الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

هنري ميشو Henri MICHAUX


هنري ميشو في بيوغرافيا جديدة: «الشّْعْرُ مصيراً»
البلجيكي الكبير الذي قد يكون أحد أهم كاتبين في العالم
باريس: محمد المزديوي
دفعة واحدة يقول لنا الكاتب والباحث والأكاديمي الفرنسي روبرت بريشون، أهم متخصص في أدب الشاعر البلجيكي الكبير هنري ميشو
Henri Michaux بأن ميشو إلى جانب البرتغالي فيرناندو بيسوا، هما أهم كاتبين في العالم وفي كل الأزمنة.

ربط الباحث روبرت بريشون حياته بحياة الشاعر هنري ميشو منذ سنة 1945، يقول: «إذا ما حاولتُ التأريخ لعلاقتي المتفردة معه، فسوف أستطيع أن اكتشف ثلاثة تواريخ: اكتشاف العمل سنة 1945، والتقاء بالرجل سنة 1956، ونشر كتابي الذي جعلني «متخصصا» في كتاباته سنة 1959، وذلك بعد قراءة «روني بيرتولي» وقبل «رايموند بيللور»».
يعترف الكاتب بأنه تعرف للمرة الأولى على ميشو حين قرأ قصيدته الشهيرة «خُذْني معك» التي نشرت سنة 1943، ثم التحق بالزمن الضائع حين قرأ كتاب «روني بيرتولي» المكرَّسُ للشاعر سنة 1946 عن دار نشر «سيغير» Seghers الذي «علَّمَني منْ يكون الشاعر، الذي أصبح قريبا إلى قلبي. الأنطولوجيا الصغيرة من النصوص، الشعرية والنثرية، التي رافقت الدراسة جعلتني أكتشف أوْجُهاً من عبقريته. مع نهاية الأربعينات كنتُ قد قرأتُهُ من بين منْ قرأتُ لهم، فأصبح نموذجي وأستاذي و«صديقي العبقري». مثلما لم أعرف أحدا من قبل، باستثناء رامبو ربما». (13) سنة 1956 حين تعرف الكاتب على ميشو شخصيا، كان في لحظة فاصلة من حياته ومن عمله. لقد تعرض لهزّات كبيرة، ودفعته قضايا كبرى للتشكيك في حاله، ومن بينها الاحتلال والرعب النازي «التشيؤ الأنطولوجي الذي يرد وصفُهُ في أعماله يلتحق بالتشيؤ السياسي والتاريخي. هذه المواجهة تمنح كتاباته في هذه الفترة رنّة تراجيدية تميزه عن باقي شعراء المُقاومة ضد النازية الذين مالوا صوب الصراع وصوب المستقبل». (20) كما أن الشاعر عانى من المرض سنة 1946 وأيضا من صدمة وفاة زوجته ماري ـ لويز. هذه الصدمات والكوارث الشخصية «ألهَمَتهُ نصوصاً من رنة أخرى» أو ما رأى فيه الكاتب «مسيراً داخليا صوب السكينة»(20). هنري ميشو كان في هذه اللحظة: «هو الرجل الذي يُريدُ، بشكل يدعو إلى اليأس، ومنذ البداية اكتشاف «أبواب الإحساس» إن لم نقل الوُصول إليها»، ولكنه أيضا الرجل الذي يبحثُ بشكل بالغ الطموح في الوصول إلى حدود الشرط الإنساني».(21) في فصل معنون «وُلدتُ ومعي كثيرٌ من الثقوب» يتحدث الكاتب عن ديوان الشاعر الأول «إكوادور»، الذي يعتبره من الروائع. ولكن ما هو هذا الكِتابُ الذي يرى فيه، كاتبنا، إحدى الروائع؟ يحذرنا من البداية بالقول بأنه ليس بـالعمل الأدبي بالمفهوم الحقيقي.«إكوادور» هو يوميات رحلة، كما هو شأن كتابه اللاحق «بربري في آسيا» Un barbare en Asie، ولكن بصيغة مختلفة. ارتأى ميشو القيام بسفره، من دون شك كي يحكيها، بل وإذا ما صدَّقْنَا بعض اعترافات بولهان Paulhan فإنه سيجعل منها «روايته». إذنْ فالكتابُ ليس يوميات رحلة يُمكن أن يكتُبَهَا أيُّ مُسافر. إن مقولات هذا المسافر هي، دفعة واحدة، ذات طبيعة أدبية. لهذا فلا يجب أن نستغرب من أسلوب الملاحظات، غير المألوفة في هذا النوع الأدبي. إن أمثلة من وصف: «الإكوادور تخترقها أنهار من الشوكولاتة.. نَلِجُ في الغابة. هذه الغابةُ فيها تدفئةٌ. شقة كبيرة جدا.. الغابة مسكونة بشكل كبير وغنيةٌ بالأموات والأحياء». إنه لا يريد أن يتَنَافَسَ مع شاتوبريان ولامارتين ونيرفال وفلوبير وكبار الكتّاب الرحّالة في العصر الرومانسي. إنه يبحث هو الآخرُ عن الدهشة، ولكن ليس عبر نفس المَشَاهد، وليس بنفس الطريقة». (23)
السفر إلى هذا البلد الواقع في أميركا الجنوبية، جعل الشاعر يمنحنا مقاطع في غاية الشفافية والحزن: «تهبّ ريحٌ رهيبة./ ليس سوى ثقب صغير في صدري،/ولكن تهبّ فيه ريحٌ رهيبة./القرية الصغيرة في «كييتو»، أنتِ لست من أجلي. أنا محتاجٌ إلى حقدٍ ورغبةٍ، إن صحتي/مدينة كبيرة، هي ما أحتاج إليه،/أحتاج إلى استهلاك للرغبة». (24) كما أننا نقرأ مقاطع في غاية الحزن أحسها الشاعر في هذه المدينة كييتو(عاصمة الإكوادور) التي وصلها 28 يناير من سنة 1928: «فَرَاغي أَكُولٌ وساحقٌ وماحق/فراغي قُطنٌ وصمتٌ./صمتٌ يُوقف كلَّ شيء./صمت النجوم./رغم أن الثقب عميق فإنه لا شكل له./ الكلماتُ لا تعثرُ عليه،/ تتخبّط حوله...». (30) الكتاب الذي بين يدينا، شاء صاحبه تقسيمه إلى فصول تحمل عناوين مجاميع أو مؤلفات الشاعر، يرشح معلومات قيمة عن ميشو، ورصدا لكل المحطات التي مر عليها أو التي صنعت عالمه الشعري. جانب واحد، وهو مهم بطبيعة الحال، لم يتطرق إليه الكاتب في هذه البيوغرافيا، وهو الفن التشكيلي. إذْ يجب أن نشير بأن هنري ميشو الفنان التشكيلي أكثر شهرة، عالميا، من هنري ميشو الشاعر.
»الحبّ والشرق» فصل آخر يتطرق فيه الكاتب للعلاقة التي ربطت بين ميشو والشرق، الشرق هنا هو الشرق البوذي، ويرصد فيه التأثيرات والبصمات التي تركها الشرقُ على أعمال وآثار الشاعر. في هذا الفصل نعرف بأن الشاعر زار مراكش عدة مرات. أول زيارة إلى المدينة المغربية تعود إلى سنة 1963. «في سنة 1964 يكتب في رسالة إلى بيرتولي Bertelé: «رقة.. شمسُ الغبطة. أعيش الرباط الذي لا يُصدَّقُ، والذي لا ينقطعُ. آسيا تسكن امرأةَ الحُلم. كمالٌ، طاويّة»».(180) هذه الزيارات أوحت له بنصوص جميلة من بينها: «في الوقت الذي أتأمل فيه وجهَهَا الرسولَ/انتفختْ أعماقُ صدري مثل شراع./ (...)/ أُخْطَبُ من جديد للينابيع والهضاب/أُخْطَبُ للطبيعة الزكية، الشابّة، الناعمة/ولكن المتعدِّدَ مع واحدةْ يكون خاضعاً/(...)/معرفتي الآن تمتلك مُرْضِعاتٍ عديدات/معها أهبطُ نهر الشرق الأقصى/الطاو، هي تعرفه ولادةً،/دفعتُ باب الأٌلْفة/أخوضُ شواطئ جديدة/أخوض، دونما انقطاع، شواطئ جديدة.»(180)
الكتاب موثق بمعلومات وافرة عن هذا الشاعر الكبير. ومما يمنح للكتاب أهمية استثنائية هو كون المؤلف من أكبر المتخصصين في عمل الشاعر، وهو بالمناسبة أيضا شاعرٌ هامّ، باعتراف ميشو نفسه. في فصل يحمل عنوان «نحو الشِّعْر» يتطرق فيه الكاتب لمسألة «البحث الأنطولوجي» التي تَرِدُ بقوة لدى ريلكه وكافكا وبيسوا، ويرى بأنه يتوجب أن «نضيف إلى هؤلاء، ميشو، الذي ينتمي إلى جيل لاحق. لقد عوَّدَنَا مُنظِّرُو اليوم على أن يروا في الإنتاجات الأدبية «نصوصا» من دون تمييز. إن وحي وإلهام ميشو لا يستجيبُ لأدنى اهتمام بالـشكل، لا في مجموع كلّ «كِتاب» ولا في تفاصيل كل «نصّ». إن ما يعطي الوحدةَ لكلّ مكتوبٍ هو ما يُطلِقُ عليه بنفسه «الشعور الحاملُ». إن ما يعطي الوحدة لكل كِتَاب هو نفس «البحث الأنطولوجي»»(232-233)
الكتابُ طريفٌ وفيه أفكار طريفة يدافع عنها الكاتب، وتستحق أن تُناقَش في واقعنا الأدبي العربي. فهو يكتب: «ميشو ليس شاعراً. إنه يَصيرُهُ، وإنه لم يتوقف أبدا عن أن يصير شاعرا. إنه(يُوجدُ) في المستقبل، ربما، أكبر مما هو في الحاضر؛ إنها، ربما، حالةُ كل الشعراء. ربما جوهرُ الشِّعْر هو أن يكون الشِّعْرُ «مسيرٌ نحو الكلام»، كي نستعيد قولة للفيلسوف هايدجر. الشِّعُر هو، ربما، القادمُ دوماً. القصيدة المكتوبةُ لا تتضمن الشِّعْرَ مثل كنز في خزنة. إنها الحركةُ والإشارةُ والنظامُ أو الصلاةُ، النداءُ الذي ينزَعُ إلى إظهار الشعرية وأخذ طيرانها. القصيدةُ هي فِعِل ولادةِ الشِّعْر، وليستْ انتهاءَهُ».(235) يبقى أن نشير إلى أن أسلوبَ الكِتاب سهلٌ وممتعٌ، وهو ما يدفع القارئ لقراءته والانتهاء منه دفعةً واحدة. وهو أيضا تمعن في طريقة كتابة البيوغرافيا، هذا الجنس الأدبي الذي لم يعثُرْ بعدُ على مستقَرٍّ هادئ في عالمنا العربي.
الكاتب: Robert Bréchon
عنوان الكتاب:
Henri Michaux
La poésie comme destin
Biographie
الناشر: Editions Aden
2005/Paris

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق