الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

حنان الشيخ أو الاستشراق معكوسا!

ترجمة «حكايتي شرح يطول» لحنان الشيخ إلى الفرنسية: هل هي كتابات استشراقية في لبوس جديد؟
2010-10-30 
باريس - محمد المزديوي 
مُعضلة المثقف والكاتب العربي، غالباً، إلا من رحم الله، هي أنه يحس بالدونية حين يُترْجَم أو يُحاوَر، ما يعني أنه لا يتمتع بالثقة في النفس التي يمتاز بها زميله الأميركي اللاتيني، رغم أنهما لا يختلفان كثيراً من حيث انحدارهما معاً من دول متخلفة وقمعية واستبدادية.
ولهذا فالكثير من الغربيين حين يقرؤون هذا النص المترجم، وكل الشروحات والتصريحات الصحافية المرافقة له، سيتصورون أن العرب إما قادمون من المريخ أو من أدغال غابات استوائية لم تصلها جيوش الغرب التمدينية.
وهذا ما يمكن اكتشافه من القراءة التي أنجزتها أنييس رونيفيل في ملحق صحيفة «لاكروا» الثقافي الأسبوعي.
لقد مرّ وقت طويل قبل أن تتطرق الكاتبة لوالدتها، رغم أن والدتها كانت دائمة التساؤل عن الأسباب التي تدفع ابنتها إلى الكتابة عن نساء أخريات وليس عنها، رغم أن حياة الأمّ هي في مثل أهمية بطلات العديد من نصوصها السردية إن لم تَبُزَّهَا، فقد تركت العش الزوجي وتخلت عن الكاتبة وأختها كي تعيش حياتها العشقية وحب حياتها الصاخب.
وتكشف الكاتبة، وهنا توابل الإثارة الغربية، التي يمكن أن تُدرّ ذهباً، عن أجزاء من حياة والدتها: «لا ألومها، رغم أن والدي كان حزيناً، كان مسلماً ووَرِعاً جداً، وكانت هذه العلاقة بين والدتي وعشيقها قوية وعنيفة، لأن والدتي كانت عندها الجرأة في أن تفعل ما لم تستطع أن تفعله أي امرأة عربية، من هذا الوسط الديني والمحافظ جداً، حينئذٍ، وتركتني وأنا في سن الخامسة، وحاول الجميع إشعارها بعقدة الذنب».
ولأن البنت سرّ أمها، فالكاتبة بدورها، أبانت عن «جرأة استثنائية، فسافرت رغم معارضة والدها إلى القاهرة للدراسة في سن 17، وفي سن 19 بدأت الكتابة بعد فشل قصة حب مع كاتب مصري كبير يكبرها كثيرا. وأخيراً، وهي الشيعية تتزوج مسيحياً لبنانياً، وتنجب منه بنتاً وولداً».
وهي تقيم في لندن منذ أكثر من عشرين عاما، وتكتب باللغة العربية، وحين تنظر إلى الماضي فهو الحنين الحزين بالطبع، الحنين إلى زمن كانت فيه المرأة العربية، في نظرها، أكثر حرية من الآن «قاومنا كيف نذهب إلى السينما، وكي ننزع الحجاب، ولكن الضغط الديني، اليوم، أكثر قوةً».
ولأن ثمة نوعاً من التماهي بين المؤلفة وبطلة روايتها أي والدتها، فهي ترى «خلال فترة طويلة كانت تربطنا علاقات مصطنعة، ولكني من خلال كتابتي لمحكي حياتها، اكتشفت الجرأة التي كانت تمتلكها، كانت أمّي نسوانية قبل حركة النساء في أوروبا، شيعية من جنوب لبنان».
توابل كثيرة، من حجاب وخيانة زوجية وزواج إكراه وزواج بين ديانات مختلفة وانحسار حرية المرأة وغيرها، لا يمكن إلاّ أن تضمن للكتاب بعض النجاح.

خليل النعيمي


خليل النعيمي: لنا خبرة كبيرة في سوريا مع الاستبداد ومقاومته
«لو وضعتم الشمس بين يدي» نشيد لإصرار الشعب وصبره
خليل النعيمي
باريس: محمد المزديوي
لم ينتظر الكاتب والروائي والجراح السوري خليل النعيمي الربيع العربي ووصوله إلى أرض الشام حتى يشمر عن كتابته وانتقاداته. فهذا الكاتب المنفي، بطريقة أو بأخرى، في أرض الشتات، حيث يقيم في باريس منذ أكثر من ثلاثين سنة، جاب بلاد الله الواسعة من الصين إلى الهند إلى الأرجنتين إلى موريتانيا إلى اليمن، اكتشف الهوان الذي يعيشه الكائن العربي في كل الأصقاع، واكتشف الحاجة إلى الديمقراطية وإلى الكرامة الإنسانية والمواطنة الكاملة.
سألنا الكاتب عن سبب اندفاعته كطفل بريء وراء الثورة في سوريا، وهو المبدع الذي يعرف أن الكتابة لا يجب أن تكون استعجالية، فالأمثلة كثيرة عن بؤس مثل هذا الأدب، ولعل «أدب الحرب» في العراق، الذي كتب ونشر بإيعاز من الراحل صدام حسين، أثناء الحرب العراقية الإيرانية، كان بائسا ومتحذلقا وركيكا، فكان جوابه لاذعا: «أنت تعرف أنني لم أنتظر أحدا حتى أبدأ في انتقاد النظام وميكانيزمات الحكم، وقد كانت إرهاصات الثورة موجودة، ترى أحيانا بالعين المجردة. كما أن لسوريا ومثقفيها تاريخا طويلا في اكتشاف الاستبداد ومحاربته، ألم يكتب السوري عبد الرحمن الكواكبي كتابه الشهير: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».
وبالفعل تتميز كل كتابات النعيمي الروائية بإدانة الاستبداد وبالاحتفال بالحياة. كتب رواية «الشيء»، وكأنما كان يقول لنا بأن الإنسان العربي شيء وليس كيانا عاقلا وحرا. لعله كان ينقل لنا عصارة الفكر الغربي الجديد وهو يدين تشييء الإنسان من أجل سلب كرامته. كما كتب «تفريغ الكائن»، منذ فترة، ليصف ما يتعرض له الكائن العربي من سلب لشخصه وإنسانيته، ومن تفريغ له. وهو ما جعله يكتب مقالا، قبل أشهر، عن «تفريغ الرئيس». «ألا ترى معي أن النظام السوري نجح في تفريغ البلد من معظم طاقاته؟! ألا تعج المستشفيات الفرنسية بأطباء سوريين (والنعيمي طبيب جراح)، لو أنهم كانوا كراما في بلدهم لما هاجروا إلى فرنسا، ولما اشتغلوا فيها، وهي التي لم تنفق في تكوينهم وتدريسهم شيئا؟!».
أدى خليل النعيمي الخدمة العسكرية، ولم يكملها ومنحنا عن هذه التجربة عملا روائيا جميلا، وهو «مديح الهرب». والقارئ المتمعن يكتشف أن العنوان رؤيوي، فكأنما المؤلف استبق الأمور واكتشفها بقلبه، وكأنما كان ينصح رفاقه الجنود بالهرب من جيش لم يؤسس لتحرير الجولان المغتصبة وإنما لقمع الشعب وترويضه. «ربما من يقرأ العنوان، بصفة سطحية، يحس بنوع من الحرج، ولكن الظروف الحالية، التي تشتد فيها ماكينة القمع، كشفت أن أفضل طريقة لانهيار النظام القمعي هي هروب الجنود من بين صفوف الجيش الذي يعتبر عمود النظام الفقري».
لمحاربة الاستبداد ساحات عديدة، لأن الاستبداد يتمظهر في ساحات عديدة، ولهذا فالكاتب خليل النعيمي، دارس الفلسفة في جامعة السوربون، الذي يعرف جيدا، ملخص نظرية الالتزام بشقيها السارتري والماركسي، لم ينتظر، حتى يجتمع الشعب لمحاربة هذا الطغيان، فقد كتب رواية «دمشق 67»، لتوصيف الأسباب التي أدت إلى الهزيمة الكبرى وإلى غياب الدور المنوط بالجيش.
الكثيرون من الذين قرأوا أعمال خليل النعيمي ومن الذين حاوروه ألحوا على معرفة سبب عدم كتابته عن باريس وهو الذي يقيم فيها منذ فترة طويلة، بدأوا يدركون أن الكتابة فعل صعب وأنها لا تأتي حسب الطلب. وأنها، أي الكتابة، إنما هي اختمار وتجربة وقراءة، بالمعنى المتعدد لكلمة القراءة.
ولكأن الكاتب خليل النعيمي يزداد شراسة مع اشتداد شراسة القمع في بلده. وها هي روايته الجديدة «لو وضعتم الشمس بين يدي»، وهي رواية كتبت قبل بداية الثورة السورية، تأتي في لحظة فارقة من تاريخ سوريا، كاشفة عن رؤيوية المؤلف وإنصاته العميق لصرخات وحركات شعبه. لكأن عنوان الرواية الرؤيوي يتحول إلى نشيد لإصرار الشعب على المقاومة والصبر والجلد، حتى النهاية.
يحتفل خليل النعيمي، ببراءة، بانتصارات الثورات العربية، ويعتبرها محطات ضرورية قبل انتصار الثورة السورية. «صدقني، لقد بكيت، بحق، في ميدان التحرير بالقاهرة. كنت هناك مؤخرا. الثورة المصرية هي ثورتي وثورة كل العرب. ولكن الفرحة لن تكتمل إلا حين سأكون في ساحة الأمويين الدمشقية!».
لا يخفي الكاتب علمه بالمآسي والفظائع التي تطال أبناء شعبه، من تقتيل وترحيل وتهجير، وهي ضريبة الثورة، ولكنه، لا يظهر أدنى يأس من انتصار الثورة، ويترنم: «اشتدي أزمة تنفرجي.... قد آذن صبحك بالبلج!».

Patrick Besson الكاتب الفرنسي خصّ الشاعرة السورية مرام المصري بمقال جميل


باتريك بيسون.. ناقد متفرد في رتابة الساحة الثقافية الفرنسية
يترقبه المكرسون بحذر وينتظره القرّاء بلهفة








باريس: محمد المزديوي
«حينما أقرأ الصحافة الأدبية ينتابني انطباع بأنّي كاهن كنيسة
وفيها كثير من البلهاء يأتون لأكل البطاطا المقلية»
(باتريك بيسون)

لا حاجة للبرهنة على أن ثمة فارقاً كبيراً ما بين النقد الأدبي الأكاديمي الفرنسي كما يُدرَّس في الجامعات ويُعبَّر عنه في مجلات أدبية ونخبوية مهمة وبين النقد الثقافي الفرنسي كما يجده القارئ في الملاحق الثقافية والأدبية للصحف الفرنسية والمجلات الأسبوعية. ولأن الكثير، (لحسن الحظ ليس الكل)، من كبار النقاد الفرنسيين لا يجدون صدى كبيرا لكتاباتهم في كتب النخبة، فقد قرروا تبسيط كتاباتهم ونشرها في الصحف، وهكذا دخلوا في مسلسل الرفع من قيمة كتاب إلى أعلى عليين او تحطيمه وإنزاله إلى القاع الذي لا يوجد بعده قاع. ولكن الذي يجمع بين كل هؤلاء النقاد وممارسي تقديم الكتب، هو انضواؤهم تحت لواء مجلات أو ملاحق تمتاز باحترامها الشديد لخط تحريري وأيديولوجي واضح. من هنا فملحق "لوفيغارو" يتميز برؤيته وتعريفه للأدب الجيد، من خلال انخراطه في قراءة يمينية للأدب. تشتكي مازارين بانجو، مثلاً، ابنة الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران من حقد لا يبرر من طرف ملحق "لوفيغارو" الثقافي. نفس الشيء ينطبق على ملحق صحيفة "لوموند" التي تختار من البداية من ستصوت له كي يفوز بالجوائز الأدبية، أو بجيوب القراء، وأيضا نفس الشيء يمكن تلمسه مع مجلة "ليزانروكيبتيبل" وغيرها.
كل شيء يبدو نمطيا في هذا الجو الثقافي الفرنسي. كل شيء يبدو نمطيا لولا بعض كتاب لا نمطيين يأتون ليكسروا الصورة الرتيبة. ومن بينهم أنجيلو رينالدي، الكاتب الروائي والناقد الذي كان معظم الروائيين يخشون مقالاته في "لوفيغارو" و"ليكسبريس"، ولكنه يبدو أنه وصل إلى مرحلة من الحكمة، إذْ أنتخب في الأكاديمية الفرنسية، فلم نعد نقرأ مقالاته اللاهبة.
الكاتب الذي يفرض نفسه بقوة، في هذا المشهد المتواطئ، هو باتريك بيسون Patrick Besson.
والذي يساعدنا، دفعة واحدة، على تصويره ككاتب مختلف عن القطيع، كونه يكتب في مجلات وصحف مختلفة المشارب الأدبية والسياسية والأيديولوجية، من مجلة "لوبوان" إلى صحيفة "لومانتيه"، ثم مجلة "ماريان"، وقبل هذا مع صحيفة "ليديو أنترناسيونال"(الأبله الدولي) التي كان يديرها الروائي والسجالي الفرنسي الراحل جون إيدرن هالييه.
إن عدم انضمام باتريك بيسون لطاقم مجلة أو صحيفة واحدة، يمنحنا دليلا آخر على أنه لا يعطي أهمية لأي انتماء لا للقطيع أو النخبة أو الحزب.
ولد باتريك بيسون في باريس في الأول من يونيو (حزيران) سنة 1956 من أب روسي وأمّ كرواتية. ولكن هذا الامتزاج لم يؤثر كثيرا في شخصيته. فهو في حرب البلقان (وهذا دليل آخر على لا نمطيته) اتخذ موقفا لم يشاطره فيه إلا القليل، من بينهم ريجيس دوبريه بالطبع. وهو دعم لا مشروط لموقف الصرب من الحرب، على خلاف معظم الكتاب الفرنسيين، خصوصا المتصهينين منهم وعلى رأسهم برنار هنري ليفي وفينكلكروت وغوبيل وغيرهم، الذين ساندوا الكرواتيين والمسلمين.
وقد أبان بيسون عن نبوغ مبكر. نشر أول قصة قصيرة له في سن الرابعة عشرة من عمره، ثم كتب أول رواية له في ثلاثة أيام وثلاث ليال: "آلام الحب الصغرى". نشر أول كتاب له في سن السابعة عشرة، وفاز بالجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية في سنّ العشرين، وحصل على جائزة "رونودو" في سن الثلاثين. ويعتبر الآن، ومنذ سنة 2000، واحدا من أعضاء تحكيمها.
رواياته تثير دائما الكثير من الجدل وتسيل الكثير من الحبر. ومن النادر العثور في الأوسط الثقافية على من يكرهه أو يحبه باعتدال، على حد تعبير الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب: لا أريد الحب إلا عنيفا". روايته في هذا الدخول الأدبي 2007 حملت عنوان: Belle-sœur وصدرت عن دار "فايار". ولاقت الكثير من التقريظ، وإن كانت لن تفوز بالغونكور، حتما، لأسباب غير أدبية.
بالإضافة إلى مقالاته وكتبه، تظل قراءاته ومقالاته النقدية هي مما يثير الإزعاج والألم للكثير من المؤلفين. وهو يذهب بعيدا في رفض المحاباة أو الصفقات الثقافية، إلى درجة تجعله يغرد باستمرار خارج السرب وخارج الذائقة الأدبية السائدة.
سنأخذ مثالين للدلالة على ما نقوله: في المقال النقدي الأخير في العدد الأخير من مجلة ماريان (22 سبتمبر 2007) والمخصص لجديد الروائية الفرنسية ماري داريوسيك، نقرأ في العنوان: "المسار الجنائزي لماري داريوسيك". وهو عبارة عن استعراض لكلمة الموت في الرواية: "موت توم" ص10 "توم مات" ص11، و"ضريح توم" ص19. وهو استعراض يثقل كاهل القارئ من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة : "هكذا الأمر إلى أن نصل إلى الصفحة 247 حيث ينتهي دفن القارئ." يريد بيسون أن يشعرنا كقراء على أنه ليس فقط "توم" من مات، بل حتى القارئ أيضا.
عينه النقدية الجارحة لا تخص فقط عالم الكتب، بل تتعداه إلى السينما والمسرح والغناء والميديا بما فيها البرامج التي تتطرق بطريقة أو بأخرى للأدب والكتب. ودخل في مشاحنات عنيفة ضد العديد من النقاد والكتاب الفرنسيين ومن بينهم ميشيل بولاك ورومان غوبيل وديديي داينيكس وغيرهم.
ومن بين أهمّ مقالاته (وهو المثال الثاني)، التي لم يَخَفْ فيها لومة لائم، هي التي خصّ بها برنامج tout le monde en parle، لتيري أرديسون، عندما كان ضيفه الكبير هو الفكاهي الصهيوني إيلي سيمون Elie Semoun. والمقالة حملت عنوان: "كلمة إيلي سيمون الأخيرة"، الذي يصفه الكاتب بكونه: "يستطيع أن يكون مضحكا حين يشاء، وغبيا حين يفكّر."
في ذلك البرنامج الثقافي الترفيهي، كان أرديسون يستقبل أيضاً الكاتب الفرنسي الكبير رونو كامي Renaud Camus. كاتب لا يراه الناس، كثيرا، في التلفزيون. وكانت الفترة هي فترة "قضية كامي" التي ابتدأت حينما كتب كامي في مذكراته الحميمية "بادية فرنسا" أنه يتواجد كثيرٌ من اليهود في برنامج "بانوراما" الذي يقدمه راديو "فرانس كولتور". يعلق بيسون على الأمر بالقول: "لا يوجد كثير من اليهود في "بانوراما" فرانس كولتور، بل يوجد كثير من الأغبياء. ثلاث جمل في كتاب يتضمن الآلاف منها، كان الأمر كافيا كي يَغْضَبَ المجتمع الأدبي الطيب. المثقفون يعشقون الاستنكار. يعتقدون أن الاستنكار سيمنحهم الشرف، خصوصا حينما يتعلق الأمر بإغراق زميل لهم. صحيح أن عددهم كبيرٌ جدا، عددهم يفوق الحد. يتوجب التصفية. وبالمناسبة يتوجب تصفية رونو كامي."
كان إيلي سيمون، ينضح غضبا وحقدا، وهو يرى كامي بجانبه في البرنامج . كان يتصور أنه "بجوار حيوان نجس". فيسأل، وهو يتقنفذ حقدا بابتسامة فيها تكلّف الكاتبَ إن لم يكن يرى أنه يتواجد كثيرٌ من المثليين الجنسيين في مجال الاستعراضات الفنية. يسأل إيلي سيمون عن هذا لأنه يعرف أن الكاتب كامي مثلي جنسي. يعلّق باتريك بيسون على الأمر: "أنا لم أجد ما الذي يمكن أن يربط ما بين اليهودي والمثليّ". ولكن رونو كامي عرف كيف يخرج من المصيدة، حين قال: "لو أني اكتشفتُ أن ثمة برنامجا في راديو فرانس كولتور، كل المتدخّلين فيه من المثليين. وإذا كان هؤلاء لا يتحدثون سوى عن مواضيع مثلية، فسوف أحتجّ." يرسم بيسون صورة عن خروج كامي من البرنامج: "تحت وقع تصفيقات هزيلة ومتضايقة. أحببتُ ظهره الثقيل والأزرق المعبّر عن محارب منذهل من حرية التعبير." عين الصقر بيسون، تتابع من دون توقف تتَابُع المَشَاهد على الشاشة: "تأتي الممثلة أنّا موغلاليس التي تسوّق منتجات شانيل للعطور. يخاطب أرديسون، مُعدّ البرنامج، ضيفه الفكاهي سيمون: ها أنت ترى، كنت وعدتك بحضور فتيات جميلات هنا يردّ سيمون: "نعم، ولكنّ (المرأة) الصلعاء ذات الشارب، لم أحبّها كثيرا." ينهي باتريك بيسون مقاله: "هكذا كانت كلمة إيلي سيمون الأخيرة: نكتة عنصرية." انتقادات باتريك بيسون طالت الكثيرين، ومن بينهم فيليب سوليرز بالطبع، ومن يسير في دائرته خصوصا طاقم ملحق الكتب لصحيفة "لوموند".
في كل أسبوع يترقب كاتب ما، خصوصا المُكرَّسين، سرير التشريح، سرير باتريك بيسون، بقلق وحذر، في حين أن القارئ ينتظره بألف تلهف. هو لوحده ظاهرة في الوسط الثقافي الفرنسي. وهو ما يدفعنا أن نزعم بالفعل، إذا ما استعرنا جملة من المأثور الإسلامي، إنه يمكن اعتباره "أُمّة وحده". في فرنسا، بالطبع.

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

عبد الوهاب المؤدب VS طارق رمضان

في برنامج تلفزيوني فرنسي
طارق رمضان وعبدالوهاب المؤدب يتواجهان ثقافياً
2008-02-02 
باريس - أبوالقاسم الشريف 
يعتبر برنامج «Ce soir ou jamais» الذي يشرف عليه الصحافي الشاب فرديريك تاديي في القناة الفرنسية الثالثة من أهم البرامج الثقافية والفكرية في فرنسا، وهو يمتلك حرية كبيرة في دعوة معظم الكتاب والمثقفين الذين لا يمكنهم، لسبب أو لآخر، زيارة القنوات الأخرى التي يسيطر عليها أنصار الفكر الواحد، والفكر الصهيوني..

لقد أتاح هذا البرنامج الذي يبثّ كل يوم (من الإثنين إلى الخميس) في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا، للجمهور، رغم الساعة المتأخرة للبرنامج، رؤية ومشاهدة برامج مختلفة ليست نمطية، ما قاده لاستلال إعجاب الكثير من الكتاب الذين تصورنا أنهم ماتوا أو توقفوا عن الكتابة والنشر، ومنذ ظهور البرنامج بدؤوا يرتادونه ومن بينهم مارك إدوارد ناب صاحب( كتاب: 11 سبتمبر، بارقة أمل) كما أننا نرى، وبكثير من الفرح، من حين لآخر، ممثلين وناطقين باسم «أندجين الجمهورية» (التي تعتبر حاليا من الجمعيات القليلة التي تلعب دور المعارضة للاكتساح الساركوزي لكل الآفاق ولكل مناحي الحياة في فرنسا).
نهاية الأسبوع المنصرم، كان للجمهور أن يستمتع بحوار عاصف، لا يخلو من فائدة، بين مفكرّين أو مثقفين من أصول عربية إسلامية، الفرنسي التونسي عبدالوهاب المؤدب والمصري السويسري طارق رمضان. ورغم أن الجوّ السجالي كان له دور تخريبي في الأمر، إذ إن الكثير من المسائل لم تُثَر كما يجب، خصوصا التي تتعلق بدور الإسلام في أوروبا، والعلاقة ما بين الإسلام والمرأة، وكذا الاجتهاد، والديمقراطية، فإن المتعة كانت حاضرة، وبقوة.
ولكن من شاهد البرنامج -متوفر على موقع القناة الثالثة الإلكتروني- يمكنه أن يرى بوضوح الحالة الصعبة التي كان عليها المفكر عبدالوهاب المؤدب، إذْ أتى وفي جعبته الكثير من الاتهامات والشتائم والكثير جدا من التحامل على زميله طارق رمضان الذي ظل هادئا ولبقا في أجوبته.
احتكر المؤدب الكلام، وقاطع زميله طارق رمضان كثيرا من المرات، وكأنه تصور أن من يتكلم أكثر هو من يفوز بالضربة القاضية، كما هو الحال في صراع انتخابي أو في الملاكمة.
جاء المؤدب للدفاع عن كتابه الجديد «الخروج من اللعنة»، الذي تحدثت عنه صحيفة «العرب» في الأيام القليلة الماضية، كما أنه جاء للدفاع عن أطروحاته السابقة التي تضمّنها كتابه «مرض الإسلام»، ولكنه لم يكن مُوفَّقا على الإطلاق، بدا متهيِّجا، وهو يُعيّر طارق رمضان بجده (من أمه، بالطبع) مؤسس الإخوان المسلمين، ويقول إن حسن البنّا هو من بدأ المرض، أو من تسبب فيه. وإن البنّا كتب رسائل تافهة (في حين أنه عجز عن ذكْر اسم اثنين من هذه الرسائل) وإنه كان ضد المرأة.. كان رد طارق رمضان بأنه يتوجب وضع كل شخصية في إطار تاريخها وبيئتها، وأكّد أن كل بنات البنّا متخرجات جامعيات مرموقات، وأنه توجد الكثير من نساء العائلة ممن لا يحملن حجابا أو برقعا.
ناقش طارق ما ورد من مغالطات وسوء فهم للمفاهيم في كتاب المؤدب، وخصوصا مطالبته بإزالة الجهاد والشريعة من الدساتير الإسلامية، إذ قال رمضان إن المؤدب، الأديب، لا يعرف الفقه لأن «الشريعة» لا تعني، حرفيا، ما قصده المؤدب وإن «الجهاد» لا يعني ما يقصد المؤدب، وإنه كان عليه أن يستعمل مكانه «القتال»، مثلا، لأن الجهاد نبيل والنبي أوصانا بالجهاد الأكبر، الذي لا يعني الحرب على الإطلاق... وذهب طارق رمضان في شرحه لواجب التمييز، في الحرب، ما بين الدفاع عن النفس وبين الهجوم، وأكّد على أن الدفاع عن النفس واجب، وتضمنه كل القوانين الدولية. لكن المؤدب كان له رأي آخر، يذهب إلى حدّ التحقير من استعمال مناضلي الجزائر لمصطلح «الجهاد» و «المجاهدين» في حربهم التحريرية، بدعوى أن هذين المصطلحين هما اللذان تسبّبا في الحرب الأهلية التي عرفتها الجزائر (وهو رأي مماثل لبوعلام صلصال، كما ورد في صحيفة «العرب»).
كان المؤدب متهيجا، مما جعله يسقط في مغالطات وأخطاء يمكن أن تشوّه من مكانته الثقافية، منها أنه كان مع الأميركان في 11 سبتمبر 2001 وأنه كان منسجما ومتوافقا مع فكرة بوش الفاشية: «إما أن تكونوا معنا أو ضدنا» (على عكس طارق رمضان الذي قال إنه يمكن للمرء أن يكون ضد القاعدة وضد بوش، معا).
والغريب أن المؤدب المقيم في بلد الديمقراطية، يقول إنه يمكن له أن يؤيد دولا إسلامية وعربية غير ديمقراطية بشرط أن تكون علمانية (تونس وتركيا)! كما خلط ذات المتحدث بين الإمام مالك بن أنس وبين تلميذه الشاطبي، وبين الله والحق، إذ قال صارخا، بنشوة ما، «أنا الله» كما قال الحلاج، فقال طارق رمضان بهدوء «الجملة مغلوطة لأن الحلاج قال (أنا الحق)، والحق رغم أنها من أسماء الله الحسنى لا تعني الله».
لم يستطع طارق رمضان أن يشرح كثيرا أفكاره لأن المؤدب كان يقاطعه ويقذفه بأسئلة مستفزة، وهي نفس الطريقة التي سبق لساركوزي، حينما كان وزيرا للداخلية، أن استخدمها ضد طارق، وكانت تلعب على وتر الانفعال والاهتياج، كما استعان المؤدب بأمثلة ماكرة للإيقاع بطارق رمضان، وربما كانت نية المؤدب من البداية هي الإيقاع بصاحبه ودفعه للانفعال والخطأ أو الغضب، وهو ما فشل فيه فشلا ذريعا.
لنعترف بأن الصحافيّ فريديريك تاديي ترك الحرية الكاملة للمفكرين (وهو أمر نادر في البرامج الأخرى)، ولكن ارتباك المؤدب حرمنا من متعة مقارعة الحجة بالحجة.. ذلك التقليد الفقهي والاجتهادي الإسلامي الرفيع.

Pascal QUIGNARD en arabe


صدور الترجمة العربية لرواية باسكال كينيارد "فيلا أماليا" من إنجاز المغربي محمد المزديوي

و م ع
الاثنين 4 يونيو 2012


الرباط - صدرت عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت الترجمة العربية لرواية الكاتب الفرنسي باسكال كينيارد "فيلا أماليا"٬ من إنجاز الكاتب المغربي محمد المزديوي.


صدور الترجمة العربية لرواية باسكال كينيارد "فيلا أماليا" من إنجاز المغربي محمد المزديوي
ويتيح هذا الكتاب المترجم الذي صدر ضمن سلسلة "إبداعات عالمية"٬ بمراجعة ليلى عثمان فضل٬ لقراء العربية التعرف على عوالم أحد كبار كتاب فرنسا٬ الحائز على جائزة غونكور عام 2002. 

وينضاف هذا الإصدار إلى قائمة منوعة من مترجمات الكاتب المغربي محمد المزديوي٬ المقيم في فرنسا٬ حيث ترجم العشرات من الكتب والروايات الفرنسية من بينها "الأمير الصغير" لسانت إيكزوبيري و"مقهى الشباب الضائع" لباتريك موديانو و"احتمال جزيرة" لميشيل ويلبيك. كما ترجم "نجوم سديي مومن" لماحي بينبين و"المتمردة" لمليكة مقدم. 

وتتناول الرواية التي صدرت عن دار "غاليمار" عام 2006٬ قصة سيدة موسيقية٬ آن هيدن٬ تقطن في الضاحية الباريسية ٬ وعندما تكتشف خيانة رفيقها تقرر التخلي عن كل شيء أنجزته في حياتها٬ من أجل البحث عن حياة جديدة ترتكز على عشقها للموسيقى٬ "الصديق الوفي الذي لا يخون"٬ فتسافر إلى جنوب إيطاليا حيث "فيلا أماليا". 

ترسم الرواية التي أعادت باسكال كينيارد إلى فن السرد بعد توقف٬ الحياة المعاصرة من خلال تشضيها٬ ومن خلال المشاكل التي تحدث بين الأزواج وفي العلاقات السريعة التي تسم العصر٬ وتشكل طبيعته الغالبة.

Stéphane Hessel ستيفان هيسيل


صاحب كتيب «عبروا عن سخطكم» يقترب من مئويته ويبيع مليوني نسخة
ستيفان هيسيل لـ«الشرق الأوسط»: رفض توني بلير الالتقاء بقادة حماس غباء سياسي



باريس: محمد المزديوي
من كان يتصور أن كتابا صغيرا يمكنه أن يصنع الحدث ويثير غيرة كبار المفكرين والمتخصصين في إعطاء الدروس الأخلاقية والسياسية (الذين يشكون من ضعف مبيعات مؤلفاتهم!)؟ وبالفعل استطاع كتيّب أو دفتر عنوانه «عبّروا عن سخطكم» لستيفان هيسيل، والصادر عن دار نشر صغيرة «أندجين» أن يتجاوز رقم المليونين في 15 ترجمة، كما ذكر لصحيفة «الشرق الأوسط». ويبدو أن الدهشة أصابت حتى مؤلفه، فقد قال هيسيل بأنه تفاجأ من رواج الكتاب «تصورت أنه يمكن بيع بضعة آلاف، فقط»، كما قال لنا. ولعلّ من الضروري التذكير بأن المؤلف، هو في سن الثالث والتسعين (ولد سنة 1917)، ولا يتوقف عن السفر وإلقاء محاضرات ومناقشة كل الأجيال عن الراهن الفرنسي، وما فيه من عنصرية، تجاه المهاجرين والغجر ورغبة في الانطواء، وعن الراهن الدولي، أي العولمة والليبرالية المتوحشة وديكتاتورية الأسواق المالية، ومختلف مظاهر الظلم، وخاصة الظلم التاريخي الذي يطال الشعب الفلسطيني. وهنا أيضا نذكر بأنه من أصل يهودي، وعاش في معسكرات الاعتقال النازية، وكاد أن يعدم لولا أنه استبدل باسمه، قبيل المناداة عليه، اسم أحد الذين تعرضوا للإعدام، ونجح في الفرار مرات عديدة من جحيم هتلر. وأصبح موظفا أمميا ساميا ساهم في إعداد «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» سنة 1948. ومن حينها أصبح سفيرا دائما.
14 صفحة يتضمنها الكتيّب (إضافة إلى تصدير من الناشرة)، وهو مقسم إلى العناوين التالية: 1 - الدافع إلى المقاومة هو الاحتجاج، 2 - رؤيتان للتاريخ «كان الانخراط في المقاومة، بالنسبة لنا بسيطا، نسبيا. المقاومة تقتضي رفض الاحتلال الألماني والهزيمة. وكان بسيطا ما جاء بعدها من تفكيك للاستعمار. ثم حرب الجزائر، كان يجب منح الاستقلال للجزائر. الأمر بدهي». (ص. 12)، والرؤية الثانية سوداوية، ومن بين القائلين بها المفكر الألماني، صديق العائلة، والتر بنيامين (بالنسبة لوالتر بنيامين، الذي انتحر في سبتمبر/أيلول 1940 هربا من النازية، فإن معنى التاريخ، هو الانتقال من كارثة إلى أخرى) (ص. 13).3 - عدم الاكتراث: أسوأ المواقف. 4 - احتجاجي بخصوص فلسطين. 5 - اللاعنف، الطريق الذي يتوجب علينا اتباعه. 6 - من أجل عصيان سلمي.
وإذا كان الكتيب الصغير طافحا بقضايا هامة وشاملة. فإن «الشرق الأوسط» طرحت بعض الأسئلة التي تخص الشجن العربي والفلسطيني على هذا الرجل الذي يقترب من مئويته. وكان أول سؤال بخصوص الموقف المعارض، إن لم نقل المعادي، الذي يتعرض له، وهو اليهودي الناجي من المحرقة، من قبل المفكرين اليهود الفرنسيين، ومن بينهم ليفي وفينكلكروت، الذي وصف هيسيل، في مجلة «نوفيل أوبسرفاتور»، بأنه من البوبو (أي من شريحة البورجوازيين البوهيميين، التي تمارس النضال كترف). يرد هيسيل بأن هؤلاء يتناسون أنني كنت منخرطا في أشكال النضال المختلفة من سنواتي الأولى. إن هؤلاء يسيئون إلى قضيتهم التي يدافعون عنها، وهي إسرائيل، من حيث يتصورن أنهم ينصرونها (اللقاء مع هيسيل تم في مكتبة مونتروي، وتخلله هجوم على المكتبة من قبل عصابات يهودية، تنادي بالموت للفلسطينيين والحياة لإسرائيل، وتتهم هيسيل بالعمالة للفلسطينيين). «إنهم أوغاد، هؤلاء! لم يدافع عن إسرائيل أحد مثلما فعلت أنا».
يكتب هيسيل: «هل يفيد في شيء إطلاق حماس الصواريخ على سديروت؟ الجواب هو لا، ولكن يمكن تفسير هذا العمل بسخط الغزّاويين. وفي مفهوم السخط يجب تفهم العنف كنتيجة مؤسفة لوضعية غير مقبولة بالنسبة لمن يعانون منها. (...) السخط هو إنكار الأمل. وهو أمر مفهوم، بل أكاد أقول إنه طبيعي».
سألنا هيسيل عن زيارته إلى غزة، ولقاءاته مع القيادات الفلسطينية، هناك (إسماعيل هنية وآخرين). فأجاب: لا يمكن لنا أن نزور غزة من دون الاتصال بمن يُدير المنطقة سياسيا وعسكريا، ولا يضيرنا في شيء الاستماع إليهم، وأؤكد لك أن اللقاء كان إيجابيا، وسمعنا من قادة حماس رغبة في الهدنة وفي السلام. وأنا أنتهز هذه الفرصة لأندد برفض توني بلير، رئيس اللجنة الرباعية، الالتقاء بقادة حماس. وأعتبر تصرفه نوعا من الغباء السياسي.
لا يتصورن أحد أن هيسيل لا يضع في باله إسرائيل حين يتخذ مواقفه، فإذا كان في السابق قد قال إنه من أكثر المدافعين عن إسرائيل فهو صادق. نسأله عن كيفية الخروج من تشابكات وتعقيدات الصراع العربي الإسرائيلي، فيجيبنا بضرورة «إعمال الذكاء»، مكررا احترام الشرعية الدولية وقراراتها وتوصياتها. وهنا نسأله عن كيفية «إعمال الذكاء» من أجل تنفيذ واحترام القرارات الدولية، وخاصة «قرار عودة اللاجئين». هنا يتردد الرجل العجوز. حق العودة هو مقتل كل الغربيين. ويرد: «ثمة مسؤوليات كثيرة تتعلق بهذا القرار، والمسؤولية الأهم تقع على عاتق الدول التي استضافت هؤلاء الفلسطينيين.. أي الدول العربية.. تستطيع إسرائيل استقبال أعداد منهم، لكن لا يمكنها أن تستقبلهم جميعا، وإلا فلا وجود لدولة إسرائيل، العضو في المجتمع الدولي».
ثمة قواسم مشتركة تجمع بين المفكرين والساسة اليهود خارج إسرائيل (أقلية ضئيلة جدا تنفي فكرة وطن لليهود!)، ولكن ثمة أيضا اختلافات بين تياراتهم، إذ الفرق كبير بين رؤية ليفي وأدلير وفنكلكروت وغيرهم وبين مجموعة أخرى تتعرض، أحيانا للتحريم اليهودي والاتهامات بالخيانة بل والمحاكمات. لقد تدخّل اللوبي الصهيوني القوي في فرنسا لإلغاء ندوة تجمع ليلى شهيد برادة وستيفان هيسيل وريجيس دوبريه حول مقاطعة إسرائيل، وقبلها حوكم المفكر (الفرنسي اليهودي) إدغار موران بسبب مقال ينتصر لعدالة القضية الفلسطينية.
يقلق الصهاينة كثيرا حين يتصدى واحد من أبناء الطائفة اليهودية لجرائم إسرائيل، ويلجأون، أحيانا للعنف. غاظهم نجاح كتيّب ستيفان هيسيل وغاظتهم مواقف موران وآخرون. لعلّ الفلسطينيين يوظّفون هذا المدد في الانتصار لقضيتهم. لعلهم!

الاثنين، 15 أكتوبر 2012

أحمد الصياد لـ «الشرق الأوسط»: «ثقافة السلام» حرّف معناها وشوّهت غاياتها


أحمد الصياد لـ «الشرق الأوسط»: «ثقافة السلام» حرّف معناها وشوّهت غاياتها
بمناسبة مرور 60 سنة على تأسيس «اليونسكو»
مساعد مدير عام منظمة «اليونسكو» للعلاقات الخارجية والتعاون: أطلقنا برامج لتشجيع الحوار وفهم الأخر
باريس: محمد المزديوي
منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» التي احتفلت بالذكرى الستين لتأسيسها والتي قال عنها نهرو ذات يوم إنها «ضمير الإنسانية»، أنشئت على ركام الحرب العالمية الثانية وسط صيحات ملايين البشر «أوقفوا هذه الحرب المدمرة.. لا نريد حربا عالمية ثالثة». وانطلاقا من ذلك رفع الآباء المؤسسون، وهم نخبة من رجالات التربية والثقافة في العالم، عبارة شهيرة وضعت في مطلع ديباجة الميثاق التأسيسي لمنظمة اليونسكو، تقول: «لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام». وهكذا كانت سمات النضج الفكري والسياسي ملازمة لحياة اليونسكو منذ تأسيسها، ويمكن أن نرى ذلك بصورة أكثر وضوحا من خلال الأهداف الكبرى التي وضعها هؤلاء المفكرون والتي لا تزال تحتفظ بأهميتها وضرورتها اليوم أكثر من أي يوم مضى. بمناسبة مرورو 60 سنة على تأسيس اليونسكو إضافة إلى انعقاد الدورة الـ34 للمؤتمر العام لليونسكو في أكتوبر القادم، التقت «الشرق الأوسط» بالدكتور أحمد الصياد، مساعد مدير عام المنظمة للعلاقات الخارجية والتعاون، فكان هذا الحوار الشامل:
* هل لك أن تحدثنا عن أهم انجازات اليونسكو وطبيعة القضايا التي سيناقشها وزراء التربية والثقافة أثناء انعقاد المؤتمر العام، للمنظمة في أكتوبر القادم.
ـ أنشئت اليونسكو أعقاب الحرب العالمية الثانية، وحددت المادة الأولى من الميثاق التأسيسي المهام الكبرى للمنظمة والتي تكمن في المساهمة في «صون السلم والأمن»، عن طريق التربية والعلم والثقافة، وكذلك توثيق عرى التعاون والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة دون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين. هذه المثل وضعت قبل ستين عاما، وجسدت أمال ملايين الرجال والنساء، وتبقى اليوم صالحة لمواجهة التحديات الجديدة على مختلف الصعد الأمر الذي يحتم على اليونسكو أن تدخل مرحلة ما بعد الستين عاما حاملة معها مبادئ الأمس لمواجهة تحديات المستقبل.
أنقذت اليونسكو خلال مسيرتها 830 موقعا للتراث الثقافي والطبيعي منها حوالي 50 موقعا في العالم العربي، وجملة هذه المعالم مسجلة في قائمة التراث العالمي وبعضها للأسف في قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر. كما أقرت اليونسكو عددا من الاتفاقيات الدولية الخاصة بالتنوع الثقافي واللغوي واتفاقيات أخرى خاصة بالحد من الاتجار غير المشروع بالقطع الأثرية. واستطاعت اليونسكو أن تعيد عددا من القطع إلى بلدانها الأصلية كان آخرها مسلة تعود إلى مرحلة حضارة "اكسوم" في أثيوبيا بعد استعادتها من ايطاليا، وكذلك استعادة عدد من القطع المسروقة من العراق. وما زلنا نواصل الجهود بالنسبة لآثار العراق بالتعاون مع الإنتربول ودول الجوار. وهناك اتفاقيات للمحافظة على التراث الشفهي والآثار المغمورة بالمياه، باعتبارها تمثل ذاكرة الشعوب. في المجال التربوي ساعدت المنظمة الكثير من الدول في القضاء على الأمية وإعادة النظر في المناهج التي تقلل من دور الآخر سواء كان رجلا أو امرأة، طفلا أو كهلا.
التربية والعلم والثقافة والاتصال، هي أهم القضايا التي سيناقشها المؤتمر العام في دورته القادمة، ولنا أمل أن تعي الدول الأعضاء انه لا تنمية حقيقية بدون علم وتربية سليمة. وهذا يعني أن على الدول ان تضاعف الاعتمادات المخصصة للتربية مقابل تخفيضها في القطاعات غير المنتجة وخاصة التسلح.
* ماذا عن الهموم الجديدة في مطلع هذا القرن الجديد بالنسبة لليونسكو؟
ـ مهامنا متعددة، منها، إعطاء وجه إنساني للعولمة. فالجميع متفق على أن وجه العولمة اليوم يتسم بالقبح والهيمنة. ولهذا تعقد المؤتمرات لتحديد مسار العالم الجديد، وتعقد بجانبها المؤتمرات المضادة. وهنا يكمن دور اليونسكو، باعتبارها قامت على أساس التضامن الفكري بين البشر، وبالتالي على المنظمة أن تتمسك بتلك المبادئ لإعطاء بعد إنساني للعولمة، لكي لا يتجه العالم إلى فوضى عالمية، وذلك من خلال الإسهام الفعال في مكافحة الفقر، وتشجيع الحوار وفهم الآخر مع المحافظة على التنوع الثقافي والتعدد اللغوي والتأكيد على التعليم من اجل تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وإقامة الحكم الرشيد.
* عملياً كيف يمكن حل هذه المشكلات؟
ـ قدرت المحافل الدولية تكاليف إزالة الفقر إذا ما توفرت النوايا الحسنة بنسبة لا تتجاوز 1 في المائة من إجمالي الدخل القومي العالمي وهي نسبة ضئيلة جدا يمكن توفيرها دون عناء لمواجهة هذا الوضع الخطير. المعطيات تشير اليوم إلى أن العهود التي قطعتها دول العالم على نفسها للحد من الفقر في العالم بحلول 2015 لن تتحق، غير أن هذه الصورة القاتمة لا يجب أن تؤدى إلى اليأس وعلينا جميعا أن نستمر في المطالبة بوضع برامج عملية ورصد الأموال الكافية لمكافحة الفقر.
وقد أطلقت اليونسكو مؤخرا عددا من البرامج لتشجيع الحوار وفهم الآخر، ومن بينها برنامج ثقافة السلام، ودعت إلى حوار الأديان والحضارات، وكذلك أنشطة أخرى خاصة بطرق الإيمان، وطرق الأندلس، وطريق الحرير، وجملة هذه الأنشطة تهدف إلى معرفة الآخر وغرس فكرة التعايش والحوار. غير أن البعض حرف ثقافة السلام التي كان لي شرف طرحها وتبنيها في المجلس التنفيذي لليونسكو عام 1992. فقد ظنوا انها تهدف إلى التطبيع بين جماعات لا يوجد ما يمكن أن تطبع حوله غير أن ثقافة السلام التي أردناها هي مجموعة قناعات وقيم مشتركة تركز على احترام حقوق الإنسان، تروج للتفاهم المتبادل بين الشعوب واحترام الديمقراطية والكرامة والمساواة. هذه هي أسس ثقافة السلام التي يجب أن تحل محل ثقافة العنف.
أما بالنسبة للتعدد اللغوي فهو حجر الزاوية للتنوع الثقافي. ووضع اللغات في العالم خطر. فإذا كانت اللغات تقدر اليوم بـ 6000 لغة فإن عشر لغات منها تموت كل عام. صحيح أن موت اللغات ليس ظاهرة جديدة، ولكن هذا الموت لا يجب أن يكون قدراً محتماً، والإنقاذ ممكن ومتيسر وهنا تكمن إحدى مهام اليونسكو خلال السنوات القادمة. من جهة أخرى، تناقصت الموارد المائية خلال السنوات الأخيرة بشكل مخيف حيث يتوقع الخبراء أن ينخفض ما يتوفر من المياه للشخص الواحد على المستوى العالمي إلى الثلث كما تراجعت جودة المياه بشكل ملحوظ. إذ يموت كل يوم حوالي 6000 شخص اغلبهم من الأطفال بسبب أمراض الإسهال وتعدد الكوارث الطبيعية المتعلقة بالمياه والتغيرات المناخية. كما أن دراسات المستقبل تشير بشكل لا لبس فيه ولاغموض أن النزاعات المتعلقة بالمياه ستكون هي الأكثر بروزاً خلال القرن الحادي والعشرين.
* يلاحظ مؤخرا أن اليونسكو وخاصة قطاع العلاقات الخارجية والتعاون الذي تتولون إدارته يتجه نحو البرلمانيين ومؤسسات المجتمع المدني لجعلها شريكا فاعلا، هل هذه سياسة جديدة للمنظمة؟
ـ اليونسكو منظمة أسستها الحكومات لمواجهة آثار الحرب العالمية الثانية عن طريق التربية والعلم والثقافة. وخلال أكثر من خمسة عقود كانت الحكومات تعتبر أنها قادرة على عمل كل شيء، وتنظر إلى مؤسسات المجتمع المدني بمنظار الريبة والشك. بل إن بعض حكومات دول الجنوب تعتبر عمل المنظمات غير الحكومية هو عمل جواسيس تسيرهم قوى خارجية معادية. وعندما كنا نحاول إقناع بعض الحكومات بأهمية مؤسسات المجتمع المدني كنا كمن يحرث في البحر. ولكن تلك النظرة الخاطئة أفلست وأدرك الجميع ان الحكومة لا يمكن أن تعمل كل شيء. عملنا في اليونسكو من أجل هذه السياسة منذ عدة سنوات رغم الاعتراضات والعراقيل وقد أصبحت اليوم سياسة ثابتة. فاليونسكو تعمل اليوم مع أكثر من 350 منظمة غير حكومية وأسسنا أكثر من ثلاثة آلاف ناد لليونسكو في مختلف دول العالم. أما العلاقات مع البرلمانيين فهي حديثة وأنا سعيد أنها بدأت تأتي بثمارها. دور البرلمانات محوري، فالمصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية تتم هناك، كما أن ميزانية أي دولة متحضرة لا بد أن تمر عن طريق البرلمان، ونحن نعمل مع البرلمانيين لكي يدافعوا عن ميزانية القطاعات الأساسية مثل التربية والعلم والثقافة مقابل تخفيضها في القطاعات غير المنتجة. لقد نظمنا عددا من اللقاءات مع البرلمانيين في المنطقة العربية. وهذه السياسة التي انتهجتها اليونسكو أصبحت الآن هما مشتركا لسائر منظمات الأمم المتحدة، فقد كلف الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان رئيس البرازيل السابق كردوزو لعمل تقرير دولي عن دور مؤسسات المجتمع المدني في عمل الأمم المتحدة بشكل عام وأكد التقرير على هذا الدور وعلى ضرورة مشاركة المجتمع المدني في كل الأنشطة والبرامج. وبالتالي فان سياسة اليونسكو في هذا المجال ثابتة ولا تراجع عنها.
> احتفل مؤخرا في أكثر من عاصمة عربية بصدور مائة عدد من «كتاب في جريدة»، بما أنك من أوائل من تحمس لهذا المشروع في اليونسكو هل يمكن أن تحدثنا عن هذه التجربة وآفاق استمرارها؟
ـ تحمست لهذا المشروع وما زلت في ذروة الحماس. فقد انطلق مشروع كتاب في جريدة بهدف تنشيط الحراك الثقافي وتنويع محاولات حفز النمو، للتغلب على ضيق قاعدة القراءة وقلة انتشار الكتاب وبخاصة بين الشباب والطلاب ومحدودي الدخل، بهدف فتح أبواب الاطلاع والاغتناء الثقافي، وزرع عادة التعامل مع روائع الإبداع. وقد تميز مشروع «كتاب في جريدة» بجمعه الخلاق بين الوعي الثقافي من خلال فتح الأبواب على ما في التراث الأدبي العربي من روائع، مثل شعر المتبني أو نثر الكاتب الموسوعي أبو حيان التوحيدي، والتعلق بأعمال أدبية حديثة تعمق الوعي الإبداعي وتغنيه، من بدر شاكر السياب إلى البردوني وأمل دنقل والطيب صالح على سبيل المثال، إلى توسيع دائرة الاطلاع والتبادل الثقافي لتشمل مناطق المحيط العربي الأبعد عن المركز الثقافي العربي، بنشر أعمال لكتاب مثل قاسم حداد وزيد مطيع دماج وقصص من الخليج. وأردنا نفض الغبار المتراكم فوق إبداعات كتاب ملأوا زمنهم القريب بالجدل والصراخ الداعي الى التجديد، أمثال زكي مبارك، وإعادتهم إلى دائرة القراءة والتأمل، والتفاعل مع الآداب العالمية بما يغني الخيال الإبداعي العربي بتجارب شعراء وكتاب من أمثال قيصر باييخو. إنها دون شك تجربة خصبة على الرغم من قصر مدتها، فإنها بانجازاتها ودلالتها الرمزية وبما تثير في الوعي العربي من قيم حضارية وإبداعية تشيعها الأعمال التي تنشرها.
أعرف أن هناك بعض الكتاب العرب الذين لم ينشر لهم بعد في كتاب في جريدة، غير راضين، لكني أقول للجميع إن استمرار هذه التجربة كفيل بنشر كل عمل إبداعي قديم وحديث للرجال كما للنساء. إن توسيع دائرة المتفاعلين من قراء ومبدعين هو ما يحاول «كتاب في جريدة» أن يصل إليه. لقد تغنينا بالوحدة السياسية طيلة العقود الماضية وخرجنا بفشل مخيف على المستوى القطري والقومي ومادام التوحيد السياسي قد أخفق فلم يعد أمامنا إلا توحيد العرب حول الإبداع العربي على الأقل وهذا أهم هدف كتاب في جريدة.
> دعنا نتناول في الأخير الجانب الذاتي، فقد كتبت عن الوضع الدولي ونشرت عن «دار الفارابي» في بيروت كتابا عن اليونسكو رؤية للقرن الحادي والعشرين. كما كتبت عن اليمن كان آخرها كتاب «آخر القرامطة» عن «المؤسسة العربية للدراسات». ما هي المشروعات الجديدة اليوم؟
ـ كغيري أحلم بإنجاز الكثير في المجال الثقافي لقناعتي بأن هذا العمل هو الذي يبقى. غير أن هناك فرقا شاسعا بين الحلم والواقع. فواقع العمل البيروقراطي الدولي يقضي على كل حلم. فعملي في منظمة اليونسكو لم يعد يترك لي أي وقت. ولذلك فالكثير من المشروعات كتابتها مؤجلة. «آخر القرامطة»، وبحكم أحداث يمنية معينة شدتني إليها، فرض نفسه علي وكان لا بد لي من كتابته على الرغم من عملي اليومي ورحلاتي الكثيرة.
«آخر القرامطة» يجسد أحلام العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين بمفارقاتها وشطحاتها السياسية والآيديولوجية. وهو وان كان قد جعل من عدد من الشخصيات السياسية اليمنية التي أسهمت في تاريخ اليمن الحديث، محوراً للحوار في ما بينهم لإعادة قراءة التجربة السياسية والمواقف الفكرية، فان تلك القضايا التي تم الحوار حولها يمكن أن تنطبق على أي دولة عربية. فالحركات القومية واليسارية والليبرالية والدينية موجودة هنا وهناك بإخفاقاتها وانجازاتها. وقد كان «آخر القرامطة» ذلك الرمز الذي مكنته تجربته وثقافته من جعل ذلك الحوار ممكنا حتى وان كان في الآخرة، لأن الحياة الدنيا ضاقت بقيم الوحدة والحرية والديمقراطية والحوار.

السبت، 13 أكتوبر 2012

Marc Edouard NABE


رغم محاصرته بسبب معاداته للثقافة الصهيونية
مارك إدوار ناب يصدر كتاباً جديداً ويتنافس على جائزة أدبية
2010-10-23 
باريس - محمد المزديوي  

ليس سراً أن الكاتب الفرنسي مارك إدوار ناب من أهم الكتاب الفرنسيين، حالياً (27 كتاباً في دار النشر الشهيرة غاليمار وغيرها)، رغم سطوة الميديا في فرنسا، وسقوط الثقافة والبرامج الثقافية بين أيدي ثلة من المتصهينين، تحدّث عنهم وعن دسائسهم وصناعتهم لراهن الثقافة الفرنسية، اليوم، الكاتبُ الفرنسي الكبير رونو كامو، في كتابه المثير للجدل «بادية فرنسا»، قبل أن ينهار بسبب الهجوم الصهيوني، ويعتذر لهم، ويؤسس حزباً سياسياً، شغله الشاغل هو محاربة الإسلام والمسلمين، ولكن مارك إدوار ناب، وهو ابن عازف الجاز الشهير مارسيل زانيني(من أصول إيطالية)، كما أنه عازف جيد على القيثار، ويشارك أباه أحياناً، كما أنه من أهم المضطلعين بثقافة الجاز الأميركية، مُحاصَرٌ، بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذ بسبب آرائه المعادية للصهيونية، حرم من البرامج الثقافية في التلفزيون الفرنسي (انهال عليه مرة الصحافي بن عمو، وهو صهيوني، بالضرب وأدماه، كما أن البرامج القليلة التي تستدعيه تُحرّف بعض كَلِمِه، وتشوه مراميه)، كما أن الصفحات الثقافية الفرنسية لا تقبل الحرية التي يعبر عنها في كتابته ولا ميوله السياسية، فهو من الفوضويين اليمينيين والمعادين للصهيونية، وحتى دور النشر الفرنسية قاطعته، فقرّر، مُكرهاً، الاتجاه للنشر الذاتي، وأصدر كتابه الجديد، واختار له عنواناً مثيراً، «الرَّجُلُ الذي توقَّفَ (أوقف نفسه)عن الكتابة»، ولأنه قرر مقاطعة القنوات العادية لتجارة وتسليع الكتاب فالكتاب يُطلب من موقع الكاتب مباشرة، مع دفع رسوم البريد: (www.marcedouardnabe.com).
والغريب أن تناول موضوع هذا الكاتب، الموهوب، والذي بدأ الكتابة في وقت مبكر جداً (من مواليد 1958)، وسط إعجاب شديد من الوسط الباريسي للثقافة، في هذا الوقت، دليل على أن الكتابة الأصيلة لا تضيع رغم كل الحصارات وكل التضييق، ولم يكن مفاجئاً أن يورد ملحق صحيفة «لوموند» للكتب، هذا الأسبوع، خبراً عن ورود اسم مارك إدوار ناب في قائمة المتنافسين على جائزة رونودو، ولو أن ثمة عقبات قادمة واختيارات أخرى، يمكن أن تحيط به وتمنح الجائزة لكاتب «مقبول» و «محترم».
الدروس المستفادة من عودة الابن الضال للأدب الفرنسي كثيرة، منها أن ثمة من الكتاب الفرنسيين، أعضاء تحكيم الجائزة، من لا يزال موضوعياً ويمتلك حرية إغضاب القطيع أو السائد، ومن بينهم الكاتب «باتريك بيسون».
وإذا كان الكثيرون هاجوا لمجرد ورود اسم مارك إدوارد ناب في القائمة غير النهائية، بسبب قدومه من غير الطريق العادي للكِتَاب وتسويقه، أي من دار نشر معلنة «ومحترمة»، فإن الكاتب بيسون ذكّرهم بأن النشر الذاتي، كان معروفاً في الماضي، ويورد بعض أسماء الملتجئين إليه وعلى رأسهم، دوستويفسكي وتولستوي، فلِمَ لَوْم مارك إدوار ناب، وحده؟!
لا يُعوّل مارك إدوار ناب، كثيراً على الجائزة، فثمة مطبّات كثيرة في طريقها، ولكن هذه الدعاية المجانية، تساعده على زيادة مبيعات كتابه، ويستطيع «أبله باريس»، وهو عنوان لصحيفة مشاكسة أصدرها قبل سنوات، قبل أن تختفي، أن يفخر بكونه يحصل على %70 من قيمة الكتاب (عادة ما يحصل الكاتب، في الغرب، على %10 من حقوق المؤلف) في حين أن %30 تذهب إلى المطبعة.
ولمن يعشق الجاز، فما عليه، حين زيارة باريس، إلا اقتناص السهرات النادرة التي ينجزها الأب العجوز، في مطعم «لوبوتي جورنال»، وبرفقة ابنه الكاتب، عازفاً للقيثار، في انسجام فني رائع.
في كل مكابدات الكاتب وأشكال الحصار عليه كان أبوه حاضراً، وبقوة. ويأتي، بعد كل هذا، مَنْ يطالبنا بقتل الأب (رمزياً، نقصد، حسب فرويد!).

الكاتب المجري أمري كيرتيز

في حوار مع الكاتب المجري أمري كيرتيز
لست صهيونياً ولكن فناناً أوروبياً
2010-12-25 
باريس ـ محمد المزديوي 
ذهل العديد من المهتمين بشؤون الأدب سنة 2002، من فوز الكاتب المجري أمري كيرتيز بجائزة نوبل للأدب، فقد كان بالفعل مغمورا إلا لدى أقلية صغيرة ولدى أعضاء تحكيم الجائزة. وذهبت الكثير من المواقف المتسرعة إلى درجة الحديث عن صهيونيته، والبحث عن الدوافع الحقيقية عن هذا التوشيح، خصوصا أن ثمة عشرات من الأسماء تنتظر كل سنة تتويجها، والأكيد أنها ستموت من شدة الانتظار.
ولكن الكاتب، شأنه شأن الباحث والمفكر الكبير والتر بنيامين، لم يستسغ الفكر الصهيوني ولم يسقط في إغوائه. وقد كشف الأمر في حوار شيق أجرته معه المجلة الأدبية الفرنسية الرصينة "Le Matricule des anges" العدد 118 (نوفمبر/ديسمبر 2010)، نقتطف منه بعض المقاطع:
- بالإضافة إلى رفضك كل خطاب عن الضحايا (أي حديث كاتب ما المستمر باعتباره ضحية)، تقوم بلي عنق مبدأ أدورنو Adorno، الذي يقول فيه: إنه لا يمكن لأي كان أن يكتب قصيدة بعد أوشفيتز، وبالتأكيد في كتابك "الهولوكوست كثقافة" (دار أكت سود 2009) على أنه بعد أوشفيتز لم يعد من الممكن أن نكتب قصيدة إلا عن أوشفيتز.
- توجد ثلاثة طرق مختلفة لفهم المسألة الأدبية عن أسطورة أوشفيتز. ثمة في المقام الأول الرعب الذي سبق مؤتمر فانسي Wannsee، والشعور المسبق بما سيسفر عنه الأمر.
وهنا سأشير إلى اسم كافكا، الذي يقول في مكان ما أتصوره في كتاب "محاورات مع كافكا" لغوستاف جانوش: "ينفتح الكون مثل فم. في هذا الحلقوم الضخم نفقد كل يوم أكثر فأكثر من حرية تحركنا الشخصية. أعتقد أنه قبل قليل يتوجب علينا أن نتوفر على جوازات سفر خاصة كي ننزل إلى ساحاتنا. العالم يتحول إلى غيتو".
ثم جاءت تجربة معسكرات الاعتقال باعتبارها تجربة، شهادة المواطن المنذهل، الذي يتساءل في نظر تاريخ الحضارة الأوروبية: كيف كان الأمر ممكنا. هنا أفكر، بطبيعة الحال، في مؤلف كتاب: "لو كان رجلا" لبريمو ليفي Primo Levi.
وأخيرا، يتبقى الذين أنتمي إليهم بتواضع، الذين اهتموا بشكل أكبر بما بعد الضربة، بنتائج أوشفيتز، مثل جان آمري وتادوز بوروفسكي. كان بإمكاني مثل آخرين، أن أعاند بشكل دائم في وصف سنواتي التي قضيتها في معسكرات الاعتقال، وأنا في لباس داخلي، فكي أستطيع تقديم شهادة يجب قبل كل شيء الإحاطة الواضحة بالهوية الخاصة، وامتلاك اليقين بأننا التقينا بحقيقتنا.
إن فهم ميكانيزمات العمل في المعسكرات، كان بالنسبة لي في نهاية المطاف حركة بسيطة تشبه بساطتها حركة فتح نافذة غرفتي.
- إذا كانت يهوديتك قد أتاحت لك أن تعيش التجربة الشاملة لوجود بشري خاضع للتوتاليتارية، فهي مع ذلك مطبوعة بختم السلبية، لماذا؟
- لم أصبح صهيونيا ولا متدينا أو مؤمنا، لكن أصبحت فنانا وأوروبيا. وقد كانت قرارات من الصعب اتخاذها، ولا أزال أجهل اليوم كما في السابق الثقافة والحفلات اليهودية، ومن بين كبار الفلاسفة اليهود لم أقرأ سوى سبينوزا Spinoza. وقد وجهت لي إسرائيل نداءات كثيرة ورفضت دائما الاستجابة لها. لدي تعاطف مع كل يهود العالم والتاريخ، لكن فقط حينما يكونون مطاردين أو في حال الخطر. عدا هذا فإن يهوديتي عبرت عن نفسها في غالب الأحيان باعتبارها تحديدا خارجيا.
هل تعرفون المؤرخ البولوني والصحافي والناشط السياسي إسحاق دوتشير Isaac Deutscher؟ فقد ألف كتابا تحت عنوان "اليهودي غير اليهودي"، وفيه عرض لأنماط عديدة من المركبات اليهودية: المركب اليهودي كقومية، وكفوق قومية ثرية ذات نفوذ وكدولية ثورية.. إلخ. لنقل: إني متفق معه، كما أني متفق مع كوستلر Koestler حين يؤكد أن اليهود الذين لم يعودوا إلى إسرائيل ليسوا يهودا حقيقيين. فاليهودي الأرثوذوكسي كي يقول لك وداعا أو إلى لقاء قريب، يقول "إلى بيت المقدس". وإذا كان اليهودي معناه الالتحاق بدولة إسرائيل، فأنا لست يهوديا. لا، لست يهوديا!
 

Celine LOUIS

 
فرديناند سيلين عائد رغم أنف المبغضين
رسائله أخيرا عن «لابلياد».. حتى المعادية للسامية








باريس: محمد المزديوي
من رأى صور فرديناند سيلين، أحد أكبر روائيي فرنسا في القرن العشرين، قبيل وفاته في الأول من يوليو (تموز) 1961، إلى جانب مارسيل بروست، لا شك في أنه تصوره مشردا أو صعلوكا، ولم يكن يتصور أنه أحد عمالقة الأدب. ولعل من أكبر أخطائه أنه لم يكن يتحرج في كتابة ما يحس به، ولعل كتاباته المتهمة باللاسامية جلبت له كل الويلات؛ من الهرب.. إلى السجن.. إلى حياة البؤس.
ولكن الأمر تغير، الآن، فكتبه تحظى بقراءات كثيرة وترجمات إلى عدد من اللغات، مما يمنح الكاتب قراء جددا وآفاقا جديدة. ولن نفاجأ، قريبا جدا، حين يصبح بالإمكان قراءة كتبه الحارقة التي كانت تعادي السامية ومن بينها «bagatelles pour un massacre وles beaux draps».
وليس غريبا أن نجد الآن كبار الكتاب الفرنسيين يعلنون، من دون مواربة، تتلمذهم وإعجابهم بسيلين، وعلى رأسهم فيليب سوليرز، كما أن الممثل المسرحي والسينمائي الفرنسي فابريس لوشيني قدم قراءات مسرحية للفصول الأولى من رواية «سفر في آخر الليل»، وقد شهدت القراءات حضورا ونجاحا منقطعي النظير.
وها هي «دار غاليمار»، ومن خلال سلسلتها الشهيرة «لابلياد»، تقوم بإخراج «رسائل» سيلين من تقديم أهم المتخصصين الفرنسيين في أدب سيلين؛ هنري غودارد، وجان - بول لويس. وفي التقديم نقرأ: «إن مراسلات سيلين ليست، كما هو شأن فلوبير، نهرا بمسكوب منتظم. لا حاجة لديه أن يحكي نفسه ولا أن يحلل نفسه ولا أن يتدفق. وهو عادة لا يكتب سوى الرسائل القصيرة، كي يقول ما يريد قوله في تلك اللحظة، من دون زيادة. وكي ينهمك في كتابة نص طويل، وبشكل مستمر، يحتاج سيلين إلى مناسبات خاصة، كالمنفى».
ولأن الرسائل تتمتع بكثير من السخرية التي نفتقدها لدى كثيرين من الكتاب، ولأن الرسائل، أيضا، تفضح العلاقات الملتبسة بين الكاتب وناشره، وبين الكاتب والصحافيين، قمنا بترجمة أربع رسائل للقارئ العربي:
رسالة إلى صحيفة «لومانيتيه»
31 أكتوبر (تشرين الأول) 1949.
* «إن ما يفاجئني، سيدي، هو أن السيد موريس توريز، الهارب من العسكرية إلى العدو، في زمن الحرب، لا يوجد في مقبرة العظماء. وإن ما يفاجئني، أيضا، هو أنكم لا تخبرون قراءكم بأن السيد أراغون (لويس) والسيدة تريولي (إلزا) ترجما سنة 1934 روايتي (سفر في آخر الليل) إلى اللغة الروسية، بطلب من الحكومة الروسية. يبدو أنك غير مصمم على قول الحقيقة. تستطيع أيضا أن تخبرهم بأنني انخرطت، متطوعا، في الحربين، وحصلت على ميدالية عسكرية في نوفمبر (تشرين الثاني) من سنة 1914، وخرجت معوقا بنسبة 75%. الأمر يثير الضحك، أليس كلك؟ آه.. بالفعل إن قراءكم ليسوا على اطلاع جيد. أنا لا أرد على الأحدب، ولا أرد على المجهولين، أرد عليك، أنت، السيد المدير. لا أصفك بشيء سوى أنك مخبر سيء».
إلى غاستون غاليمار
الجمعة 19 سبتمبر (أيلول) 1952.
* «تبعا لحديثنا الهاتفي، يبدو لي أن الوقت قد حان للبحث عن (أديب) يهتم بوضع كتاب عن مؤلفاتي الجميلة ومزاياها. السيد جيد (أندريه) وبروست وجيرودو، وآخرون، كانت لهم مئات الكتب المنشورة التي تتحدث عن أساليبهم وبنوتهم. وحتى الكتاب الأجانب، مثل جويس وفولكنر وميللر، وغيرهم. وسيكون الأمر مضحكا ومجحفا بشكل كبير (لكليْنا) أن يتواصل اعتباري «تابعا» غامضا ومثيرا للتقزز لسارتر أو لميللر أو لجونيه أو لباسوس أو لفولكنر، بينما أنا مخترع وخالع باب هذه الغرفة التي تجمدت فيها الرواية حتى صدور رواية (سفر في آخر الليل). يبدو أنك تحس بالخجل من إطْلاع الآخرين عليه وكتابته والهتاف به. فرنسا، أولا، باسم الرب. في هذا البلد الذي لا يوجد فيه من شيء صحيح إلا الطبخ والفنون الجميلة. وفي ما يخص الحوارات، فإنها يمكن أن تغوي النجوم والمحامين، وليس الكتاب، غير أني لست إلا كاتبا، علينا أن لا ننسى الأمر، لم أكتب أبدا مقالا واحدا في حياتي، وهو واقع ننساه (أنا حساس جدا حول هذه النقطة). أنا طبيب، وفضلا عن ذلك، طبيب صغير، هذا كل ما في الأمر. وظيفتان، حصرا. كتبي موجودة، هنا، وقد تعرضت للسرقات (الأدبية)، كما أنها غذت نساخا متبجحين كي يتم إخراجها ويتم الحديث، لإظهار الإعجاب والاعتراف بهذه الطريقة المتقنة (الحيلة) وهذه الموسيقى الخافتة التي يحوم حولها المقلدون من دون أن يفهموها.
المدعو فيتا، صديق السيد مونيي، بدأ دراسة عن سيلين.. ثيوفيل بريانت، وهو شاعر مرهف، يبدو لي الأكثر أهلية. حتى جيرودو وأندريه جيد، وجدا في فراغهما «المطلق» مئات التعليقات، وسيكون الشيطان، لو أنك، في كل علاقاتك، لا تكتشف لي معلقا واحدا. حي على العمل، أيها الناشر.
حين تقول لي إن كتابي (Feerie) لا يباع، أصدقك، باعتدال، أنت تعرف أنك مشهور لأنك لا تعترف أبدا ببيعك كتابا واحدا».
إلى غاستون غاليمار
12 مارس (آذار) 1961.
*ناشري العزيز وصديقي, الوقت يمر ولا أرى شيئا في الأفق، على الرغم من العقد والكلمات المعسولة. طبعة (لابلياد)، التي تخصني، تعطلت، وكي أقول كل شيء، فإن «NRF» (المجلة الفرنسية الجديدة)، من تأجيل لآخر، تهزأ بي. ما الذي تراه؟ لم أعد في عمر الإرجاءات الأبدية، وأنت، كذلك، في ما أعتقد. الله يعرف أنني أقاطع الصحافيين، لكنهم يؤكدون لي أنه من أجل إطلاق هذا الكتاب يجب علي أن أسبق ظهوره ببضع مقالات. ما الذي تراه؟
مؤلفك الوفي جدا ل. ف. سيلين»
إلى إلزا تريولي
29 سبتمبر 1960.
*«اسمحي لي أن أكتب لك لأنني لم أتلق أي رد من أي جهة على سؤال كنت طرحته في باريس وموسكو: ما الذي صارت عليه ترجمتك لرواية «سفر في آخر الليل» إلى الروسية. لا أريد أن أزعجك، لكنك ستصفحين، ربما، عن هذا الفضول الصغير لمؤلف، مطمور تحت كثير من الأحداث وثلاثين سنة، تقريبا، من الصمت.
تقبلي سيدتي أصدق تحياتي»


elmezdioui@gmail.com

الخميس، 11 أكتوبر 2012

ماري فرانس يونيسكو تكتب عن أبيها "المُضْطَهَد"


العدد الثاني والخمسون  ماري- فرانس يونيسكو بورتريه الكاتب في القرن
محمد المزديوي2009-07-18

  المكانة التي يحتلها الثلاثي الروماني «يوجين يونيسكو» و«ميرسيا إلياد» و«سيوران»، في الأدب والثقافة الفرنسيين كبيرة جدا، ومن النادر أن نعثر على أحد في الوسط الثقافي الفرنسي ينكر التأثير الذي مارسوه على العديد من المثقفين الفرنسيين وغير الفرنسيين. ولكن ما بدأ يلفت النظر، بصفة غير بريئة، في السنوات الأخيرة هو نوع من «صيد الساحرات» الذي طفق الكثيرُ من المثقفين الفرنسيين يمارسونه، وخصوصا الكتاب المنحدرين من رؤى ونزوعات صهيونية، ترى في الكثير من الكتاب الفرنسيين الكبار إمّا فاشيين أو أنهم معادون للسامية، مستفيدين من نكوص اليسار أو من انزلاق بعض اليساريين إلى اليمين في غياب(موت) أقطاب الفلسفة والفكر الكبار، ومن بينهم بيير بورديو وجيل دولوز وجاك ديريدا وغيرهم.



رأينا ممارسة «صيد الساحرات» في الهجوم الذي تعرض عليه سيلين وأيضا الهجوم الجارح الذي تعرض له جان جونيه، مؤخرا.  

في الآونة الأخيرة صدرت كتب «حاقدة» تنبش في ماضي وشباب هذا الثلاثي الروماني، ومن بينها كتاب «مارتا بيترو»: يونيسكو في بلد الأب» وكتاب «الكساندرا لافاستين»: «سيوران، إلياد، يونيسكو، نسيان الفاشية»، وقد شاءت ماري-فرانس يونيسكو، وهي ابنته(وكل فتاة بأبيها معجبة، كما تقول العرب)، أن تدافع عن أبيها وتفند مغالطات المتهجمين، ومن هنا كان هذا الكتاب الجميل الذي ارتأينا ترجمة أحد فصوله الشيقة، وهو بعنوان «المنفى»..  

 قصيدة صلاة

سماءٌ صغيرة، يا إلهي،

من أجل روحي الصغيرة،

يا إلهي أنا ورقة في مهبّ الريح

أنا بندقة

أنا ضفدعةٌ مذعورة

أنا عصفور جريح.

كلّ أعشاشي سُرِقتْ منّي

كل المقاليع جرحَتْني

يا إلهي الصغير، ارفعني

واجعلني أكون سعيدا

مثل البقرات ذوات القرون البريئة

مثل الكلاب ذوات عيون الملائكة

مثل النيلوفر

مثل الحَصَوات الناعمة.

نصّ

المنفى

المنفى باعتباره حنينا (رغبة في العودة)، يستوجب ما «قبل» المنفى، حالة امتلاء يُولّد توقفه الشعور بالمنفى. هذا الامتلاء عاشه يوجين يونيسكو في لاشابيل- أنتنيز، قرية صغيرة في المايينMayenne، حيث قضى سنوات طفولته والتي ظلّت فردوْسَه... ضائع مثل كل الفراديس. نعم في فردوس، بطبيعة الحال، ولكن بعيدا عن الزمن. «في لاشابيل-أنتنيز Chapelle-Anthenaise ، لم يكن للزمن وجودٌ. كنت أعيش في الحاضر. الحياة كانت نِعمة، فرحة الحياة[...]، الزمنُ كان عجلة، نعم، وكانت العجلة تدورُ من حولي وكنت أُحسُّني جامدا وخالدا؛ كنت مركز العالَم؛ لكن للأسف قوةً نابذة  دفعت بي إلى الحلبة، إلى الزمن.» أي نعم، إن المنفى، قبل كل شيء، وكما يقول سيورانCioran ، السقوط في الزمن. أمّا الفردوس فهو، أيضا، الضوءُ: «أتذكر أحد الصباحات السعيدة جدا والمضيئة جدا، حيث كنت أتوجه في ثياب يوم الأحد إلى الكنيسة. لا أزال أرى السماء الزرقاء، ولا أزال أرى في السماء قبّة الكنيسة. أسمع الأجراس. كانت ثمة سماء، وكانت ثمة أرضٌ، التزاوج الكامل ما بين السماء واٍلأرض[...]، اليونغيون (أتباع المحلل النفساني الشهير يونغ C.G. Jung)  يقولون بأننا نقاسي من الإحساس في دواخلنا بانفصال السماء والأرض.

«المنفى الأول كان هو العودة إلى باريس. «حين عدت إلى باريس، ثم في عمر الحادية عشر، كنت شقيا جدا. كان ينتباني الشعوربأني في سجن. حيطان باريس كانت تمثل هذا السجن، بمنازلها الكبيرة التي تشبه حيطان السجون».  المنفى الثاني كان هو الرحيل من فرنسا إلى رومانيا، وترك المشاهد العائلية وكذلك ترك اللغة الأمّ. «وصلتُ إلى بيخاريست حين كنت في عمر الثالثة عشرة ولم أعد إلى فرنسا إلاّ حين بلغت السادسة والعشرين من عمري. تعلمتُ اللغة الرومانية هناك. في سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة حصلت على معدلات سيئة في اللغة الرومانية، ولكني سرعان ما حصلت على معدلات جيدة في نفس اللغة في سن السابعة عشرة والثامنة عشرة. كنت قد تعلمت الكتابة. وطفقت أكتب قصائدي الأولى باللغة الرومانية. ولم أكن أكتب باللغة الفرنسية بشكل جيد. كنت لا أزال أرتكب بعض الأخطاء. حين عدت إلى فرنسا كنت أتقن اللغة الفرنسية، بطبيعة الحال، ولكني لم أكن أعرف الكتابة بها.  ما أقصده هو أني لم أكن أعرف أن أكتب من «الوجهة الأدبية». كان يتوجب عليّ أن أتأهّل من جديد. أعتقد أن هذا التعلّم، ونسيان التعلم، والتعلم من جديد، تمارين هامة. ثم إنه كان ثمّة تمزّقٌ، لأنني أحسستُ هناك بأني في منفى».

يعلّق يوجين يونيسكو، بسخرية، على انتمائه الثقافي المزدوج بالقول: «في مدرسة القرية الابتدائية تعلمتُ أن اللغة الفرنسية، التي كانت لغتي، هي أجمل لغة في العالم، وأن الفرنسيين هم أشجع شعب في العالم، وأنهم هزموا دائما أعداءهم[...]، وحين وصلتُ  بيخاريست، علموني أن لغتي، هي اللغة الرومانية وأنها هي أجملُ لغة في العالم، وبأن الرومانيين انتصروا دائما على أعدائهم[...]. لكن من حسن حظي أني في العام التالي توجهت إلى اليابان».

يوجد لدى يوجين يونيسكو منفى آخَرُ، المنفى الداخلي المرتبط بالانفصال عن الأقرباء(القريبين) والذين لا نستطيع أن نتتبع خياراتهم والتزاماتهم الأيديولوجية. هذا المنفى عاشه يوجين يونيسكو للمرة الأولى في رومانيا أثناء فترة التكرْكُد rhinocérite   الخضراء (يتحدث يونيسكو عن الأمر من خلال مسرحيته الكركدّن، مكتشفا تعبير التكركد وتعني مرض التحوّل إلى كركدن، وتعني من الناحية الأيديولوجية التأقلم مع كل الموضات وكل الأيديولوجيات) وشعر بها مرة ثانية في فرنسا ابتداء من سنوات الخمسينات أثناء التكركد rhinocérite  الحمراء. «كان لدي العديد من الأصدقاء. إلا أن البعض منهم انتقلوا ما بين سنتي 1932 و1936 إلى الفاشية. كما هو الحال اليوم مع المثقفين الذي أصبحوا «تقدميين»، كما يقولون، لأن الأمر كان موضة[...]. أنا لا أحبّ الكليشيهات «التقدمية» كما أني أمقت الكليشيهات الفاشية، ولديّ الانطباع اليوم بأنّ تقدميي اليوم هم، على نحو ما، فاشيّو الأمس».

تجارب المنفى الأخلاقي هذه بالإضافة إلى الرحيل من فرنسا إلى رومانيا في سن الثالثة عشرة، ومن رومانيا إلى فرنسا (ابتداءً من سنة 1937 والذي سيكون رحيلا نهائيا في سنة ١٩٤١)، كما أن فظاعة انغلاق الدول الشيوعية جعلته يحسّ، بعمق، بهشاشة واحتمال الانتماءات الوطنية، و«جوازات السفر» الثمينة وجوازات مرور هشّة تتيح الإقامة في المكان الذي نحس فيه بِألمَ أقلّ. هكذا جاءه حُلْم المنفيّ التموذجيّ(الأصلي) الذي راود عددا كبيرا من أصدقائه الرومانيين (ومن بينهم ميرسيا إليادMircea Eliade ) أو المنحدرين من بلدان أخرى من شرق أوروبا. حلم، أو هو بالأحرى كابوس رَجُل يجد نفسه من دون أن يعرف لماذا ولا كيف في بلد كان بَلَدَهُ، بلد هرب منه ولكن لا تزال حقائبه تربطه به، يظل هذا الحلمُ هو مصدرُ الرجل ذي الحقائب.

ثم شاءت الظروف أنه حتى هذا «البيت» أصبح لا يُطاق. « في باريس الفظيعة، في باريس هاته التي لا يمكن العيش فيها، وفي هذا الحيّ الذي لا يحتمل. [...] باريس اليوم أضحت نقيض الفردوس، المَطْهَر(مكان العذاب) أو الجحيم. من أجل العثور على مكان يمكن العيش فيه يتوجب البحث في مدن صغيرة مثل سويسرا الناطقة بالألمانية أو في المدن الباروكية أو روكوكو(طراز معماري بائد) منطقة بافيير. Bavière

 في هذا الصباح من

شهر حزيران على شاطئ البحر»

ولكن المنفى الأساسي والمؤلم بالنسبة ليوجين يونيسكو، المنفى الوحيد في واقع الأمر، هو المنفى الميتافيزيقي، أو بشكل أكثر دقة المنفى الروحي. المنفى الذي ظلّ- منذ قصائد مرحلة الشباب إلى «البحث المتقطّع»- يحاول أن يهرب منه. هذا المنفى هو خسارة حالة النعمة، السقوط من جديد في العتمة بعد التنوير، في الشكّ بعد الالتقاء بالوضوح، في اليومي بعد التجربة الصوفية. ومن المثير للدهشة أن المُؤلَّفَيْن معا لا يتطرقان، أو بالكاد، للتجربة الكبرى والنهائية التي عاشها يوجين يونيسكو في سنّ الثامنة عشرة في رومانيا والتي طبعت حياته إلى الأبد. تجربة «ضوء أكثر إضاءة من الضوء»، التي جعلته يستشفّ وطنه الحقيقيّ. هذه التجربة الصوفية، هذه الـ«ساتوري»...satori ( مصطلح بوذي  ياباني يعني اليقظة والتيقظ) هذا اللقاء مع «الظهور والتجلّي»، التقى بها، وسيلتقى بها من جديد ومن دون توقف، بحنين لم يَكل أبدا في «يوميات محطَّمَة» وفي «الحاضر الماضي» وفي «الماضي الحاضر» وفي «ما بين الحياة والحلم» وفي «ترياق» وفي» البحث المتقطّع».  «المتوحد»، وهي روايته الوحيدة، تنتهي بهذه الكلمات «شيء ما من هذا الضوء الذي وَلَجَني ظلّ في داخلي. وهو ما أعتبره آية. « هذه التجربة ظهرت أيضا في مسرحية «الكراسي»، مع التذكار القصيّ للـ«حديقة»: «كان في أقصى الحديقة... هنا كان... هنا كان... كان مكاناً، زمنا رائعا... لم أعُدْ أتذكر قطّ المكان... إنه بعيد جدّا... لم أعد أستطيع قطّ... اللحاق به... أين كان.»، وأيضا «قوية جدا، ضوء كبيرٌ اجتاح الخشبة من الباب الكبيرة ومن النوافذ التي استضاءت بقوة حين وصول الإمبراطور اللامرئيّ.» إنها أيضا المدينة المُشعّة في «قاتل غير مأجور»، المدينة المضيئة التي ذكّرتْ بيرينجيBérenger  هذه اللحظة حيثُ: «فجأة أصبح الفرحُ كبيرا جدا، زاحفا على كلّ الحدود والضوء كان أكثر بريقا، من دون أن يفقد شيئا من رقّته، كان من الحدة بحيث إنه كان صالحا للتنفّس. كيف يمكن لي أن أتحدث معكم عن الوميض الذي لا يُقارَن؟.. كان الأمر كما لو أنه كانت توجد أربع شموس في السماء.» إن تذكّر هذه التجربة يَظْهَرُ أيضا في نهاية «راجل الهواء»: «ربما سيذوب الثلج... ربما ستمتلئ الهوّات السحيقة... ربما... الحدائق... الحدائق...» وهي التجربة التي تريد الملكة ماري أن تُذكِّر بها الملك: «تذكّر، أرجوك، هذا الصباح من شهر حزيران على شاطئ البحر[...] حيث كانت البهجة تضيئُك وتدخل أعماقك. حصلتَ على هذه البهجة، كنتَ تقول بأنها توجد هنا، غير قابلة للتغيّر، خصبة، لا ينضب مَعينُها. إذا كنت قد قلتها، فستقولها. هذا الفجرُ الرائع كان يوجد بداخلك. إذا كان موجودا، فإنه لا يزال موجودا دائما. اكتشفه من جديد. في داخلك، ابحث عنه.» ولكنه لم يمسرح، بشكل حرفي، هذه التجربة المتوقفة إلاّ في «ضحايا الواجب»، في صعود وسقوط «شوبيرت» الباحث عن «مالوت»: «شوبيرت: لا مدينة، لا غابة، لا واد، لا بحر، لا سماء. أنا وحيدٌ. [...] أعدو من دون أن أمشي. [...] أنا وحيدٌ. فقدت توازني. لا أحسّ بالدوار.. لم أعد أخاف من الموت. [...]في صباح يوم من أيام شهر حزيران. أستنشق هواءً أخفّ من الهواء. أنا أكثر رشاقة من الهواء. الشمسُ تذوب في ضوء أكبر من الشمس. أتمشى مخترقا كل شيء. الأشكال اختفت. أصعد... أصعد... ضوء يجري... أصعد...[...]هل أستطيع أن أثِبَ... فوق. هل أستطيع القفز.. خطوة.. خفيفة... أتزحلق على الممر الصغير، العالي جدا، أستطيع أن أطير]...[  أستطيع أن أطير[...] أنا أسبح في الضوء. الضوء يلج أعماقي. أنا مندهش من وجودي، مندهش من وجودي... مندهش من وجودي. [...]أنا ضوء أطير  آه  أتردد... أحسّ بألم... أَثِبُ.  يُسمع شوبيرت وهو يُصدر تأوهات. ضوء على الخشبة. شوبيرت ينهار على سلّة أوراق كبيرة». 

من خلال انعدام التلاؤم هذا والذي يلفت الانتباه في اختيار الكلمات ، وهو ما يعبّر عن نقص في الحساسية الروحية أو موقفها الدائم في الانتقاص والحطّ، تصف «مارتا بيترو Marta Petreu» هذه التجربة بـ«الإحساس الصبياني-التهريجي»، قبل أن تستشهد، من خلال بتر هذه الجملة، وهي مقطع من كتاب «   homme en question » نعم، أحاول أن أتذكر تجربة ضوء، تجربة عشتُها منذ فترة بعيدة، والتي تحدثت عنها كثيرا في العديد من مؤلفاتي. حدث الأمر على هذا الشكل: كنت في سنّ السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، أتجول في مدينة من الريف نحو منتصف النهار، في شهر حزيران، وفجأة أحسستُ بحضور ما، وأحسست، أو أنني اعتقدت أني أحس خلال هذه اللحظة بأحدهم يحملني في يده، وأننا لم نَضِعْ. «لكن هذا الإلهام غادره للأسف: «لماذا توقّف هذا الاجتياح عن طريق الضوء؟ لماذا لم تعانقني، أنا، هذه النار الكونية؟ ما هو الشيء الذي يوجد فيّ والذي أوقف كل شيء، أيّ حادث منع كل شيء، أي خطأ؟ كما لو أن الطاقة المضيئة اصطدمت بحاجز لامرئيّ في مثل خفة سحابة، مثل دخان غطّى كل شيء، وسوّد كل شيء. في لحظة أصبحت الأشياء ثقيلة وغائمة ومظلمة. من هذه اللحظة عرفت أن الأشياء تكون جميلةً بقدر ما تحافظ على قليل من هذا الضوء.»

هذا يكشف إلى أي درجة حملتُ كلُّ حياته حِدادَ هذا الضوء الذي تبَيَّنَهُ والذي لم يعرف كيف يحافظ عليه في كيانه. ندمه ووخز ضميره يتأتيان من كونه لم يعرف ولم يستطع اختيار هذا الضوء الذي هو ليس ضوء العالَم. « في اللحظة التي لم يكن يتبقى لي فيها سوى خطوة لتجاوز ما وراء هذه النقطة التي لا يمكن الرجوع من عندها، استولى عليّ تردد كبيرٌ ثم جاء شيءٌ شبيه بدوار[...]. تركْتُني أتساقط. استسلمتُ». 

في مؤلَّفات «الحاضر الماضي» و«الماضي الحاضر» و«يوميات متشظية» و«ما بين الحياة والحلم»، بل في كل مؤلفاته، يتحدث يوجين يونيسكو عن لحظات ضوء أخرى ليست سوى عبارة عن ظلال سريعة الزوال، «ارتدادات»- بالمعنى الزلزالي-، للتجربة التأسيسية التي عاشها في سنّ الثامنة عشرة. هكذا تشكّلتْ لديه ثيمة تناوب وتعاقب الضوء/العتمة، الطيران/السقوط، الصمت/ انتشار الكلمات. هكذا وهو يعلّق على «جاك أو الإذعان»، يقول مفسّرا: «توجد، فيما أعتقد، في «جاك» إحدى حالتين أحسّ بهما بشكل متعاقب، وهما الوزن والرشاقة، الضوء والعتمة. صمتُ الضوء يقابله صمتُ الوَحَل. في نفس الكتاب يبوحُ لـ«كلود بونفوا»  Claude Bonnefoyبالنسبة لي، كما بالنسبة لك، أحيانا يكون الوجودُ غيرَ محتمل وثقيلا وشاقّا وثقيلا ومدهشا وأحيانا أخرى يبدو لي(أي الوجود) وكأنه التعبير عن الألوهيّة والضوء.»

سيكتب بالتحديد من أجل التصريح بحنينه الأساسي وربمّا من أجل أن يعثر على نفسه. «لديّ حظوظٌ أن أعثر على نفسي إذا ما عدت دائما إلى خطاي، إلى مكان الخطوة الأولى؛ العودة إلى وميض الصورة الأولى، هنا حيثُ الكلمات لا تعود تعبّر عن شيء سوى عن الضوء. و«أكرّر أنه من أجل استعادة هذا الجمال، سالما في الوَحَل، فأنا أشتغل على الأدب. كل كتبي، كل مسرحياتي هي نداء، هي التعبير عن حنين، أبحث عن كنز مطمور في البحر، ضائع في تراجيديا التاريخ. أو إذا شئتم فأنا أبحث عن الضوء ويحدث أن يستولي عليّ انطباعٌ بأني عثرتُ عليه من حين لآخر. هو السبب في كوني لا أشتغل فقط على الأدب، بل هو السبب الذي أتغذى من أجله. دائم البحث عن هذا الضوء، الذي يوجد يقينا وراء الظلمات. أكتب في الليل وفي القلق المُصاحَب، من حين لآخر، بإضاءة الفكاهة. ولكني لا أبحث عن هذا الضوء، ولا عن هذه الإضاءة. الغرفة أو الاعتراف الحميمي أو الرواية، كل هذه الأشياء، تظل مُظلمة إذا لم أنْفُذْ، في نهاية الظلمات، على الضوء.»

هذا المنفى يلتحق بمنفى نهاية الطفولة. «يوجد عصر ذهبيّ: إنه عصر الطفولة وعصر الجهل؛ بمجرد ما نعرف بأننا سنموتُ حتى تنتهي الطفولةُ[...]. خارج الطفولة وخارج النسيان لا يوجد سوى النعمة التي يمكن أن تقدم عزاء الوجود أو التي تستطيع أن تمنح المرءَ الامتلاء، السماء على الأرض وفي القلب[...]. كيف يمكن العيش من دون النعمة؟ لكننا نعيشُ مع ذلك.»

إنه منفى وُلد من نهاية الطفولة، نهاية المؤلِّف ولكن أيضا نهاية العالَم، العالم ما قبل الانفصال، ما قبل السقوط أو الخطيئة الأصلية(الأولى). «مرّ زمن، قديم جدا، كان العالَم يبدو فيه للإنسان مليئاً بالدلالات بحيث لم يكن يوجد زمنٌ لطرح الأسئلة، كان التجلّي بالغ المهابة والإدهاش[...] وكان كلّ شيء عبارة عن أعياد الغطاس الخالدة(عيد الظهور الإلهي عن المسيحيين). العالَمُ كان مُحَمَّلا بالمعنى. كان الظهورُ يتغذّى بروح الآلهة[...] العالَم كان حادّاً[...]. في أي لحظة خلا فيها العالَم فيها من جوهره، في أي لحظة لم تَعُدْ فيها العلامات علاماتٍ، في أيّ لحظة حدثت القطيعة التراجيدية، في أي لحظة تمّ فيها التخلّي عنّا من قِبَل أنفسنا؟»

«يا إلهي اجعلني أومن بك»

المنفى هو إذنْ العيشُ في عالَم مفكَّكَ المعنى، في عالم منحطّ ومعطوب ومنزوع القدسيّة يقابله يوجين يونيسكو بـ«العالَم الممتلئ» عالَم ما قبل السقوط الذي لا يمكن أن يوجد سوى بفضل النعمة: «وحدها النعمةُ يمكن أن تمنح اليقين بأن العالَمَ حقيقيٌّ، وجوهريّ. وحدها الحقيقة الميتافيزيقية يمكن أن تمنح الامتلاء، وتمنح محتوىً لِواقعٍ يوميّ يبدو لي، خلاف هذا، فارغا ومُعلَّقاً في العَدم.»  

يأسف  يوجين يونيسكو لأن الميتافيزيقا أصبحتْ لدى «الحديثين» (أصحاب النزعات الحديثة) «غير مقبولة». «لأنهم يخشون أن تقودنا الميتافيزيقا إلى الله.»

نصل هنا إلى ما هو في صلب عمل يوجين يونيسكو، أي البعد الديني. هذا البحث عن المعنى، هذا التساؤل أمام النهايات الأخيرة كان هو الأصل والحافز لما كتب. إن كل ما كتب يأتي من هذا «البحث» على الرغم من «تقطّعه»، لأن «الإنسان المقطوع من جذوره الدينية أو الميتافيزيقية هو إنسانٌ ضائعٌ، وكل مسيره يصبح بلا معنى وغير مفيد وخانق». هذا النقصان الأنطولوجي لعالَم من دون إله يلطّخ ويَسِمُ كل نشاط بشريّ، بما فيه الفن. «إنّ وجهة النظر الإستيتيقية هي أيضا هزيلةٌ. إنّ الذكاء الأسمى والكاتدرائيات لا تمثل بالنسبة للملائكة والضمير الإلهي أو العقل إلاّ كومات بدائية من الحجارة وتصاميم أولى غائمة من العلامات ولغة طائشة وموسيقى باخ، نفسها، شيئا ما يحدث صريرا، بمشقّة.

هذه البنية للرجل الديني Homo religiosus هل ستقوده إلى الإيمان؟ في كل الحالات لن تغادره الرغبةُ العميقةُ التي لا تُرْوى و» التعطّش والجوع» إلى الإيمان. « يا إلهي اجعلني أُومِن بك»، كان عنوان إحدى مقالاته الأخيرة. الرغبة في الإيمان هل هُو الإيمان؟ الجوابُ يكمن في لغز العلاقة ما بين الله وبينه، ما بين الله وكل واحد منّا.

بخصوص هذا الموضوع تطرق سيورانCioran ، مرتين، إلى يوجين يونيسكو: «تعرفت إلى يونيسكو حين كنا طالبين. كان لديه دائما ميلٌ إلى الدين[...]. القلق يوجد في صلب ما كتب. هو أكثر تدينا منّي، أنا الذي لم يستهوني الإيمان أبداً. يونيسكو دائما على وشك أن يكونه. في نفس الكتاب، وفي حوار أجراه معه فرانسوا فيجتوFrançois Fejto يقول: «نحسّ دائما لدى يونيسكو إيمانا عميقا. أما أنا فشكّاكٌ، بشكل جوهريّ.»

لم يَحْظَ يوجين يونيسكو بنعمة إيمان هادئ وفيه سكينة، إذ هو يتحدث عن ندمه لكونه لا يمتلك «إيمان فحّام». في أعماقه يتعايَشُ الإيمان والشكّ، لكن أَلَمْ يَقُلْ بيرنانوسBernanos بأن الإيمان هو أن تشكّ ٢٣ ساعة و٥٩ دقيقة و٥٩ ثانية وأن تُؤمن ثانية واحدة. إنه إيمانٌ على طريقة بيرنانوس أكثر مما هو إيمانٌ على طريقة كلوديلClaudel. على الرغم من... على أنه على الرغم من أنّ جيرالد أنطوانGérald Antoine قرأ في ندوة كلوديل-يونيسكو الذي انعقد في برانغس Brangues  سنة 1995،  مقطعا من يوميات  كلوديل، هذا الكائن «الجلمود» فيما يخص الإيمان، الذي يقول في اعترافاته: «لمْ يمُرَّ عليَّ يومٌ لمْ أشكَّ فيه.» يوجين يونيسكو حينما كان طفلا، مثل حالة كلوديل، كان يتطلّع إلى أن «يكون قدّيسا»، كان يريد لاحقا أن يصبح راهباً: «كنت أريد أن أكون راهبا»، هذا ما قاله في حوار مع غابرييل لييسيانوGabriel Liiceanu. لا يزال يحتفظ من هذه الفترة بالندم ووخز الضمير«(خضوع» جاك في «جاك أو الخضوع») وظل خلال فترة طويلة مرتبطا بالقسّ الكسندر، وهو مُعرّفه(الاعتراف الكنسي) في ديْر دارفاريDarvari الذي يتحدث عنه في يومياته.

مَهْما يكن، لا يمكننا سوى استنتاج استمرار رغبته في الإيمان منذ كتابه «مرثيات من أجل كائنات صغيرة»، أول مجموعة نشرت سنة ١٩٣١، والتي تنفتح على قصيدة (صلاة) (نترجمها أيضا)، إلى كتابه الأخير الذي نشر سنة 1986 «البحث المتقطّع»، الذي يُدرج فيه نصّ «أبونا» والذي نقرأ فيه، ضمن مقاطع عديدة، ما يلي: «لا أتخاصم مع الله. ليست بيني وبينه كلمات. أنا أخشى الله. أحبّه، بشكل أفضل في ابنه: إنه صديق. إنه أخي: ألسنا جميعا أبناء الله، أو ليست العذراء أمّنا؟ إننا أبناء الله.» وهذا البحث المتقطّع ينتهي بهذه الكلمات: «الصلاة من أجل أي كان. أتمنى أن يكون من أجل المسيح».
 
  ماري- فرانس يونيسكو
بورتريه الكاتب في القرن
يوجين يونيسكو (1909-1994) 
تقديم وترجمة: محمد المزديوي
كاتب ومترجم مغربي يقيم في باريس

لويس فيرديناند سيلين: سفر في آخر الليل


لويس-فيرديناند سيلين2009-07-20
  من كان يتصور أنّ »لويس-فيرديناند سيلين« الذي حُرِم من جائزة الغونكور الفرنسية سنة   1932   من خلال مؤامرة دنيئة (كما هو حال العديد من الجوائز)، والذي عانى من السجون المتعددة ومن الإدانات المتلاحقة ومن التشنيع ومن اتهامه بالنازية وكره اليهود والصينيين وغيرهم، أن ينتصر على الزمن، وتصبح روايته »سفر في آخر الليل« من أهم الروايات الفرنسية التي تمثل القرن العشرين. بل وأكثر من هذا أن تثير ترجَمَتَها إلى العبرية صخبا كبيرا.

لهذه الأسباب ولأسباب أخرى، منها الوفاء الكبير الذي أظهره سيلين للأدب الشعبي الفرنسي، الأدب الذي نجد من بين مؤسسيه »رابليه« الذي استلهمه »ميخائيل باختين« والشكلانيون الروس في دراساتهم وتنظيراتهم، قلنا الوفاء الكبير لهذا الأدب، الذي جعله ينتج ويبدع لغة وأسلوبا جديدين، ساهما في إثراء اللغة الفرنسية.    

لأجل هذه الأشياء، وأيضا، للمتعة التي تمنحها قراءة نصوصه، التي هي ليست سهلة بالتأكيد، قرَّرنا ترجمة بعض الفقرات للقارئ العربي.

لم تكن الرواية، حتى وهي تخسر جائزة الغونكور، لتظل سجينة الأدراج أو رفوف المكتبات. لقد تسببتْ في إثارة نقاشات، لافتة حينا وصاخبة حينا آخَر، في زمن صدورها، وهي نقاشات لم تتوقف مع الزمن. أما الرواية التي مُنِحَت الجائزة فلم يَعُد يتذكرها أحدٌ. إنه مكرُ الزمن أو انتقامه الرّهيب!

يرى »كلود ليفي شتروس« Claude Lévi-Straus عن هذه الرواية وعن صاحبها بـأنه »يمكن أن نتردد في إطلاق اسم على العمل الضخم المكون من 60 صفحة، والذي يتميز بسردية مضغوطة وبفقرة واحدة. هل هو رواية أم أتوبيوغرافيا أم محكي أم رواية مسلسلة. ولكننا لن نتردد أبدا حول المكانة التي يجب أن تُمْنَحَ له في الأدب المعاصر. إنّ »سفر في آخر  الليل«، من دون شك، أهم عمل صدر منذ عشر سنوات، إنْ من حيث قيمته العميقة أو من حيث طابعه، الإراديّ، المتطرِّف والعدواني الذي يمنحه شكلَ بيانٍ، بيانٍ مُحرِّر. و»إنّ بداية الرواية تُقدِّم لنا صفحات حقيقية من بين الصفحات الأكثر عُمقا والأكثر صلابة وقسوة التي لم يستلهمها، من قبلُ، شخصٌ يَرفُضُ قَبولَ الحرب.« لم يكن هذا الأنثروبولوجي الوحيد الذي رحّب بالرواية فقد كتب عنها أيضا »بول نيزان«:   Nizan Paul  (هذا العمل الضخم هو عمل لافتٌ وهامّ، وذُو قوّة وأهمية التي لم يُعوِّدْنَا عليها أقزامُ البورجوازية المُتجعِّدون. إن »سفر في آخر الليل« رواية تشرُّديّة picaresque، هي ليست رواية ثورية، ولكنها رواية »الصعاليك«. طبيبٌ، هو نفسُهُ خسيس/دنيء، يحكي استكشافاته في عوالم البؤس المختلفة.

تُوجَد مَشَاهِد الحرب والمستعمرات الأفريقية وأمريكا وضواحي باريس الفقيرة والأمراض والموتُ التي لا يمكن أن ننسى قسماتها. تمرُّدٌ حقودٌ وغَضَبٌ وإدانةٌ تهدّ وتدُكّ هذه الأشباح المُصوَّرَة، من الضبّاط والعلماء والرجال البيض في المستعمرات والبورجوازيين الصغار ومَشَاهد الحب الكاريكاتورية. لا وجودَ في العالم إلاّ للخسّة والدناءة والعفونة والتفسخ والمسير نحوَ الموت مع بعض التسليات البائسة من الحفلات الشعبية ومن المواخير ومن الاستمناءات. إنّ  »سيلين« لا يرى في رواية اليأس، هذه، من خلاص سوى الموت: بالكاد يمكننا أن نتخيل ومضات الأمل الأولى التي يُمكن أن تكبر.« ومن جهته يرى »جورج باطاي« Bataille Georges ان رواية »سيلين« الشهيرة يُمكن اعتبارُها وصفاً للعلاقات التي تربط كائناً ما بموته الحاضرةـ بشكل ما، في كل صُوَر البُؤس البشري التي تظهرُ من خلال المحكيّ. إلا الاستخدام الذي يمكن لإنسانٍ ما أن يقوم به لموته الشخصية - المُكلَّفَة بِمَنح الوجود السوقيّ معنًى رهيباً- ليس مُمارسةً جديدةً:

إنه لا يختلف، جوهريا، عن التأمل الرهباني أمام جمجمة. إلا أنّ عظمة »سفر في آخر الليل« تظهر في أنه لمْ يَقُم بتوجيه أيّ نداء إلى مَشاعر الشفقة المعتوهة التي ربطَها الخُنوعُ المسيحيّ بوعي البؤس. لقد فات الزمن الذي كان يمكن فيه لِـ»إميل زولا« بِلَعبِه السخيف أن يستعير عظمَتَهُ من آلام الرجال في حين يظل هو، نفسه، بعيدا عن هؤلاء البؤساء. إنّ ما يَعزِل »سفر في آخر الليل« ويمنَحها دلالتها الإنسانية هو تبادُل الحياة المَعيشة مع الذين يلقي بهم البؤسُ بعيداً عن الإنسانية - تبادل حياة وموت، تبادُل موت وسقوط.«

هذه الكلمات التي تعلي من شأن هذه الرواية، التي تعتبر اليوم من أهم روايات القرن العشرين في فرنسا، لا تُخفي وُجود مقالات سلبية اتجاهها. فها هو الكاتب الروسي(السوفييتي) الكبير »مكسيم غوركي« يقول: »إن الأديب المعاصر في أوروبا الغربية فقد اليومَ ظِلَّهُ حين هاجر من الواقع إلى العدميّة، كما يظهر جليا في كتاب »سفر في آخر الليل«. إذْ أن »باردامو«Bardam، بطل الكِتاب، فَقَدَ وطَنَهُ ويحتقرُ البشر؛ ينادي على أمه بـ»الكلبة« وعلى عشيقاته بـ»المومسات«؛ إنه لا مبالٍ إزاء الجرائم ولا يمتلك أي معطى لـ»لانضمام« إلى البروليتاريا الثورية، إنه ناضجٌ، كلية، لقبول الفاشية. »أما القائد الروسي »ليون تروتسكي« فيكتب: »لويس-فيرديناند سيلين وَلَجَ إلى الأدب الحقيقي كما يَلِجُ الآخَرون إلى منازلهم. إنه رجلٌ  ناضجٌ مُسلَّحٌ باحتياطات واسعة من ملاحظات الطبيب والفنان، مع لامبالاةٍ مقتدرة تجاه كل ما هو أكاديميّ، مع حسّ استثنائي تجاه الحياة واللغة. سيلين ألَّفَ كِتاباً سيَصْمُد. إنّ »سفر في آخر الليل«، رواية التشاؤم، أملاها الإحساسُ بالرّعب أمام الحياة والإعياء والبَرَم الذي تتسبب فيه، أكثر ما أملاها التمرّد. إن تمرُّداً نشيطاً يرتبط بالأمل. أما في كتاب سيلين فلا يوجد أملٌ.«

ترجمة لمقاطع من الرواية:    

              إلى إلزابيث كريغ

حياتُنا سفرٌ

في الشتاء وفي الليل،

نبحث عن مَعْبَرٍ لنا

في السماء حيث لا شيء يلمع.

من أغاني الحراس السويسريين

                     (1793)

ابتدأ الأمر على هذه الطريقة. أنا لَمْ أتفوه بشيء. لا شيء.

»أرثر غانات« هو الذي تحدث إليّ. »أرثر«، طالب، طالب طبّ أيضا، ورفيق. نلتقي إذنْ في »ساحة كليشي«. كان الأمر يحدث بعد الغذاء. يريد أن يتحدث إليّ. أُنْصِتُ إليه. يقول لي:

»لندخلْ، لا نبق هنا.« أدخل معه. هذا هو الأمر. يبتدئ الحديث»رصيفُ المقهى، هذا، إنما يصلُحُ لأكلة البَيْض الصباحية، نصف المسلوق، تعالَ هنا« نُلاحظ عدَمَ وُجود الناس في الشوارع بسبب الحرارة. كما أنه لا توجد سيارات أيضا، لا شيء. حين تشتد الحرارة يحدُثُ نفسُ الشيء، لا يوجد من أحد في الشوارع. على كل حال هو الذي قال، في هذا الصدد: » إن أناس باريس يعطون الانطباع دائما بأنهم مشغولون، ولكنهم في واقع الأمر، يتجولون من الصباح إلى المساء؛ الدليل هو أنه لا يكون الطقس جيدا وملائما للتجول، من شدة البرد أم من شدة الحرارة، لا نراهم قط؛ إنهم يتواجدون كلهم في الداخل يتناولون قهوة بالحليب أو كؤوس الجعة. هذا هو قرنُ السرعة الذي  يتحدثون عنه. أين هي؟ التغيرات الكبرى! التي يحكون عنها.

كيف؟ لا شي تغيَّرَ في الحقيقة. إنهم يُواصلون تبادُل الإعجاب، هذا هو كلُّ ما في الأمر. وهذا التصرف ليس جديدا، هو الآخَرُ.

إنها كلماتٌ، وحتى هي ليست بالكثيرة، وحتى بين الكلمات، من هي التي تغيرت! كلمتان أو ثلاث هنا أو هناك.. كلمات صغيرة..« من إحساسنا بالاعتزاز من جرّاء التفوّه بهذه الحقائق النافعة، ظللنا جالسْين وسعيدين في النظر إلى نساء المقهى.

بعد هذا تطرق الحديث إلى الرئيس »بوانكاري«

Poincaré  الذي توجَّهَ، هذا الصباح تحديدا، لتدشين مَعرض للكلاب الصغيرة؛ هكذا الحديث يجر الحديث/من حديث لآخر،  تحدثنا عن صحيفة »الزمن«le Temp التي وَرَدَ فيها الخَبَرُ.

قال »أرثر غانات« وهو يمازحني على سبيل المغايظة: »الزمن«، ها هي صحيفة رائدة!«. »لا توجد صحيفة أخرى تشبهها لتدافع عن العِرْق الفرنسي!« أجبتُهُ كي أبيِّنَ له بأن لدي كثيرٌ من التوثيق وكي أرد الصاع صاعين: »إن العِرْق الفرنسي يحتاجُها، ما دام أنه لا يوجد!«

قال ملحّا: »بل يُوجد! يُوجد عِرقٌ فرنسي! وهو عِرْق جيد! بل إنه أفضل عِرْق في العالَم ومخدوعٌ جدا منْ يُناقض هذا! «، وهكذا انطلق في تأنيبي. بطبيعة الحال ظللتُ صارما معه.

»ليس صحيحا، ما تطلق عليه لفظَ العِرْق، إنه فقط هذا الخِلْط الكبير من الحُقرَاء من طينتي، والأرامص والأغامص، وقصر القامة والأقزام والمرتجفين الذين وصلوا إلى هنا يُطاردهُم الجوعُ والطاعون والأورام والبَرْد، أتوا إلى هنا مهزومين من جهات العالَم الأربع. لم يستطيعوا أن يذهبوا أبعدَ  من هذا المكان بِسَبب البحر. هذه هي فرنسا، وهؤلاء هم الفرنسيون.

قال لي بشيء من رصانة وحزن:

- باردامو، إن آباءنا يستحقوننا جيدا، لا تقُلْ سوءا!...

- أنت على حق، أرثر، أنت على حق في هذا! حقودون وطيعون ومن تعرضوا للاغتصاب والسرقة ومَنْ هُم كذلك منتزعي الأحشاء وحمقى دائما، إنهم يستحقوننا جيدا! تستطيع أن تقول ما قلته! نحن لا نُغيِّر! لا جوارب ولا أسيادا ولا آراء، أو أنه لاحقا، لن يستحق الأمر العناء. أمّا نحنُ فقد وُلدْنا أوفياء، ونموت من جرّاء هذا الوفاء!نحن الجنود المجّانيون والأبطال من أجل الجميع والقردة الناطقة، كلمات تعاني، إننا مناييك الملك الفقر. إنه هو الذي يتحكم فينا. حينما لا نكونُ عاقلين يقوم بالضغط علينا... أصابعهُ حول عُنُقنا، بشكل دائم، إنها تُعيقنا عن الكلام، وعلينا أن نكون حَذِرين إذا ما أردنا أن نُحافظ على قدرة الأكل.. إنه يخنق من أجل لا شيء.. إنها ليست حياة...

- يوجد الحب، يا »باردامو«!

أجبتهُ:

- »أرثر«، الحبُّ هو اللانهائي الذي يوضع تحت إشارة الكلاب الصغيرة، وأنا أمتلكُ كرامتي..

- لنتحدث عنك! أنت فوضويٌّ، هذا كل في ما الأمر!«

إنه ماكر صغيرٌ، في كل الحالات، ها أنتم ترون الأمر من هنا، وفي كل ما كان متقدما في آرائه.

قلتُ له:

-  »لقد قلتَهَا، أيّها المنتفخ. قلتَ إنني فوضوي!

وهنا أفضل دليل، وهو أنني قمتُ بتأليف نوع من صلاة ثائرة واجتماعية ستقول لي عنها، على وجه السرعة بأنها قصص: الأجنحة الذهبية! هو العنوان! وقمتُ حينها بتلاوتها:

-  إن صانعاً أعلى يقوم بِعَدّ الدقائق والفلوس، هو صانعٌّ يائس  ودائم الدَّمدمَة مثل خنزير. خنزيرٌ بأجنحة من ذهب يسقطُ في كل مكان، البطن في الهواء وهو جاهز للمداعبات، إنه هو، هو سيدنا. لنتبَادَل العناق!

أجابني:

»إن ما قمتَ بتأليفه، هذا المقطَع الصغير، لا يصمُدُ أمام الحياة، إذ أني مع النظام الحالي ولا أحب السياسة. وعلى كلٍّ حين يأتي اليوم التي يُطالبني فيه الوطنُ بإراقة دمي من أجله، سيجدُني بكلّ تأكيد، غير متهاون، ومستعدا للإجابة.«

بالتأكيد كانت الحرب تقتربُ منا دون أن ننتبه لها، ولم أكن على ما يُرام. هذا النقاش القصير ولكن الحيوي أتعبني. ثم إنني أحسستُ بالانفعال لأن النادل تعامَلَ معي بشيء من الدناءة بسبب الإكرامية. وأخيرا تصالحتُ مع »أرثر« كي ننتهي على ما يرام. كنا متفقين تقريبا على كل شيء.

قلتُ مُوافقاً، بِجوٍّ من التصالُح:

»صحيح، أنتَ على حقّ تحديدا، ولكننا في نهاية الأمر نتواجد في وضعية شاقة، ونحن نشتغل كثيرا وبقوة، أنت لا تستطيع أن تقول لي العكس...أما نحن الجالسين على مَسامير فقد كنا قادرين على إطلاق النار. على ماذا حصلنا؟ لا شيء. ضربات هراوات فقط، متاعب ومشاكل وتلفيقات ثم أيضا مَقَالِب. يقولون بأنهم يشتغلون. إن هذا الشيء هو الأكثر بذاءة بالمقارنة مع باقي الأشياء الأخرى، عملهم هم. نحن نتواجد في القاع نُكابد، ذوي روائح كريهة، ثم ها نحن! أنا في ما فوق، من أعلى الجسر، في الهواء المنعش، يوجد الأسياد الذين لا يقلقون، بصحبة نساء جميلات ورديات ومنتفخاتٍ عُطورا على أفخاذهنّ.

يتمّ إصعادنا إلى الجسر. حينهَا يضعُون قبّعاتهم العالية ويقذفون في وجوهنا: »عصابة القذرين، إنها الحربُ التي يعلنون. سوف نُواجه هؤلاء السَّفَلة الذين يتواجدون في الوطَن رقم اثنين، سنسحقهم. هيّا، هيّا. يوجد كل ما يلزم على متنها. »هيّا معا! صيِّحوُا، لِنَرَ في البداية صخبا كبيرا، وليَكُن اهتزاز : يحيا الوطنُ رقم واحد! يجبُ أن تُسْمَعُوا من بعيد! مَنْ كان صياحُهُ الأقوى سينال الميدالية ومُلبَّس! وَيْحَكُم! مَنْ لا يُريدون أن يموتوا في البحر، يمكنهم دائما أن يموتوا على الأرض حيث الموت أقرب مما هو عليه هنا!«

قال لي »أرثر« مُوافقاً، وقد بدا لي، بالفعل، بأنه السهل إقناعُه:

-  الأمر على ما قلت، بالتحديد.

ولكن بالتحديد، أمام المقهى الذي كنا جالسين فيه، مرّت كتيبةٌ عسكرية، وكان الكولونيل متقدما على فرَسِه، وحتى وإن كان يبدو ودودا وقويَّ الجسم، في شيء من أبهة، فأنا لم أُصْدِر سوى وثبة إعجاب.

صرختُ في »أرثر«:

- »سأذهب لأرى إن كان الأمر على هذه الشاكلة.

وهكذا كان انخراطي في الجيش، عَدْوا أيضا.

صرخ بي، وقد امتعض بسبب وَقْع موقفي البطولي على الجُمهور الذي كان ينظر إلينا:

- أنت لا شيء، أيها الغبي فيرديناند!«

استأتُ قليلا من موقفه، ولكنه لم يُغيِّرْ من موقفي. تبعتُ خطوتي. قلتُ في نفسي» لقد ولجتُ في الأمر، وسأبقى فيه!«

»سوف نرى، أيها الأحمق!« كان عندي بعضُ الوقت كي أصرخ فيه قبل أن ندور حول شارع مع الكتيبة خلف الكولونيل وموسيقاه. لقد حصل الأمر على هذا الشكل، بشكل دقيق.

تمشينا كثيرا. كانت ثمة شوارع كثيرة، ثم إنه كان فيها مدنيُّون وزوجاتهم وهم يصدرون صرخات تشجيع، ويلقون علينا بالورود، من الأرصفة وأمام المحطّات ومن الكنائس. كان يوجد من بينهم وطنيّون... هطلتْ أمطارٌ، فقلّتْ التشجيعات، شيئاً فشيئاً، ثم اختفتْ، ولَمْ يَبْق أَحدٌ على الطريق.

لمْ نَبق إذنْ سوى فيما بيننا؟ البعض خلف البعض الآخر؟

الموسيقى توقَّفَت. قلتُ في نفسي، حينها »كخلاصة حين رأيتُ كيف تدور الأشياءُ، أصبح الأمرُ بعيدا عمّا تصورته! كان يتوجب أن نبدأ من جديد!« كنتُ سأغادرُ. ولكن قُضي الأمرُ.

كانوا قد أغلقوا الباب بهدوء خلفنا نحن المدنيين. لقد كنا نشبه فئرانا.

بمجرد أن نلج في هذا العالم فنحن موجودون فيه بالفعل.

جعلونا نمتطي خُيولا، ثم بعد مرور شهرين من الامتطاء أنزلونا إلى الأرض. ذات صباح جاء الكولونيل يبحث عن فَرَسه، كان ضابطه المُرافق قد امتطاها وغَادَرَ، لم نكُن نعرفُ إلى أين، في مكان، تمر منه الرصاصات، من دون شك، بسهولة أقل من مرورها وسط الطريق. هنا تحديدا انتهى بنا الأمرُ، الكُولونيل وأنا، وسط الطريق، وأنا ماسكٌ السجلّ الذي يُدوِّنُ فيه الأوامر.

بعيدا في قارعة الطريق، أبعدَ ما نستطيع الرؤية، كانت ثمة نقطتان سوداوان، في الوسط، مثلنا، ولكنّ الأمرَ كانَ يتعلق بألمانيين منهمكين في إطلاق النار منذ أكثر من ربع ساعة.

 الكولونيل كان يعرف، ربما، لماذا يقوم هذان الألمانيان بإطلاق النار، والألمانيان ربما كانا يعرفان السبب، أما أنا، ففي الحقيقة، لم أكن أعرف السبب. بحثتُ في أقصى ذاكرتي فاكتشفت أني لم أُسِئْ إلى الألمان. لقد كُنتُ دوما شخصاً مُحبّباً،  ومؤدبا معهم. كنت أعرف الألمان قليلا، درستُ في إحدى المدارس الألمانية، حينما كُنت طفلا، في ناحية هانوفر. كنت قد تحدثتُ لغتهم. كانوا كتلة من أوغاد صغار يصرخون بعيُونهم الشاحبة والمختلسة مثل عيون الذئاب. كما كنا نذهب معا لمداعبة الفتيات بعد انتهاء المدرسة في الغابات المُجاورة حيث نتعلم الرماية وإطلاق النار من مسدسات كنّا نشتريها بأربعة ماركات. كنّا نشربُ الجعة الحلوة. ولكن أنْ يقوموا الآن بإطلاق النار علينا الآن ووسط الطريق، دون أن يأتوا، في البدء، للحديث معنا، كان يوجد هامشٌ، بل ثمة هُوَّة. ثمة اختلافٌ كبير.

الحربُ كانت، تحديداً، كلَّ الأشياء التي لا نفهمها. لم يكن للأمر أن يستمر على هذا الشكل.

لقد حدث لهؤلاء الناس شيءٌ ما استثنائي. شيءٌ لم أحسّ به على الإطلاق. لم أستطع أنْ أفطن له...

مَشَاعري تجاههم لم تتغير. على الرغم من كل ما حدث كانت تنتابني رغبة في محاولة فهم طبيعتهم العنيفة، ولكن كانت لدي رغبةٌ أكبرُ في مغادرة المكان، بشكل كبير ومُطلق، وقد بدا لي الأمر، بشكل مفاجئ، وكأنه وَقْع خطأ مريع.

على كل حال، قلت في نفسي:

»في وضعٍ مماثل ليستْ ثمّة ما يمكنُ أن يُفْعَل، لا شيء سوى الهرب.«

فوق رأسينا، على بعد ميليمترين، بل على بعد ميليمتر من صدغينا تأتي مهتزّةً الواحدة تلو الأخرى هذه الخطوط الطويلة من الفولاذ المُشوِّقة التي ترسُمُها الرصاصات التي تريد قتلنا، في هواء الصيف الحار.  

لم أُحِسّ أبدا قدر ما أحسستُ الآن من أني غير نافع ومفيد بين كل هذه الرصاصات وأشعة هذه الشمس. سخرية كبيرة جدا وشاملة.

لم يكن عمري آنذَاك يتجاوز العشرين سنة. مَزَارع مهجورةٌ في البعيد، كنائس فارغة ومفتوحة، كما لو أن القرويين غادروا هذه المزارع في النهار، غادروا كلهم، إلى حفلة من الجهة الأخرى من المُقاطَعة، وتركوا لنا، في ثقة، كل ما يملكون، باديتهم وعرباتهم ونقَّالاتهم وحقولهم وعقاراتهم المُسوَّرَة والطريق والأشجار وحتى البقر وكلبا مع سلسلته، كل شيء. كل هذا كي ننعم بالسكينة ونفعل ما نريد أثناء غيابهم. لقد كان الأمرُ وَدودا من جانبهم. قلت في نفسي: »مع كل ذلك، إن لم يكونوا في مكان آخر! لو كان لا يزال أناسٌ يتواجدون من هنا، بالتأكيد ما كنا لنتصرف بهذه الطريقة الخسيسة! السيّئة جدا! ما كنا لنجرؤ على فعلها أمامهم! ولكن لم يكن يتواجد أحدٌ كي يُراقبَنَا! لا أحد سِوانا، مثل زوجين يقترفان فواحش حين ينصرفُ الجميع.«

فكرتُ في نفسي أنا أيضا(خلف شجرة) بأني كنت أتمنى لو رأيتُهُ هنا، هذا الشخص الذي حدثوني عنه كثيرا، ويشرحوا لي كيف كان يعمل حين أصابته رصاصةٌ في بطنه.

هذان الألمانيان القاعدان في الطريق العنيدان والقناصان، يطلقان النار بشكل سيّء، ولكن يبدو أنهما كانا يتوفران على كثير من الرصاص، مَتَاجر بأكملها من دون شك. الحربُ  بالتأكيد لم تَكُن قد انتهت بعد. أما الكولونيل، فيجب القول بأنه أبان عن شجاعة مدهشة. كان يتجول في وسط الطريق ثم يتنقل طولا وعرضا بين مَسَار الرّصاصات ببساطة كبيرة، كما لو أنه ينتظر صديقاً على رصيف محطة، فقط بشيء من نَفَاد صبر.

يتوجب عليّ أن أقول الأمر حالا، في البدء كنتُ أمقت البادية، أجدها حزينة، بِمَواحِلِها التي لا تنتهي، بمنازلها الفارغة دوما من ساكنيها وبِطُرُقها التي لا تؤدي إلى أيّ مكان. ولكن حينَ نُضيفُ الحربَ إلى كلّ هذا، فلن يستطيع أحدٌ البقاء فيها.

بدأت الريح تهبّ، عنيفةً، من كل جوانب المنحدر، كانت أشجار الصفصاف تمزج رشّاتها من الأوراق بتلك الأصوات الصغيرة الجافة التي تأتي من هناك وتستهدفُنا. هذان الجنديان المجهولان كانا يُخطئاننا باستمرار، ولكننا كُنّا، وَسَط ألف قتيل، كَمَن يمتلك مَلابِس أنيقة. لم أَعُد أستطيعُ التحرُّك.

لقد كان الكولونيل وحشا! في الوقت الحاضر كنتُ متأكدا  من الأمر، أخطر من كلب، ولم يكن يتخيل وفاته. أتصور، في نفس الآن، أنه يتواجد الكثيرون ممن يشبهونه في جيشنا، ناس شجعان، كما يوجدون أيضا ومن دون شك في الجيش المُقابل.

مَنْ يعرف كَمْ هو عددُهُم؟ واحد، اثنان، ربّما عدة ملايين في المجموع؟ من هذه اللحظة تحَوَّلَ خوفي الشديدُ إلى رُعب.  مع كائنات مشابهة ستستمرّ هذه الحماقة الجهنمية إلى ما لا نهاية...

لماذا سيتوقفون؟ ولم أحسّ من قبلُ مثل هذه القسوة في الأحكام التي يُصدرُها البشرُ والأشياء.

تساءلتُ في نفسي: هل أنا إذنْ الجبانُ الوحيدُ على هذه الأرض؟ وفي كثير من الفزع: ...أنا الضائع بين ملايين من المجانين الأبطال والهائجين والمسلحين حتى شَعَر رؤوسهم؟ بِخُوذات ومن دون خُوْذات، من دون خيول وعلى دراجات نارية، وهم يصرخون، في سيارات، يصفرون، رماة، ومتآمرون، وطائرون، على ركبتيهم، يحفرون، ينسلوّن، ينطّون نصف دورات في الدروب، يفرقعون، مسجونين على الأرض، كما لو كانوا في سجن مظلم، كي يُدمّروا فيه كلَّ شيء، ألمانيا، فرنسا والقارات، كلّ من يتنفّس، تدمير، أكثر سعاراً من الكلاب، يعشقون سُعارَهُم(وهو ما لا تفعله الكلاب) أكثر من مائة، أكثر سعاراً، ألف مرّة، من ألف كلب وأكثر شذوذا منها بكثير! كُنّا  جميلين! بالفعل أتقبّلُ فكرةَ أني كنتُ منخرطا في حرب شديدة  الغموض.

نحن عذارى الفظاعة مثلما نحن عذارى اللذة. كيف استطعتُ أن أشكّ في هذه الفظاعة وأنا أغادر ساحة »كليشي«؟

من يستطيع أن يتنبأ قبل الدخول، حقيقةً، في الحرب بما تحتويه روحُ البشر القذرةُ والبطوليّة والكسولة؟ في الوقت الحاضر، كنتُ محصوراً في هذا الهروب الجماهيري نحو الموت الجماعي ونحو النار.. كان الأمر يأتي من الأعماق، وها قد وصل.

لم يكن الكولونيل يُظهر علامات تردُّد، كنتُ أراه يتلقى على المنحدر رسائل صغيرة من الجنرال وكان يمزّقها بعدئذ، كانت غير ذي أهمية، وكان يقرأها بلا عجلة، بين الرّصاصات.

لم تكُن أية واحدة منها تتضمن أمراً واضحا بوقف هذه الفظاعة.

لم تكن الأوامر القادمة من فوق تقرّ بوجود خطأ. خطأ فظيع.

خطأ في توزيع وَرَق اللعب. كان القصد منها هو مُناوَرات من أجل الضحك، وليس من أجل القتل. لكن ليس هذا! لقد كان جنرال الفرقة العسكرية، زعيمنا جميعا، يكتب، من دون شكّ، إلى الكولونيل: »استمرّ، يا كولونيل، أنتَ على الطريق الصحيح!« كان الكولونيل يتلقى رسالة كلّ خمس دقائق، عن طريق رَجُل اتّصال، كان الخوفُ يجعله أكثرَ خضرة وأكثرَ جُبْنا. كُنتُ سأجعل منه أخي، ولكن لم يكن لدينا وقتٌ للتقارُب كذلك.

إذنْ لم يَكُن ثمّة من خطأ. وما كنا بصدده من تبادل إطلاق النار، كما نفعل، من دون أن يرى بعضنا البعض، لَمْ يَكُن ممنوعا! كان جزءاً من الأشياء التي يمكن القيام بها من دون الحاجة إلى توبيخ. بل كان شيئا مُعتَرَفا به ويحظى بالتشجيع من دون شكّ من قبيل الأناس الجيدين، مثلما هو شأنُ القُرْعة أو الخطوبة أو الصيد بالكلاب. لا شيء يمكن إضافته. لقد اكتشفت الحربَ كُلَّهَا، للتوّ، وبِشكل مُفاجئ. فقدتُ بكارتي. يجب على المرء أن يكونَ لوحده أمام الحرب، مثلما كنتُ أنا أمامها في تلك اللحظة، كي يَجدَهَا قاسية، لا من أمام ولا من الجوانب. تم إشعالُ شرارة الحرب للتوّ بيننا وبين الآخرين الذين يوجدون في الجهة المقابلة، وها هي الآن تحترق! مثلما تيّارٍ يمر بين قطعتي فحم في مصباح قوسيّ. والفحم ليس مهيَّأً للانطفاء بعدُ.

سنتحَمَّلُ عناءَهَا جميعا، الكولونيل كما يتحملها الآخرون، وكلّ مُخاتل مهما كان، لحمُهُ الرديء لن يمنح من لَحْم الشيِّ أكثرَ ممَّا  يمنحه لحمي إذا مرّ عليه التيار المُواجه.

توجد طرق عدةٌ لتلقّي الموت. آه! كم كنتُ سأدفعُ في هذه اللحظة كي أكون في سجن بدل أن أكونَ هُنا، أنا البليد! مثلا، كي لم أرتكب سرقةً ما، في مكانٍ ما، لمَّا كان الوقتُ لا يزال مناسبا. إننا لا نفكر في أيّ شيء. نَخرُج من السجن أحياء، لا من الحرب. أما ما تبقى، فليس سوى كلمات.

آه، لو كان، فقط، يتبقَّى لي الوقت، ولكنه لم يعد موجودا. لم يعُدْ ثمّة شيءٌ يُسْرَق. قلتُ في نفسي كَمْ سيكونُ الأمر رائعاً في سجن هادئ وصغير، حيث الرصاصات لا تمرّ. لا تمر أبدا.

كُنتُ أعرفُ سجنا جاهزا، في الشمس وفي الحَرّ. في شبه حُلم فكَّرتُ في سجن »سان جيرمان«، تحديدا، القريب جدا من الغابة، وأنا أعرفه جيدا، وكنتُ، فيما مضى، أمُرّ بالقرب منه كثيرا. كَمْ نتغيَّر! كان يُخيفني حين كنتُ طفلا. السبب هو أنني لمْ أكن أعرفُ الرِّجالَ بعدُ. لن أُصَدّقَ أبداً ما يقولون ولا ما يُفكرّون فيه. إنهم بشرٌ ولا يتوجب أنْ نخافَ إلا منهم، وبشكل دائم.

كَمْ من الزمن سيطول هذيانهم، حتى يتوقف، هؤلاء الوحوش، منهكين أخيرا؟
 
   سفر في آخر الليل
رواية اليأس.. بالكاد يمكننا ان نتخيل ومضات الأمل
لويس-فيرديناند سيلين
ترجمة : محمد المزديوي (مترجم من المغرب)