الوجه المستحيل بورخيس.. وقصة المرايا
نقلا عن مجلة الرافد شهر شباط 2014
إعداد: محمد محمد المزديوي
يتصدى المفكر الفرنسي جان-فرانسوا ماتيي (عضو المعهد الجامعي الفرنسي والأستاذ في جامعة نيس-صوفيا-أنتيبوليس، ومؤلف العديد من الكتب عن الفكر الإغريقي والعالم الحديث) لجانب لم يدرس، بما فيه الكفاية، في عمل خورخي لويس بورخيس، وهو الفلسفة. ولهذا السبب أصدر، سنة 2010، كتيباً شيقاً عن بورخيس بعنوان: «خورخي لويس بورخيس والفلسفة». ومن جهته لا يتورع بورخيس عن التذكير بعشقه للفلسفة. ويروي أن إعجابه بالفلسفة يعود إلى طفولته. فقد ساعده والده على اكتشاف سباق أخيل والسلحفاة على رقعة شطرنج مصنوعة من خشب الأرز. وقد قمنا بترجمة هذا الجزء المعنون بالوجه المستحيل من الفصل الأول المعنون بالذاكرة.
إن افتتان خورخي لويس بورخيس بالمرايا يَعبُرُ كل عمله. فبالإضافة إلى المرايا المُقنَّعة سنة 1934 إلى مرايا الألغاز سنة 1940، وقصيدة المرايا سنة 1959، نجد ثلاثة نصوص، اثنان منها نثريان والثالث شعري، مكرسة للمرايا، دون مساس بالعدد الكبير من القصص التي ترد فيها المرايا بكثرة. المرآة والقناع، سنة 1975، هي حكاية ذات مغزى أخلاقي حول قصيدة القصائد، القصيدة الأخيرة التي تمحو كل القصائد الأخرى، مثلما يمحو كِتابُ الكتب كلَّ الكُتب الأخرى. في أزمنة خلت طلب ملك إيرلندا من شاعره الملحمي كتابة قصيدة تمتدح انتصاراته. وفي نهاية السنة عاد الشاعرُ إلى البلاط وألقى قصيدة طويلة أثارت إعجاب الملك واستحق عليها مِرآة من الملك. ولكن الملك طلب منه قصيدة أخرى أكثر جمالاً منها أنشدَها الشاعر في السنة التالية بسحر، جعل القصيدة، على قِصَرها، تبدو عصية على التجاوز. منحه الملك قِناعا من ذهب، وألحّ في طلب قصيدة ثالثة، متذرعاً أنّ الأشياء الجميلة لا تأتي إلا ثلاثاً. بعد سنة من العمل الدؤوب، عاد الشاعر إلى البلاط. كان الشاعر قد تغيَّرَ وبدا كما لو أنه إنسان آخر وأصبح أعمى*. بعد تردد أنشد قصيدته الغنائية التي كانت عبارة عن سطر واحد. تأثُّرُ الملك بالغ التأثر بهذا البيت الشعري الذي يعبر عن كل عجائب العالَم جعله يمنح هدية أخيرة للشاعر: خنجرا. اقتسم الاثنان نفس الخطيئة: «خطيئة معرفة الجمال، وهي نعمة محظورةٌ على البشر». انتحر الشاعر عند خروجه من القصر، في حين أن الملك أنهى حياته متسولا يجوب طرق مملكته السابقة. ليس بمقدور البشر رفع لغز الوجود ومعرفة «الكلمة التي تلخّص الكون» أو المعادلة التي تحتويه جميعاً.
مما له دلالة أن المرآة، بالنسبة لبورخيس، توطئة للقناع، والقناع توطئة للموت. المِرْآة تَعْرِض وتُخفي بنفس الضوء، لأن الانعكاسات التي تنتجها تُضاعِف النموذج، ولكنها تُنجّيه من الرؤية، بسبب فيض الصُوَر. مخاتلة المرايا، تم التعبيرُ عنها بشكل يثير الإعجاب، في قصيدة المرآة التي نشرت سنة 1976. يُميط بورخيس، هنا، جانباً من القناع وهو يَكشف كيف أن خوفه من المِرْآة اتخذ أشكالاً متنوعة من الطفولة إلى الشيخوخة وعند الاقتراب من الموت: «حين كنت طفلاً، كنت أخشى المرايا، وأن أرى فيها وجهاً آخر غير وجهي، أو قناعاً أعمى غير شخصي يخفي دون شك شيئاً فظيعاً».
على صورة بورتريه دوريان غراي، فإن المِرآة تحرّر، هنا، قوة استيلاب يهدد بالكشف، كما في القصة السابقة، تحت المرآة، عن القناع، وتحت القناع، عن الموت. يوجد هنا هاجس حقيقي للتشويه والذي هو الشكل الرمزي لخسران الهوية. إزاء «قناع أعمى لا شخصي»، سيكون محكوما على الطفل بنوع من فقدان الذاكرة الأنطولوجية تمنعه، تحديداً، من أن يكون شخصاً ما. ولكن المرآة لها وجهان، ويمكنها أن تُرسل صورة أخرى مختلفة: «الآن، أخشى أن تخبّئ لي المرآة، الوجه الحقيقي لروحي، مخدوش بِظلّ وخطايا، الذي يراه الله، والذي يراه الرجالُ، ربّما».
لم يَعُد محكوماً علينا، هنا، بهاجس السمولاكر، وبورخيس ليس شبيها بساحر الخرائب الدائرية (LES RUINES CIRCULAIRES). لقد حلم خلال فترة طويلة برجل كامل في داخله يخفي كونه لم يكن سوى شبحٍ؛ ولكنه في لحظة موته يلمح، بفظاعة، أنه لم يكن بدوره سوى مظهرٍ حلم به رجلٌ آخرُ. خشي بورخيس، هذه المرة، ألاّ تكون المرآة الممدودة من قبل الشيخوخة أو الحكمة، هي المرآة التي تحدث عنها أفلاطون في(محاورة) ألسيبياد (Alcibiade) ttوالتي هي مرآة الله. إن الروح البشرية لها «وجه حقيقي»، الوجه الذي تحدث عنه القديس بولس حين كتب إلى الكورنثيين أنه في العالم الآخر، سوف نرى، في العالم الآخر، «وجْهاً لوجه»، وليس بطريقة غامضة، في مرآة مظلمة. لا يُسمّي بول (القديس) الإله، ولا يتحدث عما سوف نراه. يكتفي بقول كيفية رؤيتنا له، أي ليس من خلال مِرْآة مظلمة، ولكن وجها لوجه. بورخيس، الذي لا يتحدث عن وجه الإله، يفهم هذه الرؤية، بطريقة أقرب إلى ليبنتز منها إلى بول (القديس)، مثل حجز الكل مكثفا في موناد (جوهر فرد، وهو أحد عناصر الوجود الأولية عند ليبنتز) واحد. وحين تكون لا نهائية الفضاء ولا نهائية الزمن ممنوحتين أمام نظرتنا في نقطة واحدة، سنعرف، أخيراً، مفتاح اللغز. هذا هو الحدس الكبير الذي يُوجّه النص الأخير المكرَّس للمرايا، مرآة الحِبر. يتخيل بورخيس ساحراً من السودان، وهو سجين يعقوب الشاكي القاسي، يتضرع لدى الطاغية كي لا يقتله؛ وفي المُقابل سيُريه «أشكالا ومظاهر» أكثر روعة من أشكال ومظاهر الفوانيس السحرية. فيرسم بقصبة مُربَّعا في يد يعقوب ويسكب وسطه «دائرة من حِبْر» وهو يتلو هذه الآية القرآنية الكريمة: (فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[**]. في هذه المرآة المظلمة رأى الطاغيةُ في البداية انعكاسَهُ، رأى حصاناً جموحاً، وبادية خضراء، وقطيعاً من الخيول، ثم متجاسراً طلب رؤية «كل ظواهر العالَم»، المدن والممالك والأهرامات وصحارى الله، والسفن وهي تجوب البحارَ والنجوم والكواكب والمدينة التي تُسمّى أوروبا، وفي إحدى شوارعها رجُل مُقنَّع بقطعة قماش أبيض وهو ينتظر رؤية العذاب. حين كشفت مرآة الحبر وجه المُدان الذي نُزعَ عنه القناعُ، اكتشف الطاغية، «المفتون بالمِرْآة»، وجْهاً لوَجْه، وجْهَه الحقيقي وهو يتدحرج على الأرض، ميّتا، في اللحظة التي كشف فيها الحبرُ عن قطع رأس المُدان.
هذه القصة العجائبية تعلن، قبل اثنتى عشرة سنة، القصة الأكثر تمثيلية للحدس البورخيسي، الألِف Aleph. الحرفُ الأول في الأبجدية العربية يتضمن في حد ذاته كل الحروف الأخرى ويُجسّد الكون في حرف واحد، على المستوى الخطّي، وفي نقطة واحدة، على المستوى المكاني. مخطوط القصة يظهر أن بورخيس أطلق في البداية على هذه النقطة اسم محراب، كي يشير إلى المكان المقدس على شكل كوة في المسجد يكون فيها الإمام، وهو يتجه صوب القِبْلة، في اتجاه مكة (المكرمة). لكن سواء كان الأمر يتعلق بألِف أو بمحراب، فإن هذه الثغرة الكونية التي تطل على الكون كله، وتمنحه، في ومضة، للتأمل، هي التغير الميتافيزيقي للمرآة التي تُوجِّه مُجملَ التخييل البورخيسي. هذه المرآة، أو هذا الموشور لا يعلمنا إلا شيئاً واحداً: الكونُ واحد وكل نقاط الكون تتجه إلى هذه النقطة الواحدة التي تحتوي كل شيء. المَظاهرُ ليست سوى ما تظهر عليه، مظاهِرُ محكومٌ عليها بالزوال لفائدة الأوحد، وهويات مختلف الرّجال الذين مثّلهم بورخيس عبر شخصياته ليست إلا هوية واحدة، هوية المُؤلِّف، el hacedor، الذي هو خالق مَظاهِرِهِ الخاصة.
المُؤلِّف الأخير، الذي كان بورخيس يخشى أن يراه وجهاً لوجه، كما خشي رؤية «الوجه الحقيقي لرؤيته»، تذكاراً لأمر الله لموسى: «لا تستطيع رؤية وجهي، لأن الإنسان لا يمكن أن يراني ويعيش»، هو، ربما، المُؤلِّف الذي نُعتَبَرُ حُلمَهُ. إشارتان متأخرتان كما يجب، بدتا تؤكدان هذا التأويل الثيولوجي. في دراسة له، سنة 1977 عن البوذية، التي تعتبر في نظره «سبيل خلاص»، كتب بورخيس أنه لو كان راهباً بوذياً، كان سيعتقد أن «كل الحياة السابقة لبورخيس لم تكن سوى حلم، وأن كل التاريخ العام لم يكن سوى حلم»، وهو ما يؤدي إلى الإقرار بأن «الأنا لا وجود لها». إن هذا الإلحاح على لا وُجود للأنا، التي لا تعتبر سوى مكوّن من المظاهر، وعلى ما يجب أن نطلق عليه العمى أمام الواحد، تم إبرازُهُ، بشكل خاص، في قصيدة غنائية كُتبت سنة 1966. وقد كُتبت القصيدة بهدف الاحتفال بمرور مائة وخمسين سنة على استقلال الأرجنتين، وبدت بعيدة عن كل اهتمام ميتافيزيقي. ولكن حين يتحدث بورخيس عن الوطن الذي لا ينتمي لأحد، لا لراعي المَرْج، ولا للبطل الذي نُصِب له تمثالٌ، ولا لمؤلف القصيدة الغنائية، ولكن لكُلّ الأرجنتينيين، فإنه يحدد الوطن باعتباره «فعلاً أبدياً» شبيها بـ «كون أبدي». ويضيف هذا القوس الغريب في هذه القصيدة الوطنية: «(إذا توقف المتفرج الأبدي عن الحلم بنا، لحظةً واحدة، سيصعقنا الوميض الأبيض والمفاجئ لنسيانه)».
كان بورخيس أيضاً طموحاً، ولكن في لغة ميتافيزيقية جداً. اقترح وهو يجد «طريقه الخاص»، كما يكتب في نهاية سيرته الذاتية، رفض «الجمالية السلبية للمرايا» لفائدة «جمالية الموشورات النشيطة».
نفهم، إذاً، السبب الذي جعل بورخيس لا يُضمّن كتابه «محاولة في السيرة الذاتية» في الأعمال الكاملة. إن مثل هذا التضمين كان سيُدخل الهوية العابرة لرجل ما في الهوية الدائمة للإنسان، الهوية الخالية لمُؤلِّف ما في الهوية الحقيقية للمُؤلِّف، الهوية الظاهرة لأعمى في الهوية الأساسية للأعمى. بورخيس وهو يتماهى مع هوميروس يلعب على هذا التعارُض بين التسمية، التي تشهد على وجود الكائن، وبين الغُفلية، التي تتعلق بتفاهة المرور. إنه ليس بعيداً، هنا، من مونتين، الذي برّر مشروعَهُ بهذه المعادلة: «لا أرسم الكائن، ولكنّي أرسُم المرور»، مُلائماً قصته مع «الساعة» الحاضرة. ولكن هذا الإقصاء الظاهر للكائن لفائدة صيرورة يخفي، في الحقيقة، تأكيد الاستحالة، بالنسبة للوجود البشري، للوصول إلى جوهر الأشياء. كما أن مونتين يقترح، رغم كل شيء، أن يُطلع قرّاءه على «وجوده العام» لأن «كل إنسان يحمل الشكل الكامل للشرط البشري».
كان بورخيس أيضاً طموحاً، ولكن في لغة ميتافيزيقية جداً. اقترح وهو يجد «طريقه الخاص»، كما يكتب في نهاية سيرته الذاتية، رفض «الجمالية السلبية للمرايا» لفائدة «جمالية الموشورات النشيطة». وحده الموشور، بوجوهه المتعددة، يمكن أن يفكك ويُكسّر أو يبعثر في إشعاعات لا نهائية الضوء، الذي يظلّ واحداً ومشابهاً. وحده موشور الكتابة، يمكن أن يتطرق لهذا المصير الذي يجعل منا الومضات العابرة للنموذج الأصلي. في إحدى قصائده المتأخرة التي أهداها إلى من قاده، لأول مرة، إلى مكتبة لم يخرج منها أبداً، يتوجه بورخيس إلى أبيه بهذه الكلمات: «ولكنّ ظلّكّ ربّما لمح النماذج الأصلية التي كنت تفسرها لي والتي حلم بها أفلاطون الإغريقي. من يعرف أي صباح، القبرُ هو مفتاحُهُ؟
كيف استطاع بورخيس الخروج من المكتبة، وهي على صورة الألِف، التي هي كرةٌ لا نهائية يوجد مركزُها في كل مكان ومحيط كالدائرة في أي مكان؟ كان يعرف ذلك من مصدر فلسفي وشعري. في سنة 1936 تعرّف في بوينيس إيريس على هنري ميشو Henri Michaux الذي ترجم كتابَهُ «بربري في آسيا» إلى الإسبانية. ولم يستطع أن يتجاهل هذه الحكمة للشاعر الفرنسي الذي كتب في تقديمه: «لا يزال يُترجم العالَمَ من يريد أن يتخلص منه. من يستطيع الإفلات؟ الوعاء مغلق».
* يلاحظ القارئ أن بورخيس يتحدث باستمرار عن العمى. وسينهي حياته أعمى. (ملاحظة من المترجم) ** سورة ق، الآية 22.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق