقت الضوء بشدة على الخاصية الراكدة أو الساكنة أو اللا متحركة للفكر اليساري العالمي الذي كان سائداً آنذاك. هذه اللقاءات المتوترة والخاطفة هي التي ستهزّ أركان تكويني النفسي والعقلي والإبداعي. وكان أحد أهمّ الأسماء في هذا التيار، تيار الثقافة النقدية المُجدِّد هو "غي دوبور" الذي كتب "المجتمع المشهدي"، وقد كان أحد الأعمدة الأساسية في ذلك الحين، كان هناك، أيضاً، إلى جانبه صديقه "فانيغيم" الذي كتب أكثر من خلاصة ومن كتاب يعالج فيها وضع الإنسان في المجتمع الرأسمالي. وتكمن أهمية هذه الحركات في أنها كانت ترفض النهج الستاليني، وحتى التروتسكي المتشدد، وتحاول أن تخلط "ماركس" بـ "هيغل"، وهي تكاد تكون على حافة الحركة الفوضوية، إنْ لم تكن "فوضوية نقدية" بحق. ومهما يكن الأمر فقد شغفَتْني الحركة الفوضوية والتي كنتُ، أنا أيضاً، وإلى سنوات عديدة، أعتبر نفسي تابعاً لها.

- هل ظهر كتابك "موت الشعر" في هذه الفترة؟
* في هذه الفترة أصدرتُ كتيّبا صغيرا اسمه "موت الشعر"، وهذا الكتاب صدر في باريس عن دار نشر صغيرة، وأُعيد طبعه في مجلة دراسات عربية الصادرة عن دار الطليعة، في بيروت. هذا الكتيب اعتمد على دراسة لشعر أدونيس باعتباره أحد كبار الشعراء العرب الأحياء، وانطلَقَ من نظرة خاصة إلى دور الشعر وارتباط الشاعر بالسلطة، وعلاقة الشعر بالجمهور وبالتالي محدودية التأثير النقدي للشعر في الفكر الإنساني على المستوى السياسي وعلى مستوى الوعي أيضاً. لكنني فيما بعد لم أتابع هذه الأطروحة التي ضمّنتُها في "موت الشعر".

- من المفروض أنك جئت إلى باريس لدراسة الطب، لكنك لا تكاد تذكر هذا الجانب حين تتحدث عن بدايات باريس وتركز أكثر على الجوانب السياسية والفلسفية والفكرية.. فهل لأنك مأخوذ بالثقافة أكثر؟
* أتصور أن السبب في ذلك هو شغفي بفكرة المجتمع، فأنا كبدوي نشأتُ في الصحراء وكبرتُ فيها، تعلمتُ صدفة ودخلتُ الجامعة فيما بعد، لأدرس الطب والفلسفة، كانت تحركني رغبة عميقة في التواصل مع الآخرين، كنت أتصور دائما أنه لا يمكن أن ننفذ إلى قلب الكائن إلا عبر الفكر، وأن العمل المادي، جراحياً أو غير جراحي، ليس وسيلة أكيدة لتقريب الناس بعضها من بعض، وأن العمل بعلاقاته الاجتماعية المزيفة، غالباً، ما يكون مصدر نفور وإرهاق. ولأنني من عائلة أُمّية، ومن قبيلة أُمّية بالكامل، صرت أحس بقرابة عميقة مع المفكرين والفلاسفة والكتاب الذين أقرؤهم، كانوا هم آبائي الحقيقيين، حتى أنني عندما زرت أثينا، وصعدت إلى صخرة الأكروبول، كنتُ أكتب برأسي، وأنا أَرْقى، الُجمَل التالية: "يصعدُ الجبلَ بعد عشرين قرناً الرجلُ الذي جاء من بادية الشام. يصعده باحثاً عنهم، عن آبائه، الذين عرفهم أكثر مما عرف أباه". هذا المقطع يلخص تقريباً اهتمامي العميق بالفكر وبالكتابة وبالأدب، لأنني أتصور أن الانتقال من مجتمع بدوي مسطح وأفقي، وهو مجتمع إلى حد ما غير تراتبي ولا تراكم فيه، لا للثروة ولا للمعرفة، إلى مجتمع مثل المجتمع الدمشقي ثم المجتمع الباريسي، بعد ذلك، جعلني أحس بأهمية الاتصال بالآخر، وأبحث عن طريق أكثر حميمية وعمقاً، غير طريق المهنة، للوصول إلى ما أُريد، ووجدتُ أن الكتابة، والرواية منها بشكل خاص، قد تكون أفضل الوسائل لبلوغ ذلك. ولا بد، أن ثمة مسالكَ أخرى للتفسير، لكن تفسيري هو هذا.

- تحدثت عن "موت الشعر"، والتجأت إلى كتابة الرواية، ولك العديد منها.. فهل هذا الزمن هو زمنُ الرواية؟ ثم إنك تكتب أدب الرحلة إلى جانب الرواية.. فهل الرواية عاجزة عن قول كل ما تريد أن تعبر عنه؟
* بدأتُ نشاطي الأدبي شاعراً، وأصدرتُ أول كتاب لي وهو ديوان "صُوَر من ردود الفعل لأحد أفراد العالم الثالث" وكنت طالباً في كلية الطب في جامعة دمشق. والديوان مُنِع في دمشق بعد أسابيع من صدوره، مع أنه تمت الموافقةُ على طبعه وتداوُله. صُودِر، وأُعْدِم، ولم يبق لديّ منه إلا نسخة واحدة للذكرى. قد يكون ذلك المنع التعسّفي، عاملاً من عوامل هربي من الشعر، أو هرب الشعر مني، إذا أردنا الدقة. وعلى أي حال، كنتُ في ذلك الوقت، أقرأ كثيراً، والتقيتُ بديستوفسكي وجعلتني قراءتُهُ، هو بشكل خاص، إضافة إلى كتاب آخرين، أنتقل من طور إلى طور. من طور الوعي الشعري المُسطَّح العاطفي البرّاق اللفظي الذي يكاد يكون لَغْواً، إلى طور آخر. طور جعلني أقشعرُّ تحسُّساً، وارتباكاً. جعلني أعيد النظر في علاقتي الشخصية بكل شيء تقريباً. وهو شعور كان بالنسبة لي في ذلك الوقت لا يمكن تصوّره، لأنه، ببساطة، يقع في نطاق المقدّس الذي لا يخطر التفكير فيه، حتى مجرّد التفكير، على البال. مع ديستوفسكي، أدركتُ أن على الكائن أن يشك في كل شيء. حتى بعائلته، في أهله، في أبيه، في أخيه. في هذه الأثناء حدث، فجأة، ما يشبه القطيعة بيني وبين الشعر.

- كيف انتقلت إلى أدب الرحلة؟
* أنت تعرف أنه قد صدر لي قبل الآن، سبع روايات وثلاث كتب حول الرحلات... الكتاب الأخير "قراءة العالم" حاز على جائزة ابن بطوطة للرّحلة المُعاصرة، التي تمنحها دار السويدي في أبو ظبي. أما لماذا التجأتُ إلى كتابة الرحلة؟ فمنْ يدري؟ لكنني أستطيع أن أُبَسِّط الأمر فأقول إن انتقالي من دمشق إلى باريس وانتقالي من قبل من البادية إلى دمشق فتّح عينيّ، بعمق، على أهميّة المكان. وصرت أحسّ بشكل من الأشكال، بماهية العلاقة الخفية والسرية بين الكائن والمكان. وبدأتُ أرى ما يحيط بي بشكل آخر.. حتى أنني صرت أنظر إلى أبي وهو في الصحراء وإليّ وأنا في المدينة وإلى الآخرين وكأننا جزء من "الأمكنة" لا كائنات مستقلة عنها. وبدأتُ أخلط بين الكائن والمكان. وبالتالي فإن المكان لم يَعُد شيئا مجرَّدا.. لم يعُد منظراً ولا مَشهداً، ولم يعد حجارة وأنواراً وشوارع، فحسب. لقد صار بالنسبة لي "وضْعاً إنسانياً" له اعتباره الخاص. إنه كالكائن يحيا ويموت. أقصد يتجدد مثله ويهترئ. ثمة أماكن ننساها، ولا نعود نزورها. وهناك أمكنة تغدو، فجأة، "على الموضة"، يزورها الناس مع أنها لا تضيف لهم شيئاً. وإذا ما أردنا أن نذهب في هذا المنطق إلى آخره، نستطيع أن نقول: "إن المكان هو كل شيء في الوجود". واضح؟ للمكان حياته. له أبعاده وتعقيداته، وله معتقداته. لكن كتابتي عن الأمكنة تكاد تكون كتابة سرية للرواية، أو هي الرواية من وجهة نظر مكانية، بالأحرى. لأني عندما أحكي عن الأمكنة أجد لنفسي، أيضا، مكاناً، ولكن أين هو مكاني؟

- ولكن لِمَ تفعل ذلك؟ ما هدفك، أو غرضك؟
* ما يجعل كتابة الرحلة ممتعة هو شعور اختراق الحدود الفعلي عندما نرحل. وبالفعل نصير نحس أننا نتجاوز كل الحدود عندما نترك المكان الذي نحن فيه، الذي ألفناه، والذي عرفناه وأنشأنا فيه صداقات وأقمنا فيه علاقات إلى مكان آخر. في الرحلة يغدو تَرْك المكان المألوف شبه أسطورة. وهذا الإحساس الغامض هو نوع من العلاقة الحميمة، بين الكائن والمكان، قبل أي شيء آخر، فعندما نترك المكان المألوف وننتقل إلى مكان آخر، خاصة إذا كان المنتقل أو الراحل أو المسافر مبدعا أو كاتبا أو مفكرا فإن "الحدود" عنده تتقلص وتتلاشى كثيراً. وبالتالي يصير يشعُر بحرية أكثر. وقد يشْعُر أيضاً بأن كتابة الرحلة هي اللحظة الوحيدة التي ليس عليه أن يتقيد فيها بنمط معين، لا من حيث شكل الكتابة ولا من حيث المشاعر ولا من جهة الخطاب، فهي كتابة لا يتوجه فيها إلى أحد، أو على الأقل، هذا ما أحس به أنا. وهو ما أسمّيه أنا: "الكتابة المباشرة" لأنها كتابة حيَّة، آنيّة، تصف العلاقة العاطفية مع ما، ومَنْ، نرى ونعايش "على الحارك". هي لا "تُفَبْرك"، ولا تُزيِّف. هي أصدق الكتابات لأنها كتابة تفرضها علاقة المنظور وعلاقة الإحساس بين الكاتب وبين المكان الذي يتحرك فيه، في كتابة الرحلة ليس هناك رسالة، أو هي رسالة إلى مجهول.

الخميس، 10 أبريل 2014

جهل الساسة المطبق بقضية فلسطين وتآمرهم عليها!

فيديو؛ لماذا وصف وزير خارجية المغرب، الذي أهانه البوليس الفرنسي، ولم ينتفض، مفاوضات التسوية بالمسلسل؟


لأنه، كغيره من الساسة العرب، جاهل بالصراع العربي الصهيوني، أو لأنه متواطئ... 
لا حل إلا بالحل العُمري... ولكن هل يعرف هؤلاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه؟!!!!

Borges عن بورخيس ومراياه ...



الوجه المستحيل
بورخيس.. وقصة المرايا
نقلا  عن مجلة الرافد شهر شباط 2014


إعداد: محمد محمد المزديوي
يتصدى المفكر الفرنسي جان-فرانسوا ماتيي (عضو المعهد الجامعي الفرنسي والأستاذ في جامعة نيس-صوفيا-أنتيبوليس، ومؤلف العديد من الكتب عن الفكر الإغريقي والعالم الحديث) لجانب لم يدرس، بما فيه الكفاية، في عمل خورخي لويس بورخيس، وهو الفلسفة. ولهذا السبب أصدر، سنة 2010، كتيباً شيقاً عن بورخيس بعنوان: «خورخي لويس بورخيس والفلسفة». ومن جهته لا يتورع بورخيس عن التذكير بعشقه للفلسفة. ويروي أن إعجابه بالفلسفة يعود إلى طفولته. فقد ساعده والده على اكتشاف سباق أخيل والسلحفاة على رقعة شطرنج مصنوعة من خشب الأرز.
وقد قمنا بترجمة هذا الجزء المعنون بالوجه المستحيل من الفصل الأول المعنون بالذاكرة.
إن افتتان خورخي لويس بورخيس بالمرايا يَعبُرُ كل عمله. فبالإضافة إلى المرايا المُقنَّعة سنة 1934 إلى مرايا الألغاز سنة 1940، وقصيدة المرايا سنة 1959، نجد ثلاثة نصوص، اثنان منها نثريان والثالث شعري، مكرسة للمرايا، دون مساس بالعدد الكبير من القصص التي ترد فيها المرايا بكثرة. المرآة والقناع، سنة 1975، هي حكاية ذات مغزى أخلاقي حول قصيدة القصائد، القصيدة الأخيرة التي تمحو كل القصائد الأخرى، مثلما يمحو كِتابُ الكتب كلَّ الكُتب الأخرى. في أزمنة خلت طلب ملك إيرلندا من شاعره الملحمي كتابة قصيدة تمتدح انتصاراته. وفي نهاية السنة عاد الشاعرُ إلى البلاط وألقى قصيدة طويلة أثارت إعجاب الملك واستحق عليها مِرآة من الملك. ولكن الملك طلب منه قصيدة أخرى أكثر جمالاً منها أنشدَها الشاعر في السنة التالية بسحر، جعل القصيدة، على قِصَرها، تبدو عصية على التجاوز. منحه الملك قِناعا من ذهب، وألحّ في طلب قصيدة ثالثة، متذرعاً أنّ الأشياء الجميلة لا تأتي إلا ثلاثاً. بعد سنة من العمل الدؤوب، عاد الشاعر إلى البلاط. كان الشاعر قد تغيَّرَ وبدا كما لو أنه إنسان آخر وأصبح أعمى*. بعد تردد أنشد قصيدته الغنائية التي كانت عبارة عن سطر واحد. تأثُّرُ الملك بالغ التأثر بهذا البيت الشعري الذي يعبر عن كل عجائب العالَم جعله يمنح هدية أخيرة للشاعر: خنجرا. اقتسم الاثنان نفس الخطيئة: «خطيئة معرفة الجمال، وهي نعمة محظورةٌ على البشر». انتحر الشاعر عند خروجه من القصر، في حين أن الملك أنهى حياته متسولا يجوب طرق مملكته السابقة. ليس بمقدور البشر رفع لغز الوجود ومعرفة «الكلمة التي تلخّص الكون» أو المعادلة التي تحتويه جميعاً. 
مما له دلالة أن المرآة، بالنسبة لبورخيس، توطئة للقناع، والقناع توطئة للموت. المِرْآة تَعْرِض وتُخفي بنفس الضوء، لأن الانعكاسات التي تنتجها تُضاعِف النموذج، ولكنها تُنجّيه من الرؤية، بسبب فيض الصُوَر. مخاتلة المرايا، تم التعبيرُ عنها بشكل يثير الإعجاب، في قصيدة المرآة التي نشرت سنة 1976. يُميط بورخيس، هنا، جانباً من القناع وهو يَكشف كيف أن خوفه من المِرْآة اتخذ أشكالاً متنوعة من الطفولة إلى الشيخوخة وعند الاقتراب من الموت:
«حين كنت طفلاً، كنت أخشى المرايا،
وأن أرى فيها وجهاً آخر غير وجهي،
أو قناعاً أعمى غير شخصي
يخفي دون شك شيئاً
فظيعاً».
على صورة بورتريه دوريان غراي، فإن المِرآة تحرّر، هنا، قوة استيلاب يهدد بالكشف، كما في القصة السابقة، تحت المرآة، عن القناع، وتحت القناع، عن الموت. يوجد هنا هاجس حقيقي للتشويه والذي هو الشكل الرمزي لخسران الهوية. إزاء «قناع أعمى لا شخصي»، سيكون محكوما على الطفل بنوع من فقدان الذاكرة الأنطولوجية تمنعه، تحديداً، من أن يكون شخصاً ما. ولكن المرآة لها وجهان، ويمكنها أن تُرسل صورة أخرى مختلفة:
«الآن،
أخشى أن تخبّئ لي المرآة،
الوجه الحقيقي لروحي،
مخدوش بِظلّ وخطايا،
الذي يراه الله، والذي يراه الرجالُ،
ربّما».
لم يَعُد محكوماً علينا، هنا، بهاجس السمولاكر، وبورخيس ليس شبيها بساحر الخرائب الدائرية (LES RUINES CIRCULAIRES). لقد حلم خلال فترة طويلة برجل كامل في داخله يخفي كونه لم يكن سوى شبحٍ؛ ولكنه في لحظة موته يلمح، بفظاعة، أنه لم يكن بدوره سوى مظهرٍ حلم به رجلٌ آخرُ. خشي بورخيس، هذه المرة، ألاّ تكون المرآة الممدودة من قبل الشيخوخة أو الحكمة، هي المرآة التي تحدث عنها أفلاطون في(محاورة) ألسيبياد (Alcibiade) ttوالتي هي مرآة الله. إن الروح البشرية لها «وجه حقيقي»، الوجه الذي تحدث عنه القديس بولس حين كتب إلى الكورنثيين أنه في العالم الآخر، سوف نرى، في العالم الآخر، «وجْهاً لوجه»، وليس بطريقة غامضة، في مرآة مظلمة. لا يُسمّي بول (القديس) الإله، ولا يتحدث عما سوف نراه. يكتفي بقول كيفية رؤيتنا له، أي ليس من خلال مِرْآة مظلمة، ولكن وجها لوجه. بورخيس، الذي لا يتحدث عن وجه الإله، يفهم هذه الرؤية، بطريقة أقرب إلى ليبنتز منها إلى بول (القديس)، مثل حجز الكل مكثفا في موناد (جوهر فرد، وهو أحد عناصر الوجود الأولية عند ليبنتز) واحد. وحين تكون لا نهائية الفضاء ولا نهائية الزمن ممنوحتين أمام نظرتنا في نقطة واحدة، سنعرف، أخيراً، مفتاح اللغز.
هذا هو الحدس الكبير الذي يُوجّه النص الأخير المكرَّس للمرايا، مرآة الحِبر. يتخيل بورخيس ساحراً من السودان، وهو سجين يعقوب الشاكي القاسي، يتضرع لدى الطاغية كي لا يقتله؛ وفي المُقابل سيُريه «أشكالا ومظاهر» أكثر روعة من أشكال ومظاهر الفوانيس السحرية. فيرسم بقصبة مُربَّعا في يد يعقوب ويسكب وسطه «دائرة من حِبْر» وهو يتلو هذه الآية القرآنية الكريمة: (فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[**]. في هذه المرآة المظلمة رأى الطاغيةُ في البداية انعكاسَهُ، رأى حصاناً جموحاً، وبادية خضراء، وقطيعاً من الخيول، ثم متجاسراً طلب رؤية «كل ظواهر العالَم»، المدن والممالك والأهرامات وصحارى الله، والسفن وهي تجوب البحارَ والنجوم والكواكب والمدينة التي تُسمّى أوروبا، وفي إحدى شوارعها رجُل مُقنَّع بقطعة قماش أبيض وهو ينتظر رؤية العذاب. حين كشفت مرآة الحبر وجه المُدان الذي نُزعَ عنه القناعُ، اكتشف الطاغية، «المفتون بالمِرْآة»، وجْهاً لوَجْه، وجْهَه الحقيقي وهو يتدحرج على الأرض، ميّتا، في اللحظة التي كشف فيها الحبرُ عن قطع رأس المُدان.
هذه القصة العجائبية تعلن، قبل اثنتى عشرة سنة، القصة الأكثر تمثيلية للحدس البورخيسي، الألِف Aleph. الحرفُ الأول في الأبجدية العربية يتضمن في حد ذاته كل الحروف الأخرى ويُجسّد الكون في حرف واحد، على المستوى الخطّي، وفي نقطة واحدة، على المستوى المكاني. مخطوط القصة يظهر أن بورخيس أطلق في البداية على هذه النقطة اسم محراب، كي يشير إلى المكان المقدس على شكل كوة في المسجد يكون فيها الإمام، وهو يتجه صوب القِبْلة، في اتجاه مكة (المكرمة). لكن سواء كان الأمر يتعلق بألِف أو بمحراب، فإن هذه الثغرة الكونية التي تطل على الكون كله، وتمنحه، في ومضة، للتأمل، هي التغير الميتافيزيقي للمرآة التي تُوجِّه مُجملَ التخييل البورخيسي. هذه المرآة، أو هذا الموشور لا يعلمنا إلا شيئاً واحداً: الكونُ واحد وكل نقاط الكون تتجه إلى هذه النقطة الواحدة التي تحتوي كل شيء. المَظاهرُ ليست سوى ما تظهر عليه، مظاهِرُ محكومٌ عليها بالزوال لفائدة الأوحد، وهويات مختلف الرّجال الذين مثّلهم بورخيس عبر شخصياته ليست إلا هوية واحدة، هوية المُؤلِّف، el hacedor، الذي هو خالق مَظاهِرِهِ الخاصة.
المُؤلِّف الأخير، الذي كان بورخيس يخشى أن يراه وجهاً لوجه، كما خشي رؤية «الوجه الحقيقي لرؤيته»، تذكاراً لأمر الله لموسى: «لا تستطيع رؤية وجهي، لأن الإنسان لا يمكن أن يراني ويعيش»، هو، ربما، المُؤلِّف الذي نُعتَبَرُ حُلمَهُ. إشارتان متأخرتان كما يجب، بدتا تؤكدان هذا التأويل الثيولوجي. في دراسة له، سنة 1977 عن البوذية، التي تعتبر في نظره «سبيل خلاص»، كتب بورخيس أنه لو كان راهباً بوذياً، كان سيعتقد أن «كل الحياة السابقة لبورخيس لم تكن سوى حلم، وأن كل التاريخ العام لم يكن سوى حلم»، وهو ما يؤدي إلى الإقرار بأن «الأنا لا وجود لها». إن هذا الإلحاح على لا وُجود للأنا، التي لا تعتبر سوى مكوّن من المظاهر، وعلى ما يجب أن نطلق عليه العمى أمام الواحد، تم إبرازُهُ، بشكل خاص، في قصيدة غنائية كُتبت سنة 1966. وقد كُتبت القصيدة بهدف الاحتفال بمرور مائة وخمسين سنة على استقلال الأرجنتين، وبدت بعيدة عن كل اهتمام ميتافيزيقي. ولكن حين يتحدث بورخيس عن الوطن الذي لا ينتمي لأحد، لا لراعي المَرْج، ولا للبطل الذي نُصِب له تمثالٌ، ولا لمؤلف القصيدة الغنائية، ولكن لكُلّ الأرجنتينيين، فإنه يحدد الوطن باعتباره «فعلاً أبدياً» شبيها بـ «كون أبدي». ويضيف هذا القوس الغريب في هذه القصيدة الوطنية:
«(إذا توقف المتفرج الأبدي عن الحلم بنا، لحظةً واحدة، سيصعقنا الوميض الأبيض والمفاجئ لنسيانه)».
كان بورخيس أيضاً طموحاً، ولكن في لغة ميتافيزيقية جداً. اقترح وهو يجد «طريقه الخاص»، كما يكتب في نهاية سيرته الذاتية، رفض «الجمالية السلبية للمرايا» لفائدة «جمالية الموشورات النشيطة».
نفهم، إذاً، السبب الذي جعل بورخيس لا يُضمّن كتابه «محاولة في السيرة الذاتية» في الأعمال الكاملة. إن مثل هذا التضمين كان سيُدخل الهوية العابرة لرجل ما في الهوية الدائمة للإنسان، الهوية الخالية لمُؤلِّف ما في الهوية الحقيقية للمُؤلِّف، الهوية الظاهرة لأعمى في الهوية الأساسية للأعمى. بورخيس وهو يتماهى مع هوميروس يلعب على هذا التعارُض بين التسمية، التي تشهد على وجود الكائن، وبين الغُفلية، التي تتعلق بتفاهة المرور. إنه ليس بعيداً، هنا، من مونتين، الذي برّر مشروعَهُ بهذه المعادلة: «لا أرسم الكائن، ولكنّي أرسُم المرور»، مُلائماً قصته مع «الساعة» الحاضرة. ولكن هذا الإقصاء الظاهر للكائن لفائدة صيرورة يخفي، في الحقيقة، تأكيد الاستحالة، بالنسبة للوجود البشري، للوصول إلى جوهر الأشياء. كما أن مونتين يقترح، رغم كل شيء، أن يُطلع قرّاءه على «وجوده العام» لأن «كل إنسان يحمل الشكل الكامل للشرط البشري».
كان بورخيس أيضاً طموحاً، ولكن في لغة ميتافيزيقية جداً. اقترح وهو يجد «طريقه الخاص»، كما يكتب في نهاية سيرته الذاتية، رفض «الجمالية السلبية للمرايا» لفائدة «جمالية الموشورات النشيطة». وحده الموشور، بوجوهه المتعددة، يمكن أن يفكك ويُكسّر أو يبعثر في إشعاعات لا نهائية الضوء، الذي يظلّ واحداً ومشابهاً. وحده موشور الكتابة، يمكن أن يتطرق لهذا المصير الذي يجعل منا الومضات العابرة للنموذج الأصلي. في إحدى قصائده المتأخرة التي أهداها إلى من قاده، لأول مرة، إلى مكتبة لم يخرج منها أبداً، يتوجه بورخيس إلى أبيه بهذه الكلمات:
«ولكنّ ظلّكّ ربّما لمح
النماذج الأصلية التي كنت تفسرها لي
والتي حلم بها أفلاطون الإغريقي. من يعرف أي صباح، القبرُ هو مفتاحُهُ؟
كيف استطاع بورخيس الخروج من المكتبة، وهي على صورة الألِف، التي هي كرةٌ لا نهائية يوجد مركزُها في كل مكان ومحيط كالدائرة في أي مكان؟ كان يعرف ذلك من مصدر فلسفي وشعري. في سنة 1936 تعرّف في بوينيس إيريس على هنري ميشو Henri Michaux الذي ترجم كتابَهُ «بربري في آسيا» إلى الإسبانية. ولم يستطع أن يتجاهل هذه الحكمة للشاعر الفرنسي الذي كتب في تقديمه:
«لا يزال يُترجم العالَمَ من يريد أن يتخلص منه. من يستطيع الإفلات؟ الوعاء مغلق».
* يلاحظ القارئ أن بورخيس يتحدث باستمرار عن العمى. وسينهي حياته أعمى. (ملاحظة من المترجم)
** سورة ق، الآية 22.