الخميس، 11 أكتوبر 2012

لويس فيرديناند سيلين: سفر في آخر الليل


لويس-فيرديناند سيلين2009-07-20
  من كان يتصور أنّ »لويس-فيرديناند سيلين« الذي حُرِم من جائزة الغونكور الفرنسية سنة   1932   من خلال مؤامرة دنيئة (كما هو حال العديد من الجوائز)، والذي عانى من السجون المتعددة ومن الإدانات المتلاحقة ومن التشنيع ومن اتهامه بالنازية وكره اليهود والصينيين وغيرهم، أن ينتصر على الزمن، وتصبح روايته »سفر في آخر الليل« من أهم الروايات الفرنسية التي تمثل القرن العشرين. بل وأكثر من هذا أن تثير ترجَمَتَها إلى العبرية صخبا كبيرا.

لهذه الأسباب ولأسباب أخرى، منها الوفاء الكبير الذي أظهره سيلين للأدب الشعبي الفرنسي، الأدب الذي نجد من بين مؤسسيه »رابليه« الذي استلهمه »ميخائيل باختين« والشكلانيون الروس في دراساتهم وتنظيراتهم، قلنا الوفاء الكبير لهذا الأدب، الذي جعله ينتج ويبدع لغة وأسلوبا جديدين، ساهما في إثراء اللغة الفرنسية.    

لأجل هذه الأشياء، وأيضا، للمتعة التي تمنحها قراءة نصوصه، التي هي ليست سهلة بالتأكيد، قرَّرنا ترجمة بعض الفقرات للقارئ العربي.

لم تكن الرواية، حتى وهي تخسر جائزة الغونكور، لتظل سجينة الأدراج أو رفوف المكتبات. لقد تسببتْ في إثارة نقاشات، لافتة حينا وصاخبة حينا آخَر، في زمن صدورها، وهي نقاشات لم تتوقف مع الزمن. أما الرواية التي مُنِحَت الجائزة فلم يَعُد يتذكرها أحدٌ. إنه مكرُ الزمن أو انتقامه الرّهيب!

يرى »كلود ليفي شتروس« Claude Lévi-Straus عن هذه الرواية وعن صاحبها بـأنه »يمكن أن نتردد في إطلاق اسم على العمل الضخم المكون من 60 صفحة، والذي يتميز بسردية مضغوطة وبفقرة واحدة. هل هو رواية أم أتوبيوغرافيا أم محكي أم رواية مسلسلة. ولكننا لن نتردد أبدا حول المكانة التي يجب أن تُمْنَحَ له في الأدب المعاصر. إنّ »سفر في آخر  الليل«، من دون شك، أهم عمل صدر منذ عشر سنوات، إنْ من حيث قيمته العميقة أو من حيث طابعه، الإراديّ، المتطرِّف والعدواني الذي يمنحه شكلَ بيانٍ، بيانٍ مُحرِّر. و»إنّ بداية الرواية تُقدِّم لنا صفحات حقيقية من بين الصفحات الأكثر عُمقا والأكثر صلابة وقسوة التي لم يستلهمها، من قبلُ، شخصٌ يَرفُضُ قَبولَ الحرب.« لم يكن هذا الأنثروبولوجي الوحيد الذي رحّب بالرواية فقد كتب عنها أيضا »بول نيزان«:   Nizan Paul  (هذا العمل الضخم هو عمل لافتٌ وهامّ، وذُو قوّة وأهمية التي لم يُعوِّدْنَا عليها أقزامُ البورجوازية المُتجعِّدون. إن »سفر في آخر الليل« رواية تشرُّديّة picaresque، هي ليست رواية ثورية، ولكنها رواية »الصعاليك«. طبيبٌ، هو نفسُهُ خسيس/دنيء، يحكي استكشافاته في عوالم البؤس المختلفة.

تُوجَد مَشَاهِد الحرب والمستعمرات الأفريقية وأمريكا وضواحي باريس الفقيرة والأمراض والموتُ التي لا يمكن أن ننسى قسماتها. تمرُّدٌ حقودٌ وغَضَبٌ وإدانةٌ تهدّ وتدُكّ هذه الأشباح المُصوَّرَة، من الضبّاط والعلماء والرجال البيض في المستعمرات والبورجوازيين الصغار ومَشَاهد الحب الكاريكاتورية. لا وجودَ في العالم إلاّ للخسّة والدناءة والعفونة والتفسخ والمسير نحوَ الموت مع بعض التسليات البائسة من الحفلات الشعبية ومن المواخير ومن الاستمناءات. إنّ  »سيلين« لا يرى في رواية اليأس، هذه، من خلاص سوى الموت: بالكاد يمكننا أن نتخيل ومضات الأمل الأولى التي يُمكن أن تكبر.« ومن جهته يرى »جورج باطاي« Bataille Georges ان رواية »سيلين« الشهيرة يُمكن اعتبارُها وصفاً للعلاقات التي تربط كائناً ما بموته الحاضرةـ بشكل ما، في كل صُوَر البُؤس البشري التي تظهرُ من خلال المحكيّ. إلا الاستخدام الذي يمكن لإنسانٍ ما أن يقوم به لموته الشخصية - المُكلَّفَة بِمَنح الوجود السوقيّ معنًى رهيباً- ليس مُمارسةً جديدةً:

إنه لا يختلف، جوهريا، عن التأمل الرهباني أمام جمجمة. إلا أنّ عظمة »سفر في آخر الليل« تظهر في أنه لمْ يَقُم بتوجيه أيّ نداء إلى مَشاعر الشفقة المعتوهة التي ربطَها الخُنوعُ المسيحيّ بوعي البؤس. لقد فات الزمن الذي كان يمكن فيه لِـ»إميل زولا« بِلَعبِه السخيف أن يستعير عظمَتَهُ من آلام الرجال في حين يظل هو، نفسه، بعيدا عن هؤلاء البؤساء. إنّ ما يَعزِل »سفر في آخر الليل« ويمنَحها دلالتها الإنسانية هو تبادُل الحياة المَعيشة مع الذين يلقي بهم البؤسُ بعيداً عن الإنسانية - تبادل حياة وموت، تبادُل موت وسقوط.«

هذه الكلمات التي تعلي من شأن هذه الرواية، التي تعتبر اليوم من أهم روايات القرن العشرين في فرنسا، لا تُخفي وُجود مقالات سلبية اتجاهها. فها هو الكاتب الروسي(السوفييتي) الكبير »مكسيم غوركي« يقول: »إن الأديب المعاصر في أوروبا الغربية فقد اليومَ ظِلَّهُ حين هاجر من الواقع إلى العدميّة، كما يظهر جليا في كتاب »سفر في آخر الليل«. إذْ أن »باردامو«Bardam، بطل الكِتاب، فَقَدَ وطَنَهُ ويحتقرُ البشر؛ ينادي على أمه بـ»الكلبة« وعلى عشيقاته بـ»المومسات«؛ إنه لا مبالٍ إزاء الجرائم ولا يمتلك أي معطى لـ»لانضمام« إلى البروليتاريا الثورية، إنه ناضجٌ، كلية، لقبول الفاشية. »أما القائد الروسي »ليون تروتسكي« فيكتب: »لويس-فيرديناند سيلين وَلَجَ إلى الأدب الحقيقي كما يَلِجُ الآخَرون إلى منازلهم. إنه رجلٌ  ناضجٌ مُسلَّحٌ باحتياطات واسعة من ملاحظات الطبيب والفنان، مع لامبالاةٍ مقتدرة تجاه كل ما هو أكاديميّ، مع حسّ استثنائي تجاه الحياة واللغة. سيلين ألَّفَ كِتاباً سيَصْمُد. إنّ »سفر في آخر الليل«، رواية التشاؤم، أملاها الإحساسُ بالرّعب أمام الحياة والإعياء والبَرَم الذي تتسبب فيه، أكثر ما أملاها التمرّد. إن تمرُّداً نشيطاً يرتبط بالأمل. أما في كتاب سيلين فلا يوجد أملٌ.«

ترجمة لمقاطع من الرواية:    

              إلى إلزابيث كريغ

حياتُنا سفرٌ

في الشتاء وفي الليل،

نبحث عن مَعْبَرٍ لنا

في السماء حيث لا شيء يلمع.

من أغاني الحراس السويسريين

                     (1793)

ابتدأ الأمر على هذه الطريقة. أنا لَمْ أتفوه بشيء. لا شيء.

»أرثر غانات« هو الذي تحدث إليّ. »أرثر«، طالب، طالب طبّ أيضا، ورفيق. نلتقي إذنْ في »ساحة كليشي«. كان الأمر يحدث بعد الغذاء. يريد أن يتحدث إليّ. أُنْصِتُ إليه. يقول لي:

»لندخلْ، لا نبق هنا.« أدخل معه. هذا هو الأمر. يبتدئ الحديث»رصيفُ المقهى، هذا، إنما يصلُحُ لأكلة البَيْض الصباحية، نصف المسلوق، تعالَ هنا« نُلاحظ عدَمَ وُجود الناس في الشوارع بسبب الحرارة. كما أنه لا توجد سيارات أيضا، لا شيء. حين تشتد الحرارة يحدُثُ نفسُ الشيء، لا يوجد من أحد في الشوارع. على كل حال هو الذي قال، في هذا الصدد: » إن أناس باريس يعطون الانطباع دائما بأنهم مشغولون، ولكنهم في واقع الأمر، يتجولون من الصباح إلى المساء؛ الدليل هو أنه لا يكون الطقس جيدا وملائما للتجول، من شدة البرد أم من شدة الحرارة، لا نراهم قط؛ إنهم يتواجدون كلهم في الداخل يتناولون قهوة بالحليب أو كؤوس الجعة. هذا هو قرنُ السرعة الذي  يتحدثون عنه. أين هي؟ التغيرات الكبرى! التي يحكون عنها.

كيف؟ لا شي تغيَّرَ في الحقيقة. إنهم يُواصلون تبادُل الإعجاب، هذا هو كلُّ ما في الأمر. وهذا التصرف ليس جديدا، هو الآخَرُ.

إنها كلماتٌ، وحتى هي ليست بالكثيرة، وحتى بين الكلمات، من هي التي تغيرت! كلمتان أو ثلاث هنا أو هناك.. كلمات صغيرة..« من إحساسنا بالاعتزاز من جرّاء التفوّه بهذه الحقائق النافعة، ظللنا جالسْين وسعيدين في النظر إلى نساء المقهى.

بعد هذا تطرق الحديث إلى الرئيس »بوانكاري«

Poincaré  الذي توجَّهَ، هذا الصباح تحديدا، لتدشين مَعرض للكلاب الصغيرة؛ هكذا الحديث يجر الحديث/من حديث لآخر،  تحدثنا عن صحيفة »الزمن«le Temp التي وَرَدَ فيها الخَبَرُ.

قال »أرثر غانات« وهو يمازحني على سبيل المغايظة: »الزمن«، ها هي صحيفة رائدة!«. »لا توجد صحيفة أخرى تشبهها لتدافع عن العِرْق الفرنسي!« أجبتُهُ كي أبيِّنَ له بأن لدي كثيرٌ من التوثيق وكي أرد الصاع صاعين: »إن العِرْق الفرنسي يحتاجُها، ما دام أنه لا يوجد!«

قال ملحّا: »بل يُوجد! يُوجد عِرقٌ فرنسي! وهو عِرْق جيد! بل إنه أفضل عِرْق في العالَم ومخدوعٌ جدا منْ يُناقض هذا! «، وهكذا انطلق في تأنيبي. بطبيعة الحال ظللتُ صارما معه.

»ليس صحيحا، ما تطلق عليه لفظَ العِرْق، إنه فقط هذا الخِلْط الكبير من الحُقرَاء من طينتي، والأرامص والأغامص، وقصر القامة والأقزام والمرتجفين الذين وصلوا إلى هنا يُطاردهُم الجوعُ والطاعون والأورام والبَرْد، أتوا إلى هنا مهزومين من جهات العالَم الأربع. لم يستطيعوا أن يذهبوا أبعدَ  من هذا المكان بِسَبب البحر. هذه هي فرنسا، وهؤلاء هم الفرنسيون.

قال لي بشيء من رصانة وحزن:

- باردامو، إن آباءنا يستحقوننا جيدا، لا تقُلْ سوءا!...

- أنت على حق، أرثر، أنت على حق في هذا! حقودون وطيعون ومن تعرضوا للاغتصاب والسرقة ومَنْ هُم كذلك منتزعي الأحشاء وحمقى دائما، إنهم يستحقوننا جيدا! تستطيع أن تقول ما قلته! نحن لا نُغيِّر! لا جوارب ولا أسيادا ولا آراء، أو أنه لاحقا، لن يستحق الأمر العناء. أمّا نحنُ فقد وُلدْنا أوفياء، ونموت من جرّاء هذا الوفاء!نحن الجنود المجّانيون والأبطال من أجل الجميع والقردة الناطقة، كلمات تعاني، إننا مناييك الملك الفقر. إنه هو الذي يتحكم فينا. حينما لا نكونُ عاقلين يقوم بالضغط علينا... أصابعهُ حول عُنُقنا، بشكل دائم، إنها تُعيقنا عن الكلام، وعلينا أن نكون حَذِرين إذا ما أردنا أن نُحافظ على قدرة الأكل.. إنه يخنق من أجل لا شيء.. إنها ليست حياة...

- يوجد الحب، يا »باردامو«!

أجبتهُ:

- »أرثر«، الحبُّ هو اللانهائي الذي يوضع تحت إشارة الكلاب الصغيرة، وأنا أمتلكُ كرامتي..

- لنتحدث عنك! أنت فوضويٌّ، هذا كل في ما الأمر!«

إنه ماكر صغيرٌ، في كل الحالات، ها أنتم ترون الأمر من هنا، وفي كل ما كان متقدما في آرائه.

قلتُ له:

-  »لقد قلتَهَا، أيّها المنتفخ. قلتَ إنني فوضوي!

وهنا أفضل دليل، وهو أنني قمتُ بتأليف نوع من صلاة ثائرة واجتماعية ستقول لي عنها، على وجه السرعة بأنها قصص: الأجنحة الذهبية! هو العنوان! وقمتُ حينها بتلاوتها:

-  إن صانعاً أعلى يقوم بِعَدّ الدقائق والفلوس، هو صانعٌّ يائس  ودائم الدَّمدمَة مثل خنزير. خنزيرٌ بأجنحة من ذهب يسقطُ في كل مكان، البطن في الهواء وهو جاهز للمداعبات، إنه هو، هو سيدنا. لنتبَادَل العناق!

أجابني:

»إن ما قمتَ بتأليفه، هذا المقطَع الصغير، لا يصمُدُ أمام الحياة، إذ أني مع النظام الحالي ولا أحب السياسة. وعلى كلٍّ حين يأتي اليوم التي يُطالبني فيه الوطنُ بإراقة دمي من أجله، سيجدُني بكلّ تأكيد، غير متهاون، ومستعدا للإجابة.«

بالتأكيد كانت الحرب تقتربُ منا دون أن ننتبه لها، ولم أكن على ما يُرام. هذا النقاش القصير ولكن الحيوي أتعبني. ثم إنني أحسستُ بالانفعال لأن النادل تعامَلَ معي بشيء من الدناءة بسبب الإكرامية. وأخيرا تصالحتُ مع »أرثر« كي ننتهي على ما يرام. كنا متفقين تقريبا على كل شيء.

قلتُ مُوافقاً، بِجوٍّ من التصالُح:

»صحيح، أنتَ على حقّ تحديدا، ولكننا في نهاية الأمر نتواجد في وضعية شاقة، ونحن نشتغل كثيرا وبقوة، أنت لا تستطيع أن تقول لي العكس...أما نحن الجالسين على مَسامير فقد كنا قادرين على إطلاق النار. على ماذا حصلنا؟ لا شيء. ضربات هراوات فقط، متاعب ومشاكل وتلفيقات ثم أيضا مَقَالِب. يقولون بأنهم يشتغلون. إن هذا الشيء هو الأكثر بذاءة بالمقارنة مع باقي الأشياء الأخرى، عملهم هم. نحن نتواجد في القاع نُكابد، ذوي روائح كريهة، ثم ها نحن! أنا في ما فوق، من أعلى الجسر، في الهواء المنعش، يوجد الأسياد الذين لا يقلقون، بصحبة نساء جميلات ورديات ومنتفخاتٍ عُطورا على أفخاذهنّ.

يتمّ إصعادنا إلى الجسر. حينهَا يضعُون قبّعاتهم العالية ويقذفون في وجوهنا: »عصابة القذرين، إنها الحربُ التي يعلنون. سوف نُواجه هؤلاء السَّفَلة الذين يتواجدون في الوطَن رقم اثنين، سنسحقهم. هيّا، هيّا. يوجد كل ما يلزم على متنها. »هيّا معا! صيِّحوُا، لِنَرَ في البداية صخبا كبيرا، وليَكُن اهتزاز : يحيا الوطنُ رقم واحد! يجبُ أن تُسْمَعُوا من بعيد! مَنْ كان صياحُهُ الأقوى سينال الميدالية ومُلبَّس! وَيْحَكُم! مَنْ لا يُريدون أن يموتوا في البحر، يمكنهم دائما أن يموتوا على الأرض حيث الموت أقرب مما هو عليه هنا!«

قال لي »أرثر« مُوافقاً، وقد بدا لي، بالفعل، بأنه السهل إقناعُه:

-  الأمر على ما قلت، بالتحديد.

ولكن بالتحديد، أمام المقهى الذي كنا جالسين فيه، مرّت كتيبةٌ عسكرية، وكان الكولونيل متقدما على فرَسِه، وحتى وإن كان يبدو ودودا وقويَّ الجسم، في شيء من أبهة، فأنا لم أُصْدِر سوى وثبة إعجاب.

صرختُ في »أرثر«:

- »سأذهب لأرى إن كان الأمر على هذه الشاكلة.

وهكذا كان انخراطي في الجيش، عَدْوا أيضا.

صرخ بي، وقد امتعض بسبب وَقْع موقفي البطولي على الجُمهور الذي كان ينظر إلينا:

- أنت لا شيء، أيها الغبي فيرديناند!«

استأتُ قليلا من موقفه، ولكنه لم يُغيِّرْ من موقفي. تبعتُ خطوتي. قلتُ في نفسي» لقد ولجتُ في الأمر، وسأبقى فيه!«

»سوف نرى، أيها الأحمق!« كان عندي بعضُ الوقت كي أصرخ فيه قبل أن ندور حول شارع مع الكتيبة خلف الكولونيل وموسيقاه. لقد حصل الأمر على هذا الشكل، بشكل دقيق.

تمشينا كثيرا. كانت ثمة شوارع كثيرة، ثم إنه كان فيها مدنيُّون وزوجاتهم وهم يصدرون صرخات تشجيع، ويلقون علينا بالورود، من الأرصفة وأمام المحطّات ومن الكنائس. كان يوجد من بينهم وطنيّون... هطلتْ أمطارٌ، فقلّتْ التشجيعات، شيئاً فشيئاً، ثم اختفتْ، ولَمْ يَبْق أَحدٌ على الطريق.

لمْ نَبق إذنْ سوى فيما بيننا؟ البعض خلف البعض الآخر؟

الموسيقى توقَّفَت. قلتُ في نفسي، حينها »كخلاصة حين رأيتُ كيف تدور الأشياءُ، أصبح الأمرُ بعيدا عمّا تصورته! كان يتوجب أن نبدأ من جديد!« كنتُ سأغادرُ. ولكن قُضي الأمرُ.

كانوا قد أغلقوا الباب بهدوء خلفنا نحن المدنيين. لقد كنا نشبه فئرانا.

بمجرد أن نلج في هذا العالم فنحن موجودون فيه بالفعل.

جعلونا نمتطي خُيولا، ثم بعد مرور شهرين من الامتطاء أنزلونا إلى الأرض. ذات صباح جاء الكولونيل يبحث عن فَرَسه، كان ضابطه المُرافق قد امتطاها وغَادَرَ، لم نكُن نعرفُ إلى أين، في مكان، تمر منه الرصاصات، من دون شك، بسهولة أقل من مرورها وسط الطريق. هنا تحديدا انتهى بنا الأمرُ، الكُولونيل وأنا، وسط الطريق، وأنا ماسكٌ السجلّ الذي يُدوِّنُ فيه الأوامر.

بعيدا في قارعة الطريق، أبعدَ ما نستطيع الرؤية، كانت ثمة نقطتان سوداوان، في الوسط، مثلنا، ولكنّ الأمرَ كانَ يتعلق بألمانيين منهمكين في إطلاق النار منذ أكثر من ربع ساعة.

 الكولونيل كان يعرف، ربما، لماذا يقوم هذان الألمانيان بإطلاق النار، والألمانيان ربما كانا يعرفان السبب، أما أنا، ففي الحقيقة، لم أكن أعرف السبب. بحثتُ في أقصى ذاكرتي فاكتشفت أني لم أُسِئْ إلى الألمان. لقد كُنتُ دوما شخصاً مُحبّباً،  ومؤدبا معهم. كنت أعرف الألمان قليلا، درستُ في إحدى المدارس الألمانية، حينما كُنت طفلا، في ناحية هانوفر. كنت قد تحدثتُ لغتهم. كانوا كتلة من أوغاد صغار يصرخون بعيُونهم الشاحبة والمختلسة مثل عيون الذئاب. كما كنا نذهب معا لمداعبة الفتيات بعد انتهاء المدرسة في الغابات المُجاورة حيث نتعلم الرماية وإطلاق النار من مسدسات كنّا نشتريها بأربعة ماركات. كنّا نشربُ الجعة الحلوة. ولكن أنْ يقوموا الآن بإطلاق النار علينا الآن ووسط الطريق، دون أن يأتوا، في البدء، للحديث معنا، كان يوجد هامشٌ، بل ثمة هُوَّة. ثمة اختلافٌ كبير.

الحربُ كانت، تحديداً، كلَّ الأشياء التي لا نفهمها. لم يكن للأمر أن يستمر على هذا الشكل.

لقد حدث لهؤلاء الناس شيءٌ ما استثنائي. شيءٌ لم أحسّ به على الإطلاق. لم أستطع أنْ أفطن له...

مَشَاعري تجاههم لم تتغير. على الرغم من كل ما حدث كانت تنتابني رغبة في محاولة فهم طبيعتهم العنيفة، ولكن كانت لدي رغبةٌ أكبرُ في مغادرة المكان، بشكل كبير ومُطلق، وقد بدا لي الأمر، بشكل مفاجئ، وكأنه وَقْع خطأ مريع.

على كل حال، قلت في نفسي:

»في وضعٍ مماثل ليستْ ثمّة ما يمكنُ أن يُفْعَل، لا شيء سوى الهرب.«

فوق رأسينا، على بعد ميليمترين، بل على بعد ميليمتر من صدغينا تأتي مهتزّةً الواحدة تلو الأخرى هذه الخطوط الطويلة من الفولاذ المُشوِّقة التي ترسُمُها الرصاصات التي تريد قتلنا، في هواء الصيف الحار.  

لم أُحِسّ أبدا قدر ما أحسستُ الآن من أني غير نافع ومفيد بين كل هذه الرصاصات وأشعة هذه الشمس. سخرية كبيرة جدا وشاملة.

لم يكن عمري آنذَاك يتجاوز العشرين سنة. مَزَارع مهجورةٌ في البعيد، كنائس فارغة ومفتوحة، كما لو أن القرويين غادروا هذه المزارع في النهار، غادروا كلهم، إلى حفلة من الجهة الأخرى من المُقاطَعة، وتركوا لنا، في ثقة، كل ما يملكون، باديتهم وعرباتهم ونقَّالاتهم وحقولهم وعقاراتهم المُسوَّرَة والطريق والأشجار وحتى البقر وكلبا مع سلسلته، كل شيء. كل هذا كي ننعم بالسكينة ونفعل ما نريد أثناء غيابهم. لقد كان الأمرُ وَدودا من جانبهم. قلت في نفسي: »مع كل ذلك، إن لم يكونوا في مكان آخر! لو كان لا يزال أناسٌ يتواجدون من هنا، بالتأكيد ما كنا لنتصرف بهذه الطريقة الخسيسة! السيّئة جدا! ما كنا لنجرؤ على فعلها أمامهم! ولكن لم يكن يتواجد أحدٌ كي يُراقبَنَا! لا أحد سِوانا، مثل زوجين يقترفان فواحش حين ينصرفُ الجميع.«

فكرتُ في نفسي أنا أيضا(خلف شجرة) بأني كنت أتمنى لو رأيتُهُ هنا، هذا الشخص الذي حدثوني عنه كثيرا، ويشرحوا لي كيف كان يعمل حين أصابته رصاصةٌ في بطنه.

هذان الألمانيان القاعدان في الطريق العنيدان والقناصان، يطلقان النار بشكل سيّء، ولكن يبدو أنهما كانا يتوفران على كثير من الرصاص، مَتَاجر بأكملها من دون شك. الحربُ  بالتأكيد لم تَكُن قد انتهت بعد. أما الكولونيل، فيجب القول بأنه أبان عن شجاعة مدهشة. كان يتجول في وسط الطريق ثم يتنقل طولا وعرضا بين مَسَار الرّصاصات ببساطة كبيرة، كما لو أنه ينتظر صديقاً على رصيف محطة، فقط بشيء من نَفَاد صبر.

يتوجب عليّ أن أقول الأمر حالا، في البدء كنتُ أمقت البادية، أجدها حزينة، بِمَواحِلِها التي لا تنتهي، بمنازلها الفارغة دوما من ساكنيها وبِطُرُقها التي لا تؤدي إلى أيّ مكان. ولكن حينَ نُضيفُ الحربَ إلى كلّ هذا، فلن يستطيع أحدٌ البقاء فيها.

بدأت الريح تهبّ، عنيفةً، من كل جوانب المنحدر، كانت أشجار الصفصاف تمزج رشّاتها من الأوراق بتلك الأصوات الصغيرة الجافة التي تأتي من هناك وتستهدفُنا. هذان الجنديان المجهولان كانا يُخطئاننا باستمرار، ولكننا كُنّا، وَسَط ألف قتيل، كَمَن يمتلك مَلابِس أنيقة. لم أَعُد أستطيعُ التحرُّك.

لقد كان الكولونيل وحشا! في الوقت الحاضر كنتُ متأكدا  من الأمر، أخطر من كلب، ولم يكن يتخيل وفاته. أتصور، في نفس الآن، أنه يتواجد الكثيرون ممن يشبهونه في جيشنا، ناس شجعان، كما يوجدون أيضا ومن دون شك في الجيش المُقابل.

مَنْ يعرف كَمْ هو عددُهُم؟ واحد، اثنان، ربّما عدة ملايين في المجموع؟ من هذه اللحظة تحَوَّلَ خوفي الشديدُ إلى رُعب.  مع كائنات مشابهة ستستمرّ هذه الحماقة الجهنمية إلى ما لا نهاية...

لماذا سيتوقفون؟ ولم أحسّ من قبلُ مثل هذه القسوة في الأحكام التي يُصدرُها البشرُ والأشياء.

تساءلتُ في نفسي: هل أنا إذنْ الجبانُ الوحيدُ على هذه الأرض؟ وفي كثير من الفزع: ...أنا الضائع بين ملايين من المجانين الأبطال والهائجين والمسلحين حتى شَعَر رؤوسهم؟ بِخُوذات ومن دون خُوْذات، من دون خيول وعلى دراجات نارية، وهم يصرخون، في سيارات، يصفرون، رماة، ومتآمرون، وطائرون، على ركبتيهم، يحفرون، ينسلوّن، ينطّون نصف دورات في الدروب، يفرقعون، مسجونين على الأرض، كما لو كانوا في سجن مظلم، كي يُدمّروا فيه كلَّ شيء، ألمانيا، فرنسا والقارات، كلّ من يتنفّس، تدمير، أكثر سعاراً من الكلاب، يعشقون سُعارَهُم(وهو ما لا تفعله الكلاب) أكثر من مائة، أكثر سعاراً، ألف مرّة، من ألف كلب وأكثر شذوذا منها بكثير! كُنّا  جميلين! بالفعل أتقبّلُ فكرةَ أني كنتُ منخرطا في حرب شديدة  الغموض.

نحن عذارى الفظاعة مثلما نحن عذارى اللذة. كيف استطعتُ أن أشكّ في هذه الفظاعة وأنا أغادر ساحة »كليشي«؟

من يستطيع أن يتنبأ قبل الدخول، حقيقةً، في الحرب بما تحتويه روحُ البشر القذرةُ والبطوليّة والكسولة؟ في الوقت الحاضر، كنتُ محصوراً في هذا الهروب الجماهيري نحو الموت الجماعي ونحو النار.. كان الأمر يأتي من الأعماق، وها قد وصل.

لم يكن الكولونيل يُظهر علامات تردُّد، كنتُ أراه يتلقى على المنحدر رسائل صغيرة من الجنرال وكان يمزّقها بعدئذ، كانت غير ذي أهمية، وكان يقرأها بلا عجلة، بين الرّصاصات.

لم تكُن أية واحدة منها تتضمن أمراً واضحا بوقف هذه الفظاعة.

لم تكن الأوامر القادمة من فوق تقرّ بوجود خطأ. خطأ فظيع.

خطأ في توزيع وَرَق اللعب. كان القصد منها هو مُناوَرات من أجل الضحك، وليس من أجل القتل. لكن ليس هذا! لقد كان جنرال الفرقة العسكرية، زعيمنا جميعا، يكتب، من دون شكّ، إلى الكولونيل: »استمرّ، يا كولونيل، أنتَ على الطريق الصحيح!« كان الكولونيل يتلقى رسالة كلّ خمس دقائق، عن طريق رَجُل اتّصال، كان الخوفُ يجعله أكثرَ خضرة وأكثرَ جُبْنا. كُنتُ سأجعل منه أخي، ولكن لم يكن لدينا وقتٌ للتقارُب كذلك.

إذنْ لم يَكُن ثمّة من خطأ. وما كنا بصدده من تبادل إطلاق النار، كما نفعل، من دون أن يرى بعضنا البعض، لَمْ يَكُن ممنوعا! كان جزءاً من الأشياء التي يمكن القيام بها من دون الحاجة إلى توبيخ. بل كان شيئا مُعتَرَفا به ويحظى بالتشجيع من دون شكّ من قبيل الأناس الجيدين، مثلما هو شأنُ القُرْعة أو الخطوبة أو الصيد بالكلاب. لا شيء يمكن إضافته. لقد اكتشفت الحربَ كُلَّهَا، للتوّ، وبِشكل مُفاجئ. فقدتُ بكارتي. يجب على المرء أن يكونَ لوحده أمام الحرب، مثلما كنتُ أنا أمامها في تلك اللحظة، كي يَجدَهَا قاسية، لا من أمام ولا من الجوانب. تم إشعالُ شرارة الحرب للتوّ بيننا وبين الآخرين الذين يوجدون في الجهة المقابلة، وها هي الآن تحترق! مثلما تيّارٍ يمر بين قطعتي فحم في مصباح قوسيّ. والفحم ليس مهيَّأً للانطفاء بعدُ.

سنتحَمَّلُ عناءَهَا جميعا، الكولونيل كما يتحملها الآخرون، وكلّ مُخاتل مهما كان، لحمُهُ الرديء لن يمنح من لَحْم الشيِّ أكثرَ ممَّا  يمنحه لحمي إذا مرّ عليه التيار المُواجه.

توجد طرق عدةٌ لتلقّي الموت. آه! كم كنتُ سأدفعُ في هذه اللحظة كي أكون في سجن بدل أن أكونَ هُنا، أنا البليد! مثلا، كي لم أرتكب سرقةً ما، في مكانٍ ما، لمَّا كان الوقتُ لا يزال مناسبا. إننا لا نفكر في أيّ شيء. نَخرُج من السجن أحياء، لا من الحرب. أما ما تبقى، فليس سوى كلمات.

آه، لو كان، فقط، يتبقَّى لي الوقت، ولكنه لم يعد موجودا. لم يعُدْ ثمّة شيءٌ يُسْرَق. قلتُ في نفسي كَمْ سيكونُ الأمر رائعاً في سجن هادئ وصغير، حيث الرصاصات لا تمرّ. لا تمر أبدا.

كُنتُ أعرفُ سجنا جاهزا، في الشمس وفي الحَرّ. في شبه حُلم فكَّرتُ في سجن »سان جيرمان«، تحديدا، القريب جدا من الغابة، وأنا أعرفه جيدا، وكنتُ، فيما مضى، أمُرّ بالقرب منه كثيرا. كَمْ نتغيَّر! كان يُخيفني حين كنتُ طفلا. السبب هو أنني لمْ أكن أعرفُ الرِّجالَ بعدُ. لن أُصَدّقَ أبداً ما يقولون ولا ما يُفكرّون فيه. إنهم بشرٌ ولا يتوجب أنْ نخافَ إلا منهم، وبشكل دائم.

كَمْ من الزمن سيطول هذيانهم، حتى يتوقف، هؤلاء الوحوش، منهكين أخيرا؟
 
   سفر في آخر الليل
رواية اليأس.. بالكاد يمكننا ان نتخيل ومضات الأمل
لويس-فيرديناند سيلين
ترجمة : محمد المزديوي (مترجم من المغرب)

هناك 5 تعليقات:

  1. لدينا نصوص أخرى عن هذا الكاتب العظيم... وهي موجودة في مدوناتنا... شكرا

    ردحذف
  2. كاتب رائع ، اعتقد ان كاتب الشباب في مصر د.احمد خالد توفيق - يلقب يالعراب - قد تأثر بأسلوبه كثيراً ، كلاهما طبيب و متشائم و ساخر و اسلوبه الأدبي ساحر ، كما ان بطل الروايات الأكثر انتشاراً لهما بطلها طبيب لأنه يعبر عن احاسيس و فلسفة المؤلف ايضاً.
    تحياتي و شكراً علي المقال الرائع.

    ردحذف
    الردود
    1. سلام وتحيات أستاذ أحمد إمام
      شكرا على مرورك الكريم وشكرا كبيرا على الإضافة وعلى المعلومات التي كتبتها والتي ستدفعني لقراءة د. أحمد خالد توفيق.. وشكرا على التشجيع
      تحياتي ومودتي

      حذف
  3. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  4. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف