نَشيدٌ
جنائزيٌّ
فصل من رواية
التايلاندي "الطيف الأبيض"
سنيح
سانكسوك
Saneh Sangsuk
Live ? Our servants will do that for us-
Edmund Wilson, Axel's
Castle
إلى عبد الرحمن
بكَّار عاشِق الهنود الحُمْر الكبيرُ،
إلى
شموئيل شمعون ذات
يوم من أيام باريس المُمْطِرَة...
ترجمة محمد المزديوي
هُوَ
صَوت يَرِنّ في قِحْفِي، رنّة هذا الصوت القادم من أفق قَصِيّ حتّى أعلى رأسي،
مُتَلاَطِمٌ فوق حقول متصدّعة ومُغَطّاة بشظايا من الخراب إلى صَدْر قِحْفِي. هذا
الصوتُ الواهِن والأجشّ والواخِز. هذا الصوت يقول: "يجب أن تفعلَهُ".
هذا الصوت يقول: " الفجْرُ ما يزال بعيداً، ولهذا فعليك أن تفعله".
يتلاشى هذا الصوت أحياناً، ولكنه أحيانا واضحٌ، ويصبح، أكثر فأكثر، أكثر وضوحاً
على مرّ الليل. لأني لا أنام في الليل. لأنّ عقلي، في الليل، مُهْتاج وغامض.
لأنّي، في الليل، أَكُونُ أكثَرَ يقظةً. ولهذا قرَّرتُ أن أعترف، بسرعةٍ. فَلاَ
خَيَار عندي. ربّما أنتِ لا تفهمين، ولكنّكِ لو كنتِ أنا لَفَهِمْتِ. فمن الضروري
أن أقوم بهذا الاعتراف. هذا الصوت يتكلّم دونما توقف، ويرفُضُ أن يمَّحي. الزمن
يمرّ، وما زال يمرّ ويَمرّ دائما. وأنا لا أدري ماذا أفعلُ بالزمن. إنّ الزَّمنَ
معدودٌ لَنَا. ولا أدري كَمْ يَتبقّى لي من الزمن، لأعيش في هذا العالَم. أنا
وَهِنٌ. لقد قرّرتُ أن أعترف. هبط الليل. والظلام عمّ المكان. الليل أرخى خيوطَه
هنا. الظلام والبرد والهدوء يعمّ المكان. لقد هبط الظلامُ والهدوءُ بسرعة، ولكنّ
البرد ما زال موجودا، هنا، وَقَارِسٌ، ولكنه الآنَ قارسٌ جدا، وكلَّما تقدّم الليل
كلَّمَا ازدَادَ البرْدُ شِدَّةً. الوقتُ تَجَاوَزَ الثامنة، لا توجد كهرباء
فاضطررتُ لإشعال مصباح. الحال هنا ليس كما "بانكوك". فنحن، هنا، في
قريةٍ من الشمال، مَعْزُولِينَ، وبَعِيدِينَ عنْ كُلِّ النّاس. المنزل الذي
أتَوَاجَدُ فيه هو منزلٌ مهجورٌ قريبٌ من موقع إحراق الجُثث، [8] وبعيدٌ جدا من
باقي منازل القرية. إنه منزل يليق بِي بِشكلٍ كامل- أو على الأقلّ هذا ما أُحِسّ
بِهِ، ولا أعرف لماذا. منزلٌ خَرِبٌ وكله مُهَدَّمٌ، أنا الذي أعيشُ حياةً
خَرِبَةً وكلها مُهَدَّمَة. لقد قرّرتُ أن أعترفَ. لقد انتهى بي الأمرُ إلى مضاجعة
"كْوَانْ"- "كْوَانْ"، صديقَتَكِ الكبيرة. لقد مرّت، فقط،
أربع ساعات، من الآن، ضاجَعْتُهَا ثم رافقْتُهَا مشياً إلى القرية، لأنّها تركتْ،
هناك، شاحنَتَها الصغيرة، ثمّ عدتُ إلى منزلي ونمتُ، وها أنا قد استيقظتُ للتوّ.
لقد أدّى بي الأمر إلى أن أنام أكثر من ثلاثة ساعات، ولكن، هنا أنا يَقِظٌ من
جديد، وجهاً لِوَجْهٍ أمامَ ليلةٍ لا تنتهي، ليلة من دون نومٍ، ليلة من الخوف ومن
العذاب والوجع، ليلة شبيهة بِكُلِّ الليالي. ولكنْ، رَغْمَ كُلِّ شيءٍ، فإنّ
الليلَ هو ما يليق، بشل أفضل، بالنسبة لإنسانٍ من شاكلتي-على الأقلّ، هذا ما
أَشْعُرُ بِهِ، ولا أعْرِفُ السَّبَبَ. مرّت ثلاثة أشهر من دون أن أقوم بِشَيءٍ
لائِقٍ. فأنا أنامُ في النهار؛ وفي الليل أظَلُّ مستلقياً بعينين مفتوحتين في
الظلام أو في ضوء المصباح الشّحيح كما هو حالي في هذه اللحظة، وفي النهار كما في
الليل، لا أَقُومُ بِأَيّ شيءٍ لائِقٍ. فأي يوم أُوجَدُ فيه الآن؟ أعرف، فقط، أننا
في نهاية شهر فبراير/شباط السادس والعشرين أو السابع والعشرين من شهر فبراير.
رِيحُ الشَّمال تَهُبُّ بِقُوِّة والهواء متجمّد، كما هو طبيعيٌّ بالنسبة لِلَيْلةٍ
في نهاية هذا الفصل البارد. وهذا هو سَهَري مع الأموات. لقَدْ أَخذْتُ القرارَ، يا
"كانكسادان". أتحدَّثُ إليكِ كَإِنْسانٍ مَيِّتٍ. لقد جَهَّزْتُ جنازتِي
الخاصّة، بِهُدُوءٍ وبِبَساطة، دون أيّ احتفاليّة. لقد مُتّ بِهُدوءٍ وبَسَاطَةٍ
وبدون احتفالية. حَضَرَ بعضُ الأشخاص لِحُضور جنازتي. لقد كُنْتِ مِن بين الحضور.
كانت أجواءُ الجنازة فريدةً. لم تكن طقوسٌ دينِيّةٌ. ما كان عليّ أن أُضاجِع
"كْوَانْ"، أعرف هذا، ولكن اسْتَبَدَّتْ بِيَ الرَّغبةُ. كنتُ أعرفُ
أنني إنْ ضاجَعْتُهَا، فإنني سَأُصْبِحُ حزيناً وتَائِهاً وقَلِقاً وممتلِئاً
بالعار- ممتلئاً بالعار لأني لستُ رَجُلاً يستحقُّ مُضَاجَعَتَهَا، ممتلئاً بالعار
لأني كذبتُ عليها، متلئا بالعار لأني، في الحقيقة، لا أُحِبُّهَا، ولكني تصنّعتُ
ذلك، وتعاملتُ معها بشكلٍ جيِّدٍ كيْ تَقْبَل مضاجَعَتِي. ولكن سينتهي بها الأمر إلى
أن تعرف الحقيقة، سَتَخُورُ قِوَاهَا، وستكونُ متأسّفةً وخائبة وفي يوم أو في آخَر
وفي ليلة أو في أخرى أو في لحظة أو في أخرى حينما ستتذكّر هذه القصّة ستكون حزينة
وتائهة وقلقة ومليئة بالعار. لقد نمتُ، خلال فترة طويلة، رَغْم كُلِّ شَيء، وها قد
استيقظتُ للتوّ. أُحِبّ أن يكون كُلُّ استيقاظ لي [9] مِثْلَ يقظة مولود جديد
يكتشف العالَم. أتمنى أن يَكونَ كلُّ استيقاظ لي وِلاَدَةً جديدةً، لأني لم أفْعَل
في السابق سوى النوم في بطن أمّي، والتكوّر في رَحِمِ الجهل. لم أَكُنْ أُريد أن
أستيقظ لأَجِدَ نفسي وجها لوجه أمام كل أصناف الذكريات التي تطوف في الظلام حول
المكان مثل جماعة من الذئاب، العين برّاقة وشِفَاه مثنية تُزمْجِر بِخُبث
مُتَعَمَّد. أُحِبُّكِ. مرحبا بكِ في جنازتي. ألا تَرَيْنَ هنا، إنّه أنا،
جُثَّتِي المليئة بحيوية مُصطَنَعَة، ثرثارة بِمَرَحٍ تكلُّفيّ. أُحِبّكِ. لقد مرّ
زمن طويلٌ وأنا أفكر في كل الليالي "أن هذه الليلة هي ليلتي الأخيرة. ولكن
حتى ولو أني أفكر في هذا، منذ فترة بعيدة، فها أنتِ تَرَيْنَ أَنَّه كان عليَّ أن
أُضاجِع "كوان". وتَصَادَفَ أنّ "كوان" إنسانة طيّبة، إمرأة
كما يجب، وليستْ مُغامِرَة جنس. وأنا لا أريد أن أسبب متاعب للناس الجيدين. فإذا
تسبَّبْتُ في مشاكل للناس الطَّيِّبِين، فإنّ عدمَ النوم سيتسلّط عليّ زيادةً. لقد
قدمتْ كثيراً من المرّات لرؤيتي هنا، ولكنها قالت لي إنها لن تَقْدِمَ غداً. قالت
لي إنها ستتركني وحيداً، وحيداً أمام أشغالي في الكتابة. أَلاَ تُلاَحِظِينَ؟
إنّها لا تشكّ في شيء. فهي ما زالَتْ تَأْمُل في أن أواصل الكتابة. وأنتِ أيضاً
تَتَمَنَّيْن، دون شكّ، أن أُكَرِّس نفسي لأشغالي في الكتابة. دعيني أقول لكِ،
حالاً، إنّه طلبٌ جَلَلٌ. وأنتِ، بدون شكّ، تُؤاخِذِينَنِي على بَحْثِي عن
المتاعب. لقد ضاجعتُ "كوان" بالرغم من أنّ موتَ "إيتّي" كان
ما زالَ حديثَ العهد. وبدون شكّ، هل تُريدين معرفة التفاصيل عن انتحار
"إِيتّي بُووَادُونْ"؟ ولكن لن نتحدث عن هذا-أو على الأقلّ الآن؛ ربّما
سنتحدث عن الموضوع لاَحِقاً أو ربّما سوف أحْتفظُ بالسرّ وأحمله معي في النيران.
لَمْ أَغْتَصِبْ "كْوَان"، هَلْ أنتِ متفقة؟ لَمْ أَغْتَصِبْهَا، ولم
أَلْتَجِئْ إلى أيّة حيلة. هي التي منحتْ نفسَهَا لي؛ ربما أحسّتْ بعزلةٍ،
أتصوّرُ. كنتُ قد عدتُ، للتوّ، من بانكوك، وكانت عندي أشياء كثيرة لأحكيها لها،
وكان عندي كثيرٌ من الكتب لإعارتها وكثير من الأسطوانات المهمة لأُسْمِعَهَا
إيَّاها. لِذا أصبحنا، بسرعةٍ، حميميَيْن. والحقّ يُقال، لو أنَّكِ قلتِ لها
إنَّني كنتُ عشيقاً لكِ، فمن دون شكّ، ما كانتْ لِتَجْرُؤَ على التقرب مني؛
ولَكَانتْ حَرِصَتْ على ترك مسافاتٍ بيننا. ولكن، ها أنتِ لن تريدي أن تقولي لها
الحقيقة بِنفسِكِ. بل على العكس، قلتِ لها بأنني وأنتِ لسنا سوى أصدقاء، وبأنه لا
يوجد شيء جِدّيٌّ [صفحة 10] بيننا، ثم أَضَفْتِ، أيضاً، بأنَّكِ تَقْلَقِينَ عليَّ
بِسَبَبِ تَعَرُّضِي لِصَدَمَات بسيكولوجية قاسية. وطلبتِ منها أن تعتني بي
جيّداً. ألَيْسَ هذا صحيحا؟ ألَيْسَ هذا ما حدث؟ فأَنَا، عبر مزاجي، إنسانٌ
رومانطيقي. وهكذا أصبحتْ من مِلْكِي، emballez c'est pesé.
ولم يكن يُضايِقُهَا أن أكونَ كاتباً رديئاً بدون أموال. فقد كان مُرتَّبُها
كَمُتَرجِمَة في...USAID أكثرُ
من مُريحٍ، إلى درجة أنّها لم تكن تعرف ما تَفْعَلُهُ بِأموالِهَا. فَالمدينةُ،
هنا صغيرةٌ، ولا توجدُ قاعات سينما ولا مسارح ولا قاعات إعلان ولا غاليريهات
تجارية مثلما هو الشأن في "بانكوك". فهذا المنزل المُقْفِرُ وسط بستان
فواكه، إشْتَرَتْهُ بأموالها الخاصّة وترَكَتْهُ كما هو- والحقّ يُقالُ إنّ الأرضيةَ
وحدَهَا كانت تهمّها، ولكنّ هذا المنزلَ المسكون بالأرواح كان يوجد فيها ولم تكن
قد اتَّخَذَتْ، بعدُ، قراراً بهدمه. ولم تكن النّدبة الموجودة على وجهي
تُضايِقُها، ولكنْ كانت تُضايِقُكِ أنتِ، فقد كُنتِ تَحْبِسينَ أنفاسَكِ كلّما
لَمَحْتِهَا. ولم يكن هذا هو حال "كْوَانْ". فقد وَصَلَ بها الأمر إلى
حدّ تقبيلِهَا. بل وسألتني كيف حدث لي هذا الجُرحُ الدميمُ. قلتُ لها إنّه ليس
علينا أن نتحَدَّثَ عنه- أو على الأقلّ ليس الآن أو ربّما سأحْتفِظُ بِسِرِّهِ
وأحمله معي وسط النيران. لم أَقُلْ إننا كنّا، أنتِ وأنا، في الماضي عشيقَيْن،
وإننا مارسْنَا الحُبَّ آلاف المرّات. لم أكْشِفْ شيئاً من كلّ هذا. لقد احتفظْتُ
بالسرّ. ولا يوجد سوانا من يعرف أننا مَارَسْنَا الحُبَّ آلافَ المرّات. سألَتْنِي
"كوان" إن كنتُ أتجرّأُ على الزواج معها... العيش معاً... والتعاون في
الشغل... إنها تملك طريقةً في الحديث المُباشِر والبريء، ولكن بِأَثَر من التخيّل
أيضا- تخيل إمرأة عاشقة. حينما سألَتْنِي هذا، كُنَّا مُتَمدِّدَيْن عارِيَيْن تحت
نفس الغطاء. لَمْ أَجْرُؤْ على أن أقول لها: لا. فالتلفّظُ بِـ: لا، كان سيكسِّرُ
البهاء. مغادرة هذا المنزل المهجور والذهاب للعيش معها في مقرّ إقامتها... إنّها
تتسرّع بشدّة. إنّها لا تعرفني جيدا. كانت بعيدةً جِدّاً مِنْ أن تَشُكَّ في أنني
سأهرُبُ حالما يروق لي ذلك. لا تعبسي، يا حبيبتي. هَيَّا، تَمَالَكِي نفسَكِ.
إنّها جنازتي، على كلّ حالٍ، وأنتِ ضيفة شرف في جنازتي. ولكنها لم تَكُنْ تعرفني
إلاّ قليلا، وأُوشِكُ أن أقول إنها لا تعرفني على الإطلاق. كانت تعتقد، فقط، أنني
شخصٌ غريب الأطوار، متمتِّعٌ بصِحّة عقلية خارقة للعادة. يَا لهَاَ من غبيّة! [11]
إنّ النساءَ جنسٌ مركزيٌّ، ولكنهنّ غبيّاتٌ بشكل كامل. إنّ الحُبَّ لا يُعْمِي فقط،
إنّه يغطي الوجه بحبّاتٍ. إنّ ممارسة الحُبّ هو مُهَدِّئٌ جيّد، ولكنّ بمجرد ما أن
ننتهي من ممارسة الحب حتى يَتَولَّد الإرهاقُ والحُزنُ. إنه رائعٌ، ولكنه حزينٌ
أيضاً. ظهرتْ أُمّي في منامي منذ عدة أيام. أُمّي ماتت منذ فترة طويلة. ومرّ
زمن طويل ولم أحْلُمْ بِهَا، وفي الحلم قالت لي إنها ستكون متأسّفةً إذا
ضاجَعْتُ "كوان" على الرغم من أنها لم تَعْرِفْهَا أبداً. لم تقل لي
أُمّي، هذه الأشياء، بالكلمات. لقد عبّرت لي عن هذا بالصمت، فأمّي أتتْ من قَلْبِ
الصمت. إكتفتْ بإلقاءِ نظرةٍ معادية وحزينة وحَقُودَة عليَّ. كانت أُمّي
تُمْسِك، في الحلم، بِإكليلٍ من الياسمين الأبيض قادِم من العالَم الآخَر
ومَدَّتْهُ إليَّ كي أَضَعَهُ حول عنقي، ولكنّي ألقيتُ نَظَرِي في أعماق نظرها،
لَمْلَمْتُ عزيمتي وحرّكتُ رأسي علامة على رفْضٍ مطلق، لأني كنتُ أعرفُ أنّ
تَسَلُّمَ الإكليل وتمريرَهُ حول العُنُق معناهُ قبولُ أن أَلْقَى حَتْفِي.
فانصرفتْ أُمّي المُتَهَيِّجَةُ صامتةً كما جاءتْ. لقد سَكَن هذا الحُلْمُ عقلي
خلال فترة طويلة وَحَرَمَنِي من النوم. أُحِبّ أن أعود إلى نومي بِسرعة، وأنام حتى
الفجر. ربما في هذه الليلة سألتجئ إلى مُنَوِّمَات. الليلة، هنا، مُرْعِبَةٌ.
وبالنسبة لي، فإنّ كلَّ الليالي مُرْعِبَةٌ في أيّ مكان، ولكنّ الليالي في هذا
المنزل المهجور هي أكثرُ رعباً. إنّ مُنَوِّماً قويّاً، ربّما، هو أفضلُ مَخْرَج.
أنا أَكْرَهُ المُنَوِّمَات البربيتورية والمسكِّنة للألم والمانعة للعفونة وغيرها.
لا أُريدُها أن تأتي لِتَنْدَسَّ في حياتي. ولكنّ في المرة الأخيرة التّي ذهبتُ
فيها إلى المدينة، حكيتُ كثيراً من الأخبار والتلفيقات لأحد الصيادلة كي يسلّمني
كلّ المُنوِّمَات التي كنتُ في حاجة إليها. عقارات مُحَرَّمَة... إذا ما حدث أن
متُّ، فلا تتكَبَّدي أيّ مصروف، أَحْرِقِي جَسَدي بدون فخفخة، أَحْرِقِي جثماني
الذي لن يأتي، أبداً، أَحَدٌ من أقاربي للمُطَالَبَة به. وهكذا سَأُواصِلُ
التسبُّبَ لكِ في أتعاب ومشاكل. أعرِفُ أنّني أُثيرُ تقزُّزَكِ، وأُنَكِّدُ عيشكِ
وأُثير لديكِ الصَّدْمَة وأُثيرُ شَفَقَتَكِ. وإذا ما حدث لي أن أُكلِّمَكِ، فلن
يكون أبدا سوى عن طريق الخَوَاطِرِ. توجد كثيرٌ من الأشياء كنتُ أريدُ أن أحكيها
لكِ وأن أعترف لكِ بها وأن أفسرِّهَا لكِ- ولم أَعُدْ قادراً، من الان
فصاعداً، أن أرْحَلَ، قطُّ-. وما زالت توجد أشياءُ أخرى لا أريدُ أن أَقُصَّهَا
ولا أريد أن أن أعترف بها ولا أريد أن أفسِّرَهَا. [12] لم أعد قادراً، من الآن
فصاعداً، أن أُغَادِرَ. الموتُ تتحرَّكُ من حولي. الجزيئات الصغيرةُ من القلق
تَتَطَايَرُ حوالي. الحياة تحرِّكُ ومضةً خافتة مثل مصباحٍ مُقرِف وقَذِر في
قِحْفِي. أُحِبُّكِ. أعرف أنني أحبكِ. أعرفُ أن الموت، في الظلام والصمت،
يُثَبّتني بنظره- أحيانا يتنقَّلُ الموتُ، وأحياناً يثبُتُ الموت في مكانه،
وأحيانا يتخَفَّى ويختبئ وأحيانا يصرخ في العزلة مثلما يصرخ أبو الهول للموت في
الصحراء، وأحيانا يطيرُ الموتُ مثل سِرْبٍ من الفراشات- ولكنّ الموتَ يُثَبِّتُنِي
النظر، دائما، ولا يَحِيدُ عني. المنزل العتيق المهجورُ وحْدَهُ، وسط بستانٍ
للفواكهِ مُهْمَلٍ منذ زمنٍ بعيد، وقد مرّت أكثر من ثلاثة شهور وأنا أعيش فيه
وحيداً، وأطبخُ فيها وأغسل فيها ثيابي الوسخة، أقرأً وأستمع إلى الموسيقى الحقّة
وأكتب، وأحاول استعادة قِوَايَ العقلية، وأُجْهِد نفسي لأقطع الطريق على
المُظَاهَرَة التي أتتْ لِتُهَيِّجَ الحيوان القابع فيَّ- وهكذا ضاجعتُ
"كْوَانْ"، صديقَتِكِ. لا أعرف منذ متى وأنتما تتعارفان. أعرف، فقط،
أنَّكُمَا اشتغلْتُمَا معاً في USAID.
أعرف فقط أنَّكِ هَرَبْتِ بعد أنْ أفلستِ في المكتب المركزي في بانكوك، بينما تمّ
إرسالُ "كوان" إلى عَيْنِ المكان، هُنَا من أجل مشروع صغير للريّ.
اشتغلتْ مترجمةً عند مهندس أمريكي عجوز، وَسَكَنَتْ، بصفة مجانية، في نِطاق
المشروع، منزلا صغيراً أبيض منعزلاً، يمنح مَنْظَراً يُشبِهُ خزّاناَ للماء. لقد
خُيِّلَ إليكَ، أنني مع مرور الوقت، أتنكَّسُ، مثل كلبٍ أصيلٍ جُنَّ في الشارع
بسبب التيه. ثمّ إنَّكِ اتصلتِ بِـ"كْوَانْ" كي تبحَثَ لي عن منزل
أستطيع إستئجَارَهُ، وَزَجَجْتِ بي في القطار الذي قادني إلى هذا المكان. في نهاية
السفرة، كانت "كوان" في انتظاري. جاءت باستقامة نحوي، وحيَّتْنِي كما لو
أنها كانت تعرفني منذ زمان. لقد شرحتِ لها، دون شكّ، وبالتفاصيل في رسالتكِ أنّ
الشخصَ الذي يبدو عليه أنه بائسٌ وحَزينٌ ومُتَقَلِّبٌ وقَذِرٌ هو أنا بِنَدْبَة
على الوجه يمكن اكتشافُها بِسُهولَةٍ. رافَقَتْنِي إلى المنزل المُؤَجَّر، ولكن
حين علمتُ أنها تمتلكُ منزلا مهجوراً وسط بُستان فواكه مقفر على مبعدة ما يقارب
عشرة كيلومترات عن المدينة، فكَّرْتُ في توفير بعض الأموال وطلبتُ منها، بتواضعٍ،
أن تسمح لي بالسكن في هذا المنزل، إنْ كانت لا تَجِدُ مانِعاً وإذا كان هذا لا
يُضايِقُهَا، وبهذه الطريقة قدمتُ هنا كما كانت أُمْنِيَتِي. والنتيجة هي أنه
بِغَضِّ النظر عمّا وَفَّرْتُهُ من أموال، فَقَدْ وجدت في المنزل الرُّعْبَ. لم
أبعثْ لكِ أبداً أي رسالة.[13] إكتفَيْتُ بمكاتبتكِ مرّات عديدة في رأسي. ربّما كنتِ
تَعتَقِدِين أنني كنت أقطن في المنزل المُؤَجَّر بالمدينة. وأنا، بنفسي، لم أَكُنْ
أتصوّر أن آتي لأقطُنَ في هذا المنزل المسكون بالأرواح. ولَكِنّي إذا كنتُ قدِمْتُ
للسكن هنا، فبسببٍ من المزاج الرومانطيقي الذي استبدّ بي فجأةً. هذا الكوخ السيّء
مُرْعِبٌ، ولا أستطيع أن أشتغل فيه. أنا الشُّوَيْعِر التَّافِه، أنا الصَّريحُ
جِدّاً مع نفسي، أنا الخبيرُ في الفُرُوج من كلّ الأنواع والأشكال. كيف؟ ولكنها هي
التي جَعَلَتْنِي أهتمّ بها! بِبُطْء، وبطريقة غير مباشرة، جعلتني أهتمّ بها.
وطبعاً، حِينَهَا إنْشَغَلْتُ بها. إنّ هذا يدلّ على أنني لستُ معمولاً من خشب.
فلماذا إذنْ؟ بِقَدْر ما جعلَتْنِي أنشغِلُ بها، بهذه الطريقة، تُريدِين أن أدير
لها ظَهْري، وأُطلِقَ ساقَيَّ للريح؟ لا تغضبي. أنا بنفسي، تصنَّعْتُ أَخْذَ
الأشياء كما تأتي، بينما كنتُ أحسّ بالعار وكنتُ أراني مُذنِباً. لقد نامتْ
"إيتّي" للتوّ. أيتها النساء! أيتها النساء! أيتها النساء! النساء
اللواتي مُتْنَ والنساء اللَّواتي مَا زِلْنَ على قيد الحياة! بل حدث لي أن أنادي،
مرّات عديدة، على "كْوانْ إيتّي". لم أَعُدْ، قطّ، أستطيع الرحيل، يا
"كانكسدان". كلّ ما حدثَ، هو كثيرٌ عليّ! ولا أتوقف عن ممارسة كلّ ما هو
مُحَرَّمٌ وممنوعٌ. وآخِرُ جُرْم ارتكبْتُه هو مضاجعةُ "كوان". وحاضراً،
لم أعد قادراً على الرحيل. أنا من كنتُ أحلم بنفسي وأراني صارماً وعنيداً
ورِواقِياً دون منازع، أنا من كنتُ أَحْلُمُنِي قادراً على مواجهة وتحدي مَطَرٍ من
النيازك والرُّجُم، ها أنا، من الآن فَصَاعِداً، تَعِبٌ وخامِلٌ. ها أَنذا شختُ،
فجأةً، عشرَ سنَوَاتٍ. لم أعد، قط، قادرا على الرحيل. لقد حان الأوانُ أن أَضَعَ
حدّاً لهذه الحالة من الإنحلال المستمرّ. شَعَر رأسي أصبحَ كتلة كثّة وخشنة مثل
طحالب في عمق خزّان ماء آسِنٍ. إنّ لحيتي وشاربيَّ كتلةٌ كَثَّة وخشنة مثل طحالب
في عمق خزّان ماء آسِن. وتَجَاعيد الكآبة والقلق أخاديدُ عميقةٌ وظاهرةٌ على جبهتي
وعلى جوانب عينيَّ. والنُّدْبَة التي تتمدَّدُ من عينِي اليسرى عبر وَجْنَتِي إلى
الفكّ، تُرى، شيئاً فشيئاً، بشكل واضح. سَتَجِدِينَ صعوبة في التعرّف عليّ. وحتى
"دِينْ" نفسُهُ وَجَدَ صعوبة في التعرف عليَّ. قال لي، في المرة الأخيرة
التي رأيتُهٌ فيها، بأنه لا يستطيع التعرف عليّ. يَا لَهُ من لقاء سيّء، وجهاً
لِوَجْهٍ بينه وبيني-اللقاء بين شاعر فاشل ومُحارِب مُعَاق! لقد مرّت سنوات عديدة،
لم نَلْتَقِ فيها، ولكنّه، بدون شكّ، ما كان لِيَعْتَقِدَ، أبداً، أنني سأترُكُ
حالي على هذه الدرجة. هل ما زِلتِ تتذَكَّرِينَهُ؟[14] أنتِ لمْ تلتقي به أبداً،
ولكني حدَّثْتُكِ عنه أحيانا. حينما كنتُ تركْتُهُ، كان ما يزال شابّاً، وربما كان
يأْمُلُ أن يَجِدَنِي في أحسن الظروف- على كلّ حال، ليس ككتلة الأشلاء البشرية
هاته. ولكنه، هو بدوره، في حالة أكثر تلفاً وخراباً. "دِينْ
تْشَاتِيَاوَنْ"... لقد دخل في حياتي كَحُلُم، وأنا من كل أعماق وَعْيِي
الباطني، كنتُ أُريد أن يخرج من حياتي كَحُلُم أيضاً. لقد مرّت سنواتٌ وأنا
أُحاوِلُ طردَهُ من أفكاري. أقول لنفسي إنه توجد لديّ كثيرٌ من الأشياء تحتاج إلى
مراقبة وحماية وتنظيم. لم أتوقف عن طرده، ببرودة دَم، ولكنه لم يتوقف عن انتظاري.
فأنا أَمَلُهُ! فهو لا يعرف أنني لا أستحقُّ أن أُنْتَظَرَ. وأنا لا أملك شيئاً
يُبرِّرُ أَمَلَ كائنٍ مَا- شخصٌ تافِه وسافل وفاسِق وبغيضٌ، قَذِر بدون مزايا لا
يستَحِقُّ سوى النعوت السلبية. أُحِسّ بالعار. لا أريدُ لقاءَهُ. ولا أعرف
أين يمكنني الاختباء. وهو نفسه، الذي يمتلك الكثير من الأشياء التي سيرويها عليّ
ويكشفها لي، يتوسّل ويُهدِّد كي أُنفِّذَ ما يريدُهُ. وما يريدُ، هو أن أعود إلى
"بْريكْنَامْدِينْغْ"- "بريكنامْدينغ"، قرية ملعونة!
"بريكْنامْدينغْ" حيث كان مسقط رأسي. سيتحدث عن الأمر كما لو كان الرغبة
الأخيرة لشخص يحتضرُ. حين رؤيته، أُحِسُّنِي كما لو كنتُ مُرغَماً على تسديد
دَيْنٍ، بينما لا أملك فلساً. وفي الحقيقة، لديه دينٌ عليَّ. وهو ليس دَيْناً من
المال، ولكن دَيْناً من العرفان بالجميل. وهو دَيْن ضخمُ. لقد تجنّبْتُ، دائماً،
أن أتَذَكَّرَ "بريكنامدينغ"، ومع ذلك،
فَـ"بريكنامْدينْغْ"، عدتُ منها ليس أكثر من ثمانية أيام، وكان الأمرُ،
على وجه الدقّة، كما تخيّلتُهُ دائماً، وهو أن العودة إلى
"بريكنامْديمنْغْ" تُؤزِّمُ وتُفَاقِمُ الأشياء. إنّه لا يُدْرِكُ أنّه
يدفعني إلى دوّامة الجنون. ولا يُدرِكُ أن العودة إلى "بريكنامْدينْغْ"
تُرغِمُنِي على التهام مسكنات الألم ومضادّ الحيويّات ومُهدّئات وبربيتوريّات،
أكثر مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى. وحتّى في اللَّحظة الحاضرة، لا أجرؤ حتى تخيُّل كيف
قضى أيّامَهُ ولَيالِيهِ منذ أنْ فَقَدَ ساقَهُ. لا أجرُؤُ حتّى على تخيّل كيف
تَحَدّى إعصار الأحاسيس الذي انهار عليه، على حِينِ غِرَّة. وأنا، أيضاً، عندي
كثيرٌ من الأشياء أطالبه بها، حين أمتلك حرية كافية للقيام بهذا، وحين أمتلك
المعنويات للقيام بهذا. تجربة الحرب.. يَحْدُثُ لي، أحياناً، أن أمتلك الدعابة
للرّغبة في معرفة الكثير عن هذه الأشياء، عن الدمّ والموت والشّجاعة الغبيّة،
والإعتزازُ والشَّرَف الواهن،المعتلّ، والبطل المحكوم عليه [15] بالمقعد
المتحرِّك، البطل الذي يتوجّبُ عليه أن يتعلّم، من جديد، المشيَ بِسَاق صِنَاعيّة
وبِعُكّازَتَيْن عليهما عبارة: "صُنِعَ في تايلاندا"، والحرب التي
عَاشَهَا والتي خَرَجَ منها... إنّ حياتَهُ على النّقيض من حياتِكِ ومن حياتي. لقد
كان الوَصِيَّ عَلَيَّ في الماضي. كان مثل أخي الأكبر. لقد مَهَّدَ لي طَريقَ
المستقبل. إنه إنسانٌ جيِّدٌ، ولكنه عسكريٌّ حقيقيٌّ. في حقل أفكاره، يُهَيْمِنُ
حقلُ المعارك على كلّ مشهد آخَر، بكلّ ما يحمل من دم وموت وألغام وقبور ملغومة
وقُبور تحت أكفانٍ ثلاثية الألوان، بِصَداقاتِهِ الذكورية وحَفَلاتِهِ في الشراب
في المِنْطَقَة الحُرَّة، وأَمَاكِن التسلية والترويح عن النَّفْس والمُكلَّفَات
بالخَدَمَات الجنسيّة ومُشاجراته التي تتَكَسَّر فيه كل الأشياء. كل هذا على
النّقيض من طريقتك في العيش ومن طريقتي أنا. "فيتنام"، "لاوس"،
حدود الجنوب... مَشَاهِدُ الخَرَابِ الكبير حِينَ سقطتْ "لونغ شينغ" Long Cheng، حين تَطَلَّبَ الأمرُ إخلاءَ سَهْل "لِيجار""
"Jarres... ومَواخير "فْيِيسْيَانْ"[1] Vientiane...
مَشَاهِد المعارك في حقل ذكرياته... توجد شياطين تحومُ، شياطين المُحاربِين،
"الإسكندر"، "قيصر" و"نابليون"،
"باتون" و"ماك أَرْثِر" و"روميل". آه أيها الجنود!
أيّها الجنود! أيّها الجنود! أيّتها الأغنام! أيّتها الأغنام! أيتّها الأغنام! إنّ
هذه الأشياء بعيدةٌ جدّا عنّي، بقدر بُعْد النجوم في أقصى طرف في السماء. إنّه
معوَّقٌ، الآن. يتوجب عليه أن يتعلّم، من جديد، أن يتمشى على ساق صناعية وعلى
عكّازَتَين تحملان عبارة: "صُنِعَ في تايلاندا". فجأةً، أًحِسّني مثل
أفعى دَهَسَتْ عمُودَهَا الفقريَّ ضَرْبَةُ عصا فجائيّةٌ. الموتُ أفْضَلُ من العيش
في الخَسَارَة. سيكونُ من الأفضل الموتُ مرَّة واحدةً إلى الأبد. المرأة التي يُحِبُّ
هَجَرَتْهُ. ومن دون شكّ، فإنه يكتفي بالعادة السريّة. إنّه شخصية هامّة في حياتي.
حدث لي أحياناً أنني فكَّرْتُ في أنه يتوجب عليه أن ينصرف للكتابة. إنه عسكريٌّ،
ولكنه يَعشق القراءة. لا يمكن القول إنه يتوفر على ذوق في مادة الأدب، ولكنه يقرأ.
يقرأ بشكل جيد. ولكنه ليس متأكّداً من أن الذين يقرأون، كثيراً، أو الذين يمتلكون
ذوْقَ الأدب يكتبون بشكل جيد. وأنتِ أيضاً شخصية مهمة في حياتي. وإذا قلتُ هذا،
فلأنَّكِ تعشقين قراءة الروايات وتقرئين بشكل كبير جدا، وهو ما يجعلكِ تعتقدين
أنَّكِ داهيةٌ جدّاً، بينما أنتِ، في الواقع، لست سوى كائن من الطّراز القديم
وحَسَّاس. أنتِ كائن جَيِّدٌ وغبيٌّ. حالياً، حالياً ففي الوقت الذي أُوجَدُ فيه
متمدِّداً ومُتَكوِّراً على نفسي مثل جَنِينٍ عجوز في منزل مهجور، أنتِ تُوجَدِينَ
في شقّة باذخة في بانكوك، العاصمة العالمية لليبيدو، [16]"سادُوم"
الأزمنة الحديثة، ربّما أنتِ منهمكةٌ في قراءة روايةٍ، بهدوءٍ. وهذه طريقة
متحضِّرَةٌ بشكل عالٍ في الاستراحة. أو ربّما أنتِ منهمكةٌ في قراءة قصائد وأنْتِ
تُقْسِمينَ في سريّة "في يوم، من الأيام، أنا أيضاً، سأكتب قصائد."
ولكنّي أترجَّاكِ! مرحباً بِآخِر القصائد النسائيّة المكتوبة في هذا البلد. أنتِ تعرفين
أنه يتوجَّب عليكِ أن تكتبي. أنا أُحِبّ أن تكتبي. التفكيرُ هو خاصيّةُ الآلهة،
بينما الكتابة والحلم فهو خاصيّةُ الجواميس البلهاء. لقد توقفتُ عن الكتابة. لم
أعُدْ، قَطُّ، أُفَكِّرُ ولا أَحْلُمُ في تأليف عمل مكتوب. لقد تَسَاءَلْتُ آلافَ
المرّات عن ما يجعلُ ما نكتُبُهُ جيِّداً، وأخيراً عَثَرْتُ على الجواب، وهو
أنَّهُ الدمُّ والجنونُ والدَّناءةُ والموتُ- الدَّمُّ الثّقيلُ والجُنُونُ غَير
التّافِهِ، أبداً، والدّنَاءَة الأكثر سواداً وقَتَامَةً مثل فَهْدٍ في لُجِّ الليلِ،
مِثل سِرْبٍ من الغربان المُتَوَحِّدة في هُوَّة الجَّحِيم السحيقة، والموت الذي
يتسلّطُ على الكائن مثل شيطان لا يستطيع أيّ واحد من هُنُود "الشامان"shaman أن يَطرُدَهُ بالرُّقى والصلوات. إنّ ما يتوجَّبُ عليَّ
فِعْلُهُ، هو قَتْلُ شخصٍ مَا أو الانتحارُ. وحَسَبَ منْطق الواقِع، يتوجَّبُ
عليَّ قتلُ شخصٍ مَا أو الانتحارُ. ولكننا لا نتحدّثُ عن "دِينْ
تْشَاتِيَاوَنْ"، أو على الأقلّ، ليسَ الآِنَ. ولم يَعُدْ يتبقّى من ساقه
اليسرى سوى جَدَعَة(بقية عُضْو مبتور). ساقُهُ لن تَنْبُتَ من جديد...ساقُهُ هو...
إنها ليستْ ساقُ أَيٍّ كانَ، ليست سَاقكِ وليست ساقي أنا، إنها ساقُهُ هو، التي
لَنْ تَنْبُتَ. وهو ينتظر أن أعودَ لزيارَتِهِ. وبِاسْمِ الامتنان يتَوَجّب عليَّ
زيارته. باسم الامتنان، الذي يُطالِبُ به دائِماً، في صَمْتٍ، يَتَوَجَّبُ عَلَيَّ
أن أَعُودَ، حقيقةً، لِرُؤْيَتِهِ. وإزاء هذا الامتنان الغبيّ، لا أملك إلاّ
يَدَيَّ الفَارِغَتَيْن وَوَجْهِي الدَّميم من جرّاء العُبُوس والتَجَهُّم. يداي
تقومان بِحَركة كما لو أنها حركة من أجل تجنُّبِ الدخان الذي يتسرّب إلى عَيْنَيَّ
وأكتفي بالأنين مُتَمْتِماً: وَيْ، وَيْ... الكلماتُ تنقُصُنِي للتّعبير عن
أَلَمِي. إنّ أَنَّاتِي لا تُدَوِّي سوى في صدري. إنّها أنَّات
"بروميثيوس"، وهو يُراقِبُ طَيَران عُقْبَان في السماء. لا أعرف
لماذا أُحِسُّه بهذه الطريقة، ، غير أنّي أُحِسُّ بأنه التَّعبيرُ الذي يَلِيقُ
بي. أنا "بروميثيوس". أنا "بروميثيوس" مُقَيَّد إلى الأبد.
لهذا لن نتحَدَّثَ عن شؤون "تْشَاتِيَاوَنْ"، على الأقل في الوقت
الراهن، لأنه مَهْمَا حَدَثَ، فإنّ ساقَهُ لن تنمو من جديد. فالسَّاقُ ليستْ
ظُفْراً ولاَ زَغَبَ الوجه ولا شَعَرَ الرأس. إنّها ليست ساقكِ ولا ساقي أنا.
هُنَا يَعُمّ الظلامُ والبَرْدُ والسَّكينَةُ. خيطُ مَاءِ النّهر السريع
الحركة[17] له، في الأسفل، بَقْبَقَة خفيفةٌ وغيرُ منتظِمَة، وأحياناً مُغَطّى
بِصرير غِمْد(حافِظ الأجنحة في عدد من الحشرات) الحشرات وأزيز خَشِن لأَوْرَاقٍ
تَنْهالُ عليها بالسّوط رِيحُ الشَّمال. بَقَرةٌ تَخُورُ في ركنٍ مَا قَصِيِّ في
القرية، ويوجد أيضا صوتٌ غريبٌ يتدخّل. وهذا يُشْبِهُ صوت تنفُّس شخصٍ ما. تنفُّسَ
شخصٍ ما أو شيءٍ مَا. هل تسمعِينَهُ؟ الليلُ مُرْعِبٌ. قلتُ
لِـ"كْوَانْ" بأنني في حَالة ضِيق ولكنّ الأمرَ، إجْمَالاً، يمكنُ
تحمُّلُهُ. لم أَكُنْ أُرِيدُ أن تَضْحكَ عليَّ من وراء ظهري. قالت لي بأنني
أستطيع، دائماً الذهابَ للسكن في منزل الإيجار الذي اختارته من أجلي في البداية أو
أستطيع، أيضا، أن أنتقل إلى منزلها الذي حَصَلَتْ عليه في مشروع الريّ. لستُ أدري.
رغْمَ كلّ شيء فأنا أعشقُ الإقَامةَ وَحِيداً. ولكن لنتحدَّثْ قليلاً، لَوْ تعلّق
الأمرُ بِكِ، هل كنتِ لِتَتَجَرَّئي أن تعيشي، هنا، وحيدةً؟ قالت لي
"كْوَانْ" إنها لَنْ تَتَفَاجَأَ إذا ما ضاق صدري، فجأةً، لأنّي كنتُ
سأعْثُرُ على شيءٍ غير مألوف، حقيقةً. كثيرٌ من القرويين قالوا لي نفسَ الشيء.
وقبل أنْ أَسْكُن هنا، كان يُوجَدُ سَاحِرٌ من "الخْمِير". وفي اليوم
الذي وَصَلْتُ فيه، اكْتَفتْ "كوان" بِإيصَالِي إلى القرية، بِدُون شكّ
لأنها لَمْ تَكُنْ تعرفني كِفايةً، وأيضاً، لأنَّ شُغْلاً ينتظرها في المَكْتَب،
كما قالت لي. كان الوقتُ نهاية مَا بعد الظهيرة. ولم تَكُنْ راضيةً بما فيه
الكفاية، لأنها كانت تودُّ أن تَسْتَقْبِلَ أجنبيّاً، كما هو حالي، حسب الأصول.
قالت لي بأنه لا يوجد كهرباء. وحاولتْ ثَنْيِي باستخدام كلّ أنواع المنطق، ولكنّي
اكتفيتُ بالاستماع إليها دون أن أنبس بِبِنْت شفة. لا تضمّ القرية سوى ما يقارب
ثلاثين منزلاً، مُشَيَّدَة بحيث تبتعد إحداها عن الأخرى. والقرية بدورها تبْعُدُ،
ما يُقَارِب ثلاثة كيلومترات عن الطريق الرئيسية. والطريقُ الصلصالية التي تقود
إلى القرية مُرَجْرِجَةٌ جِدّاً. تُوجَد قطعانٌ من الأبقار وأسوارٌ من الخيزران
المحبوك وأقفاص دجاج وأُنَاسٌ أجْلاف كما هو الحال في القرى الأخرى من
بَوَادِينَا. ومن أول وهلة أعجبتْنِي القريةُ، ربّما لأنّي سئِمْتُ
"بانكوك"، وأحسستُ بالمتعة لتواجدي في وَسَط ريفيّ وخَشِن مثل هذا.
تتميّزُ "كوان" باللباقة. وكل من في القرية يعرفها. وحين انطلقتْ على
متن شاحِنَتِهَا الصغيرة المُتمايِلَة والمُفَرْقِعَة، بدأتُ أُحِسُّ إلى أيّ درجة
كنتُ غريباً في هذه الأمكنة. أنا الشخصُ القذِرُ ذو الشَعَر الطويلِ والقذِرِ
وكِيسُ الظَّهر القذِرُ على الكتف، ما الذي أتيتُ لأفْعَلَهُ في هذه المنطقة؟[18]
أبْدَى القرويّون وُدّاً نحوي، ولكنّ كِلاَبَ القرية طفِقَتْ تنبَحُ بِنَشَازٍ.
وفي المتجر الصغير في القرية كان ثمّة أربعة أو خمسة أشخاص يتبادلون أطراف الحديث.
وحين عَلِمُوا أنني قدمتُ للإقامة في القرية، طلب منّي أحدُهُمْ بِلَهْجَة الشمال
أن أشتري بَخُوراً وشموعاً طويلة قبل انصرافي لمنحها لِرُوحِ المكان حين وُصُولِي.
اكتفيتُ بالابتسام ناحيتهم. بادلوني الابتسامة. في مَخْرَج المدينة يُوجَد
المَذْبَحُ، الذي صُنِعَ بشكل متواضع وبسيط، تسقيفة تغطّي مساحة إسمنتيّة، دون أيّ
سُورٍ. ومنها تنْبَعِثُ رائحةُ دمّ قويَّةٌ. وهنا يشتغل مُشَطٍّ. وهو رجلٌ عادي،
ولكنّ مِهْنَتَهُ ليستْ مُبْتَذَلَةً. وما وراءها، الدرب الترابي والرملي
تَنْدَسُّ بين الحشائش والخمائل، وسأرى، عما قليل، المنزل المُنْتَصِب والمُرْعِب
والرّمادي بين الأشجار. وغير بعيد، خلف المنزل، يوجد مَوْقِعُ إحراق الجثث. ولم
يخبرني أحدٌ بوجود موقع إحراق الجثث، ولكني اكتشفتُ هذا لاحِقاً. هذا المنزل عتيق
جدا. يُمكن أن يُقَارِبَ عمرُهُ المائة سنة. ويوجد داخل بستان للفواكه من هكتارين
ونصف. ولم يكن الملاّك السابق للقطعة الأرضية وللمنزل شخصاً آخَر سوى زعيم القرية.
وكان يتوجَّبُ على "كْوَانْ" أن تنتقل، في كثير من الأحيان، في هذه النواحي،
وبِمَا أنَّها تَفَاهَمَتْ معه جيّداً، فقد بَاعَ لها القطعة الأرضية. بَاعَهَا
لأنه كان في حاجة ماسّة إلى الأموال. فهو يتوفّر على ممتلكات كثيرة. والاحتفاظ
بهذه القطعة الأرضية لا يَعُودُ عليه بشيء. وأحياناً، كان بعض الناس، مثل
مُمْتَلِك علوم الباطن، وهو من أصل "خْمير" وآخَرُون يطلبون الإذن
بالإقامة فيها مَجّاناً. هنا، أقطُنُ يا حبيبتي، وهنا تَتواجدُ روحي في نقاهة.
المنزل ينتظرني كما ينتظر حيوانٌ متوحّشٌ فريسَتَهُ. لديّ الانطباع بأنه حتى ولو
بَقيتُ هنا إلى نهاية أيامي، فإنّني لن أتعوَّدَ أبداً على هذه الحياة. والموتيفات
المنقوشة على خشبيات النوافذ وألواح التهوية غريبةٌ؛ إنها تُذَكِّرُ بالطّراز
التَّايلاندي (تَايْ يَايْ)thaï yaï.
الأرضيّة المَرِنَة التي تتحطّم وتنخلع وتهتزّ وتُحْدِث صريراً تحت أدنى خطوة، أو
أحياناً بسبب هبوب الرياح، مصنوعةٌ من خَشَبٍ ومن دُلْب هنديّ. والدعامات، أيضاً،
مصنوعة من الدُّلْب الهندي. على أحد الجوانب اختفى حائطٌ، ولكن تمّ تعويضُهُ
بقطعةٍ من الخيزران المحبوك، مُثَبَّتَةٍ، بِفظاظَةٍ، بِسِلْك شائكٍ صَدِئٍ.
وسُلَّمٌ غيرُ ثَابِت على شكل "نون لاتينية" N يصعد
بانْحِرَاف حتّى يَصِلَ إلى حدٍّ لا بَابَ بعدَهُ. والغبار يُغطّي كلَّ شيء. روائح
عُفونَة تتضوّع وتسبح في كل مكان- روائح [19] من كلّ أنواع سقط المتاع، رائحة
قِرْمِيد السّقف الأبيض والمُبَدَّد، صَدَأُ سلاسل حديديّة، طاولات عتيقة
مُتَخَلْخِلَة ذاتُ أدراج مليئة بالغبار وبالفضلات والبقايا، كراسي عتيقة عرجاء،
أوراق ميّتة وأجزاء من القِشْرَة، وأغطية قديمة رثّة، وأَفْرِشَة مُخَطَّطَة
تتقيّأُ مثل صديد جُرْحٍ، رائحة أنسجة العناكب التي تَتَهَدَّلُ في كلّ مكان،
روائح بِرَاز الكِلاَب وروائح بول الكِلاب... وعبثاً نظّفْتُ، فقد ظلّت هذه
الروائحُ راسخةً. فلا وسيلة للتخلُّص منها. نافذةٌ واسعة سعة ذراعي وطويلةٌ
ومُوَجَّهَة نحو الشَّمال. والثانية التي تنفتح على الغرب تسمح برؤية موقع إحراق
الجثث وجناح الموتى. والمنزل يَضُمّ طابَقَيْن. في الطابَق الأول يوجد مطبخ وحمّام
بينما يضمّ الطابق الثاني غرفةً واحِدَةً. وقد تمّ إغلاقُهُما بصفة نهائية. الباب
لم يكن لها مِصْرَاعٌ. وما عدا هذا، فإنّ الغُرفَةَ تُرِكَتْ فارغَةً وعارية. إنّ
هذه الغرفة تمتلك شيئاً مَا غامِضاً حتى في واضحة النهار، كما لو كانت قَلْبَ
نَحسٍ مُميت، كما لو أنّ هذا المكان تمّ استخدامُهُ لارتكاب جريمَةِ قَتْلٍ. لَمْ
أَلِجْ هذه الغرفة سوى مرتين أو ثلاثة مرات، مع أنني، في البداية، كنتُ أُفَكِّرُ
في جَعْلِهَا غُرفةَ نَوْمِي. وحول المنزل لا توجد سوى الأشجار من كلّ الأحجام.
أغصانٌ جريئة وعَساليج جسورة وشجاعة، وحتى الرؤوس الشاحبة والباهتة اللون تتسلّلُ
عبر شقوق وصدوع الأسوار. وتحت السقف يتعلّق تشابكٌ كثيفٌ لنباتات متسلّقة أجهل
أسماءَها، بعضها ميّتٌ، والبعضُ الآخَر ما زال حيّاً. شجرة دُلْب هنديّ نَمَت
مُتَّكئةً على الجانب الشرقي من المنزل، وحين أكون جالساً إلى طاولة الشغل، أنظُرُ
نحو الخارج، أرى جِذْعَهَا ومَفْرِقَ أغصانها الضخمين. يُمْكِن القول إنها شجرةُ
بدايات العالم. وأمّا أسفلُ الجذع فَهُوَ مُحَاطٌ بِقُمَاش زعفراني ذابِل
مُمَزَّق. وغير بعيدٍ ينتصِبُ مَذْبَحٌ صغيرٌ للأرواح عاجٌّ بتماثيل صغيرة للرجال
والحيوانات الداجنة مصنوعة من الصلصال ومن بقايا العيدان والقضبان الصغيرة ومن
البَخُور ومن الشموع الطويلة. وثمّة تُوَيْجَات الأزهار الجافّة مفروشة على كل
مكان مثل أحلام متكسِّرَة. وقِسْم من ورق شجرة الدلب الهندي، هذه، يهيمن على
المنزل، كما لو أنه يحميها من إهانات وتحقير البَشَر. ولكن في نفس الآن، يرغم
المنزل على أن ينحشر على نفسه بقوّةٍ من الصعب تصوّرها. أعرفُ منذُ أول مرة
وَلَجْتُ فيها إلى المزرعة أنّ هذا المنزل، والحقّ يُقالُ، لا يخلو سوى من حُضور
بشريّ، لأنّ سِرْباً من الكلاب التائهة يحتلها، وقد استولى على الطَّابَقَيْن.
وفيهما تقضي الكلابُ حاجَتَهَا [20] وتأكل فيهما، وتنام وتتناسل بكلّ حريّة.
إلتقيتُ ببعض منها بمجرد دخولي إلى إلى المزرعة. فطفقتْ تُزَمْجِرُ وتَقلِبُ
بَرَاطِيلَهَا وتنطح الأرض-هؤلاء الأشخاص ليسوا وَدُودِين حقيقةً. في كل ليلة
تتجمع الكلاب أسفل المنزل، تحت الأدراج، على السطيح الخارجي، وتبدأ كُلُّهَا في
النباح وفي صراخ الموت كما لو أنها تريد عَضِّي أو دفعي للفرار. ولكن الليالي التي
يُمارِسُ فيها المُشطِّي (معالجة جيف الحيوانات للاستفادة من جلدها وشعرها وعظمها
ودمها) أشغَالَهُ الوضيعَة، فإنَّ الكلاب تنصرفُ لِتَهْتَاج على جوانب الدائرة
الضوئيّة للمصباح الذي لا تَصِلُ الرّيح إلى شعلته، نَظَرَاتُهَا مُسَلَّطَةٌ على
الرجال الثلاثة أو الأربعة الذين يُقطِّعُون الأبقار ويُمشِّطونَهَا، على أَمَل أن
تضع بعض قطعات لحم تحت أنيابها. كانت تُوعْوِع عند أذيال ثوبي، بينما أَحُومُ حول
منزلي الجديد. عَثَرْتُ على أربع أو خمس زجاجات من الكحول الرَّدِيء المحليّ عند
قدم الدَرَجِ، بالإضافة إلى إثني عَشَر كِتَاب صلاة ذات أغلفة مُلَطَّخَة
ومُمَزَّقَة وكذلك ثلاث تمائم ذات مائة وثمانية مادة مُؤلَّفة فِي مَا كَانَ
يُشَكِّلُهُ المَذْبَحُ في الماضي. على جانب من الحائط، مُخرْبشٍ بِفَحْمٍ خشبيّ،
أبياتٌ شعريةٌ تقول في جوهرها: "آه، الماضي يُحِبُّنَا ويقبضنا ويعشقنا،
وبسرعة قصوى يُذْوِينَا وعمّا قريب، سَيَقْتُلُنَا". لا أعرف من هو
مُؤَلِّفُهَا. ولكنّ هذا هو منزلي. وهذا هو المكان الذي أَقْضِي فيه نَقَاهَتِي.
وهو المكان الذي قرَّرْتُ أن أُنَظِّمَ فيه جنازتي الشخصية. المكانُ مُشْبَعٌ
بالرعب، والرعب الذي أتحدث عنه لا يَنِي يَتَضَاعَفُ إلى حدّ مممارسة ضغوط هائلة.
لا أنام في الليل، أَظَلُّ مُعَذَّباً وهائِجاً، وحدي، في الظلام وفي الهدوء وفي
البرد، بين أصوات مُختَلِفَة ومُرْعِبَة. أَنتظِرُ الفجرَ، ليلة بعد أخرى،
متلهّفاً، وفي بعض هُنَيْهَات هذا الإنتظار الطويل، يحدثُ لي أن أُجَنَّ. بينما في
النَّهَار، لا شيء أخشاه. إنّ هذا المنزل ليس سوى منزل مهجور عادي. والموكِبُ
الجنائزيّ للقرويين، الذي شِيءَ لي أن أراه، مرّة، لم يكن سوى موكب جنائزيّ عادي.
ورجال الموكب كانوا أُنَاساً عاديين. والكاهن البوذيّ أو الكاهن المبتدئُ، الذي
يُقدّم مزايا الراحل، لستُ أدري إنْ كان كاهنا عادياً أم مُبْتَدِئاً. أمّا فُرْن
إحراق الجثث، الذي لم يَكُنْ عادياً، فَهُوَ مُكَوَّنٌ من طبقَتَيْن سميكَتَيْن من
القرميد تَعْلُوهُمَا شبيكة حديديّة واسعة بما فيه الكفاية لاستقبال النعش. كُداسة
من الحطب المُعدِّ للإحراق تمّ وضعُها تحت التابوت وأُشْعِلت فيها النِّيرَانُ.
ولكنّ دخانَ إحراق الجثث كان دخاناً عاديّاً. والتعبيرُ المتأسِّف والمحزون على
وُجُوه المشاركين في المأتم كان تعبيراً متأسّفا عادياً. والدُّلْب الهنديّ، [21]
الذي تحْتَكُّ أغصانُهُ وهي تطقطق بالسقف، هي، أيضاً، هنا شجرة دلب هندي عاديّة.
خلال النهار، هنا، يَسُودُ جوٌّ منزوٍ وتأمُّليّ ومُمْتِع. حين يُنْظَرُ نحو
الخارج لا يُرى سوى إخضرارُ الأشجار. فراشاتٌ ويَعَاسِيب تمْرَحُ وتَجْنِي اللِّقَاح
من أَزْهَار اليَقْطِين وأزهارِ رَقِيبِ الشَّمْس. في أقصى المزرعة يجري نهر سريعُ
الجَرَيَان من مياه كريسطالية. أغتسل فيها وأسبح فيها كلّ يوم. مجراه عميقٌ
وتيّارُهُ قويّ. وعلى الضفتين لا أرى سوى إخضرار الأخياس والنباتات المتعرّشة،
بعيداً عن كلّ حضارة. وهذا يمنحني الانطباع بأنني أوَّلُ أو آخِر إنسانٍ في
العالَم. أسبحُ ضدّ التيّار حتى حدود قِوَاي أو أطفو وأُرِيحُ رأسي على صخرة أو
جذْر، مُدِيراً وجهي عن الشمس الشقراء الرقيقة التي تُصفِّي تنقيطَاتِهَا عبر
الأوراق. حدث لي أن بقيتُ، على هذه الطريقة، مُستلقياً، إلى حدّ النوم تقريباً،
سعيداً في سكينة، كما لو أَنّي لَمْ أعْرِفْ أدْنَى كابوس في حياتي. في المزرعة
كومات من العشب الكثيف. وكان المُشطّي يأتي لِيَربط فيها أَبقارَهُ ويتركها ترعى
فيها. يقطع أرجاء البادية لِشِرَاء الماشية التي يَذْبَحُها مع مرّ الأيام. وأما
الحيوانات التي لا تُوجَدُ، بعدُ، في حالة الذبح، فيتوَجَّبُ عليه أن
يُسَمِّنَهَا. المُشَطِّي رَجُلٌ صَمُوتٌ، ولكنه يتحدّثُ معي في بعض الأيام. وفي
بعض الأيام أذهب للتحدّث مع الأبقار، للتحدّث معها قبل أن تصبح هياكِلَ عظمية.
أَقْطِفُ لها أغْصاناً عالية من شُجَيْرة الشَّوْرَى كي تجترّها، أُدَاعِب
رُؤوسَهَا وأتعرّف على أخبارها بصوت خافت. توجد كلُّ الأنواع، أبقار شابّة وأخرى
عجائز، توجد عِجْلان وعِجْلاَت وثيران وفي قوّة عُمْر الأبقار المُسِنّة جدّاً
يُقال إنها تعرف المَصيرَ الذي ينتظِرُها. هي أبقار حزينةٌ. وحزْنُها يظهرُ، على
الخصوص، في عُيُونِهَا. إنها غريبة بعضها عن البعض الآخر، وكلّ واحدة منها تُجهد
نفسها للتعرف على الباقي، ولكن حين تُغيِّرُ الريحُ من اتجاهها وتحمل إليها رائحة
دم المذبح، يتملَّكُهَا الهلَعُ. فتتمدَّدُ مَطَاوِلُهَا إلى حد توشك معه أن
تتمزّق. وبعضها تخورُ، يائسةً ومنعزلة. بينما لا تعرف العِجلانُ الصغيرة عن الأمر
شيئاً. وتُواصِلُ، في هدوءٍ، الرعي، بصوت عالٍ، وكذلك اللهو واللعب. تُحِبُّ
مُمَازَحَة الكبار. فتتحدّاها بِقُرُونِهَا كَيْ تَتَسَلَّى. فإذا أصدرت البقرة
ردَّ فِعْلٍ، فإنّ العِجْل لا يستطيع المقاومة، وما عليه سوى الانسحاب. وأمّا بعضُ
البقرات، مِنْ طِينَة جيِّدَة، فَيَتَصَنَّعْنَ الهزيمةَ. فحينها يتَغَطْرَسُ
العجل الشابّ[22] ويُجَرِّبُ الأمْرَ مع ثور، وبينما يَصْدِمُهُ هذا الأخيرُ
بِقَرْنَيْه، ها هو يَنْسحب، يدور حول الثور ويَمُدُّ رَأْسَهُ في مَفْرَق قائمتيه
الخلفيتين. إنّه ينسى، دون شكّ، أنه كان يَلْهُو مع أُمِّهِ. وحين يتعب أو حين
يجوع، تَتَدَاعَى لهُ أُمُّهُ بالحليب. يعتقد أن الثور الذي تَحَدَّاهُ،
بقَرْنَيْه، يمتلك ضِرْعين. إنّ هذه العجلان، هي البراءةُ نفسُها. هي لا تعرفُ
شيئا. وحين ترى العِجْلانُ الأبقارَ، وقد تَمَلَّكَها الفَزَعُ من رائحة الدمّ،
تبقى حائرةً، تُديرُ عيونها الكبيرة في كلّ اتّجاه، وهي مُرتَعِشَة. في النهار،
أتحدث كثيراً مع البقرات، وأربت على ما بين فَخِذَيْهَا، وأُداعِبُ رؤوسها، هنا في
هذا المكان الذي يهوي فيها المُشَطِّي، بكل قِوَاهُ، بمطرقة تَزِنُ ما تَزن من
الكيلوغرامات. ولكنّي لا أَلُومُ المُشَطّي. فالموتُ مهنَتُهُ، والليالي التي يقوم
فيها بذبح الماشية، هي ليالٍ أقضيها دون خوف. وأنا أنظر إلى المذبح، أرى بَصِيصَ
ضَوْءِ المصباح-العاصفة[1]، أرى المشطّي واثنين أو ثلاثة من مُساعِدِيهِ، وهم يتحركون في هذه
الشرنقة من الضوء. وأحيانا تَصِلُنِي أصواتُهُم، ضعيفةً. لا أُحِسُّني منعزلا. في
الصمت وفي الظلام أسمع ضجَّةَ المطرقةِ المكتومةَ، وهي تنهالُ على قِحْف البقرة،
أحيانا ثلاث أو أربع ضربات حين يتعلّق الأمرُ بحيوان قويّ يرفض أن يموت ببساطة.
أسْمَعُ حَوَافِرِ الحيوان وهي تصطدمُ بالأرض الإسمنتية، أحيانا بطريقة متتابعة
وطويلة. يتعلّق الأمرُ بحيوان قويّ يرفض أن يموت ببساطة، بالرغم من أنه سبق له أن
هَوَى تحت الضربات. في ليالي الذبح، لا أشعُرُ فيها بالخوف. لا أحسّ فيها بالعزلة.
المُشَطِّي يَقْتُل الدابّة في الساعة الثالثة صباحاً، وتنتهي عملية تَشْطِيَة
الحيوانات في الفجر. أنْتَظِرُ الساعة الثالثة، صباحاً، كيْ أستطيعَ أنْ لاَ
أُحِسَّ فيها بالعُزْلَة. في ليالي تشطيّة الحيوانات، لا تَنْبَحُ الكلابُ.
تنتظرُ أن تَحِينَ الساعة التي تقوم فيها بتشكيل حلقة حول دائرة ضوء
المصباح-العاصفة. أنا لا أَلُومُ المُشَطِّي. في إحدى الصباحات، أَحْضَرَ لي
قِدْراً مِنْ لَحْم العِجْل المَسْلُوق. كانت تَفُوحُ منه رائحة غثّة
ويُثيرُالتَقَزُّز، ولكن، ربّما، لم تكن سوى من وَحْي خَيَالِي. وبِمُجَرَّد ما أن
انْصَرَف، رميتُ باللحم لِلْكِلاَب. لا أَحْلُمُ، قَطّ، بِـ"إِيتّي
بُووَادُونْ". لا أستطيع أن أطْرُدَهَا من خيالي، ولكنّي حين أنامُ لا أحلم
بها أبداً. ولا أَحْلُمُ، قطّ، بِـ"نَاتْ". لا أستطيع أن أطرُدَهَا من
أفكاري، ولكنّي حين أنامُ، لا أحْلُمُ بها قطّ. هَلْ مَا زِلْتِ تتذكّرين
"نَاتْ إِتْسَارَا"، [23] هذا الصّديقُ الذي كان يرْسُمُ بورتريهات حسب
الطلب في الشارع؟ ولا أحلمُ بِكِ أبداً. لا أستطيع أن أطردكِ من أفكاري، ولكنّي
حين أنامُ، لا أحلم بكِ مطلقاً. أنتِ، بالنسبة لي، زهرةٌ بيضاءُ متفرِّدةٌ،
بَجَعَةٌ بيضاءُ متفرِّدةٌ، نَجمةٌ بيضاء متفرّدةٌ في الليل.
"نَاتَايَا"، أيضاً، كانتْ نجمة بيضاء متفرّدة في الليل، ولكنّها
انْفَجَرَتْ وتناثرتْ رماداً بعيدا عن السماء، انفجرت بِبُطْءٍ وبِأَلَمٍ، بِأَلَم
وبِبُطْءٍ، ذَابَتْ في نثار الرماد. "ناتايا" النجمة البيضاء المتفرّدةُ
كانت عذراءَ بيضاء ومتوحّدة، إِلَهَة بيضاء ومتوحِّدة، ولكنها انْفَجَرَتْ
وتَنَاثَرَتْ رَماداً خارج السماء. أنتِ لا تعرفينَ "نَاتَايَا
بِيسُوتْوُورَّاكُونْ". لم أتحدَّثْ إليكِ، أبداً، عن "نَاتَايَا".
وأنتِ لا تعرفين "دَارِيتْ". لم أتحدثْ إليكِ، أبداً، عن
"دَارِيتْ". "دَارِيتْ" إِلَهَةٌ من البلاستيك، امرأةٌ من
البلاستيك. "دَارِيتْ فْيُودْجَانْ".... يمكن أن نقولَ إنّها رُكِّبَتْ
في مُخْتَبَرٍ فِي مَكَانٍ مَا. منذ أنْ أَقَمْتُ، هُنَا، لم أكتبْ لكِ ولو رسالة
واحدة. لقد كتبتُ، والحقّ يُقالُ، ولكنّي لَمْ أُنْهِهَا وبالتالي لم أبْعَثْهَا.
وفي المقابل، فَأَنْتِ كاتَبْتِنِي، بانتظامٍ، وأرسلتِ لي كُتُباً، وأرسلتِ لي
أسطوانات، تبْعَثينَ بها إلى "كْوان"، وتتكفَّلُ "كْوانْ"
بإحْضارِهَا لِي. إنّ رَسائِلَكِ وهداياكِ جعلتْ "كْوَانْ" تأتي لرؤيتي
في كثير من الأحيان. يتوجَّب عليها أن توقف شاحنتها الصغيرة في القرية وتَسْلُكَ
طريقاً من خلال أدغال وأشجارٍ كي تَصِلَ إلَيَّ، وبإحْدَى الأغصان كانت تَجْلِدُ
كَوْمات العشب على طول الطريق- كانتْ تخاف، بشدّة، من الأفاعي. كانت تَقُودُ
سيّارتها جيّداً، وهو شيءٌ مُثِيرٌ. تقودُ بِسُرعةٍ وَبِجُهدٍ جَهيدٍ. ونفس الشيء
ينطبق على الدراجة النارية، تقودُها بسرعة وبجُهْدٍ جَهيدٍ. تلبس سروال
"الجِينْزْ"، وقميصاً ذا أكمام مثنيّة وأحذية نِصْفِيَّة. ولكنها في
الآونة الأخيرة تُحْضِرُ لي أزهاراً- أريد أن أقول إنها بدأت تحضر هذه الأزهار بعد
أن أصبَحْنَا قريبَيْن، أحدنا من الآخَر. ولكنّنا لا نتحدث، أبداً، عن الحبّ. فأنا
عَارَضْتُ التحدُّثَ عنِ الحُبّ، بينما كانت هي، في حَرَج كبيرٍ، كي تتحدث عن
الحبّ، لأنّها، على العكس، ذات طباعٍ مُتَغَلِّمَة. ولكنها عرضتْ عليّ أن أُقِيمَ
عندَهَا. لم أَقُلْ شيئاً. فأنا لا أَقْبَلُ ولا أرفُضُ شيئاً أمام النساء ذوات
المِزَاج الفَاتِرِ والمُتَلاَشِي. لا أَعْرِفُ عنها إلاَّ القليل. وهي لا تعرف
عنّي إلاَّ القليل. تُنْصِتُ ويبدو أنَّهَا لا تَفْهَمُنِي حين أقولُ، ببطء
وبِحَذَرٍ، إنني لم آتِ إلى هنا إلاَّ مِنْ أَجْلِ كِتَابَة قصائد. هي تُنْصِتُ
ولا يبدو أنها تفهمني حين أقولُ، ببطءٍ وحَذَرٍ، إنّ كتابة قصائد هي مهنةٌ
مُؤْلِمَةٌ، ومِثْلَ ما أعرفه، فَهُوَ أنّه حتى "بوذا"، في دورة
تقمُّصَاتِهِ، عبر الزَّمَن، لَمْ يَجِدْ، أبداً، نفسَهُ شاعراً. [24] لقد تقمّصتْ
رُوحُهُ أشكالَ فِيلٍ وعصفور ونَمِر وبقرة وقِرْد، بَلْ وحتّى الوَرَل، ولكن لم
تتقمّص أبدا صورَةَ شَاعِرٍ. "كْوَانْ" ليست زهرةً بيضاءَ ولا بَجَعَةً
بيضاءَ ولا نجمةً بيضاءَ. لا أدري، لحدّ الآن، مَنْ هِيَ. رُبَّمَا، فقط، حِينَمَا
انفصلتُ عنها، عرفتُ من هي. لقد حدثَ لي، بكل صراحةٍ، أن قلتُ لها إنني قرَّرْتُ،
مِراراً، أن أنغمس في العزلة، ونَاجَيْتُ نفسي، طويلاً، مع السماء والأشجار
والأبقار والعصافير. أنصتتْ إليَّ وقالتْ بأنها فهمتْ، رغم أنَّهُ لَمْ يَبْدُ
عليها ذلك. إنها لا تعرف أنه يُوجد في حقيبة الظَّهْر التي أَحْمِلُهَا سِكِّينٌ
مسحورٌ. إنها لا تعرف أنّ كلّ كينونتي انبثقتْ من الأَلَم. إنها لا تملك أدنى فكرة
من أنني متوحّشٌ رومانطيقي. إنها تُحِسُّ بي، فقط، على أنني رجلٌ غريبٌ. لا تعرفُ
أنني استحْوَذْتُ على فكرة "نيتشه"، وجعلتُ منها فكرتي الخاصّة، الفكرةُ
التي تقول بأنّ كُلَّ مكتوبٍ ذي قيمةٍ يُكْتَبُ بالدمّ. أنا لا أفهم النساءَ، ولا
أُحاولُ أنْ أَفْهَمَهُنَّ. لا أعتقد أن "شيكسبير" كان يفهمُ النساءَ
حينما قال: "آهٍ، يا امرأة، إنّ اسمكِ هو عَدَم الثبات!" هل حاولتُ أن
أفهمكِ؟ هل حاولْتُ أن أفهمَ "إيتّي"؟ لستُ أدري. ولكنّي سَأُحَاوِلُ
هذه الليلة، لِمَ لا؟ الأمرُ جيّدٌ. لقد قرّرْتُ أنْ أُحَاوِلَ. الأمر ضروريٌّ. لو
كنتِ أَنَا، لَعَرَفْتِ بأنّ الأمْرَ ضروريٌّ. الريحُ ليست قويّةً، هذه الليلة.
والبردُ قارسٌ، أكثرَ فَأَكثَرَ، ولِهَذا فقدْ مرّتْ أيّامٌ عديدةٌ، كان عليَّ أن
ألْتَجِئَ فيها بالقرب من النّار كلّما استَحْمَمْتُ. حِينَ يصلُ الغَسَقُ،
بصفةٍ مُفاجِئَة، لاَ أستطِيعُ أن أبقى في الماء، لفترة طويلة، من الآن فصاعِداً.
وحينما أعود إلى المنزل، أول شيء أقوم به هو إيقاد مصباح الكربور، الوسيلة الوحيدة
التي تمنح الضوء، هُنَا. جوانبه الزّجاجية الداخلية سوداءُ من السُّخام، الذي لم
أمسحه من شدّة كَسَلي. وعلى المِقْلَمَة العتيقة الموضوعة قربَ النافذة الشرقية،
توجد كومةُ خُطاطات قصائدي. وهي مخطوطات قديمة صَدِئَة وُلِدَتْ مِنْ خيَالٍ
شهواني وشبقيّ. لم أشتغل، أبداً، بما فيه الكفاية من المشقة. ولقد مرّ زمنٌ طويل
جدا لم أَعْثُرْ فيه على فكرة جديدة. ضوء المصباح خافِتٌ. ولا يمنح إلاّ نوراً
ضعيفا ورفّافا، وغالبا ما يَتَظَاهَرُ بالانطفاء. لا أستطيع أن أكتب على الإطلاق،
حين تهُبُّ الريح بِقُوّة. وأَكْتُبُ، دائماً، بِطريقة جيّدة، حينَمَا يكون الطقس
بهيجاً. هل تَرَيْنَ هناكَ؟ صَوْبَ الغرب فوق القِمَم نجمةُ الرّاعي[25]
تَلْمَعُ عبر ومضةٍ صافية ونَحْوَ الشرق ينسحب القمرُ من خطّ الجبلِ المُظلِم. لقد
مرّتْ سنواتٌ وأنا أنام في النهار، وأُكرِّسُ لَيَالِيَّ للعمل، أو على الأقلّ
أنامُ، دائما، في ساعة متأخرة، نحو الثالثة أو الرابعة صباحاً. وأحياناً أنام في
الفجر في الوقت الذي يستيقظ فيه الآخَرُون، ولكني، أحياناً، أَخْرُجُ للتنزُّهِ.
والليالي التي لا أفعل فيها شيئا، تُسَبِّبُ لي عذاباً. في هذه الأوقات يُجمِّدُ
البردُ اليَدَيْن. وفي الخارج، يصيرُ شِفُّ الضباب الأبيض أكثرَ سُمْكاً. وكلما
تقدَّم الوقتُ كلّما نزلَ الطَلُّ كثيفاً، والرّيحُ تتوقّفُ عن الهبوب، بالرغم من
أنّ البرد أصبحَ قارساً. في هذه المنطقة ينام الناسُ باكِراً. وعلى ضوء القَمَر،
تبدو منازل القرية ظِلاَلاً غائمة مثلَ حيواناتٍ قبل طُوفانية متقوقِعَة على
نفسِهَا ونائمةً في الضباب البارد. ومن منزل إلى آخَر يمكن رُؤيَةُ النور الخفّافٍ
لِشَمعة يُقَصُّ رأس ذُبَالَتِهَا. فجأةً يُصدِرُ كَلْبٌ صراخاً يُمزِّقُ الصمتَ،
كَمَا لو أنَّهُ يرى شياطيناً. انطفأت المصابيحُ في القرية. فجأةً، أُحِسُّ
بقُشَعريرة، لأنّ الكَلب الذي يَنْبَح موجود على السُطَيْحِ نفسه. كلُّ الكلاب، في
هذه المنطقة، تَعْتَبِرُ أنّ هذا المنزلَ يعود لَهَا. تنبحُ وتصرخ عليَّ، كلّ
ليلة، وتُحاوِلُ جاهِدَةً أن تَعُضَّنِي. ولم أنجح، أبداً، في إقامة صداقاتٍ في
القرية. هَلْ تَرَيْنَ ظِلِّي، يا "كانكسدان"؟ جُزْءٌ مُمَدَّدٌ على
أرضية الغرفة، وجُزْءٌ آخَر مُسَلَّطٌ على السقف. هَا أنَذَا في مواجهة الليل، في
مواجهة نفسي، في مواجهة كلّ ما يحدُثُ في الحياة. وفي اللحظة نفسها التي أتَوَاجد
فيها يَقِظاً، اعتقدتُ أنني كنتُ مُتُّ منذ زَمَن. ولكني في الحقيقة، ما زلتُ لم
أمُتْ بَعدُ. يحدُثُ لي في كثير من الأحيان أن أعتقد أني متُّ، وقد مرّ زمن بعيدٌ
وأنا أفكر في هذا. آلاف بل عشرات الآلاف من المرات. أتمنى الموتَ، ولكنّها، في
الحقيقة، ليستْ أُمنيّة صادقة. هل أنا موجودٌ، فقطّ؟ فهل لستُ سوى اختراعي الشخصي،
بنفس الطريقة التي يختَرِعُ فيها رِوَائيٌّ مَا شخصياتِهِ المستقاة من خياله
الخاصّ؟ من الممكن ألاّ أكونَ سوى اختراعاً، سوى شخصيّة صُنِعَت مِنْ نَسْج
الخيال، وأني لا أقوم سوى بِذِكْرِ انفعالاتي وهَوَاجِسِي. وَمَا هِيَ حالُ
انفعالاتي وأفكاري؟ إلى أي درجة، هي صحيحة؟ لستُ أدري. أحيانا، أنسى حتى إسمي.
يمكن أن يُعتَقَدَ أنّني أَتَصَنَّعُ، ولكن ليس صحيحا. ولكنه على العكس مسألة
انحراف ذهنيّ. أستيقظُ في جوّ من [26] الوَهَن، وغير متحرِّر من الأعراض الضارّة
للسُّبات. ربما أنامُ ولا أفعلُ سوى التحدُّث في نومي. في هذه اللحظة، ربما لستُ
يَقِظاً إلا في حُلمي وفي نومي، أتحدّثُ مع نفسي ومعكِ ومع لا أَحَدٍ. نوم، نوم،
نوم... استيقاظ، استيقاظ، استيقاظ... كلماتي تَصِيرُ أصواتاً تَعِبَةً ونائحة
وتفجّعية، وعَارِضَة وتلميحيّة مثل آثار خُطَى رَجُلٍ تائِهٍ في الصحراء على وشك
أن يترنّح ميّتاً، أصواتاً ممتزِجَةً بأنّات وتنهيدات ونَشِيج وزئير وضَحِكَات من
أجل إنتاج مونولوغ مجنون، وفي غالب الأحيان دون معنى، فقط متواليات من صيحات
تعجُّب مُتَمْتَمَة، من كلّ الرنّات في تخييلي. كلماتي تصبح حروفاً من مقاطع
مُتميِّعَة وضعيفة وخفيّة الدّلالة وتلميحيّة ومترنّحة تَطْفُو على صفحة التعطُّل
التي هي قريبة وَوَاضِحة، والتي هي قصيّة ومَمْحُوَّة، بَلْ غير مُنتَظِمَة والتي
تنتهي بأن تختفي. أنا بصدد التفكير، أنا بصدد الحلم، أنا بِصَدد التَحدُّث في
نومي، وربَّمَا أنا بصدد الاحتضار، أو رُبَّمَا مُتُّ، أو رُبَّمَا لا شيءَ مِنْ
كُلِّ هَذَا. لستُ أدري. أُحِسُّنِي، فقط، وَهِناً جِدّاً، جسديّا وذهنياً. إذا لم
أَكُنْ مَيّتاً، سأنْتَحِرُ. كنتُ أُحِبّ أن أَمُوتَ موتاً طبيعيّة وكافيةً،
بَدَلَ أن أموتَ بِيَدِي. ولا أُريدُ حتّى التساؤل حول مَا إذَا كَانَ الانتحارُ
خطيئةً. لمْ أَعُدْ أقلقُ، قطّ، من معرفة ما إذا كان الانتحارُ جُبْناً أمْ شجاعةً.
وإذا كنتُ لم أنتحرُ بعدُ، فَبِكُلّ بَساطة لأنه لا يهمُّنِي كثير شيء. لا شيء
يهمني، حتّى ولو كانت الرغبة في معرفة إنّ كان هذا الجوابُ صادقاً. لا شيء يهمّ،
إلى حدّ أنه لا رغبة عندي، حتى في تحريك إصبعي لِتَنَاوُل سيجارة ومَدِّ سَاقَيَّ
للتخفيف من الألم ومن التعب العَضَلِيَيْن، أو تغيير وضعية جسدي أو حتى تحريك
الجفنَيْن أو تمرير لِسَانِي على شَفَتَيَّ اليابِسَتَيْن. ولكنْ مَهْما حدث، فأنا
قادِرٌ، دائماً، على الإحساس، وعلى التفكير. حين أقول إنني أنني أُحسُّ نفسي
وَهِناً جِدّا، جَسديّا وذهنياً، فأنا لا أبحثُ عن الشكوى. أنتِ تعرفينَنِي، بما
فيه الكفاية، كي تعرِفِي أني لَسْتُ من الذين يُدَاوِرُونَ ويُمَالِقُونَ. ولستُ
بصدد توَسُّلِ عطفكِ. فهل تَعتَقِدِينَ، إذاً، أنني بصدد مُدَاوَرَتِكِ؟ أيّتها
المرأة الطائشةُ! وهَلْ تعتقدين، إذاً، أنني بصدد توسُّلِ عطفكِ؟ أيّتها المرأة
الطائِشَة! لقد قلتُ إنني أحسستُ بأني وَهِنٌ، جسديّاً وذهنياً، لأنّها الحقيقة.
لقد حَدَثَ أن أُغْمِيَ عليَّ من شدّة الأَلَم. [27] تلكَ المرة، تلقَّيْتُ طعنةَ
خِنْجَرٍ، ومُهَاجِمِي فَرَّ وهو يَعْدُو. إِنْهَرْتُ وأنا أُحاوِلُ التَخَلُّصَ.
أَلَمٌ هائِلٌ ضربني مُبَاشَرَةً وتَوَهَّجَنِي، مِثْلَ ألعاب نارية في يَوْمِ
عِيدٍ، انفجَرَتْ، بشكلٍ مُفاجِئ! الستارة. مثل الموت تقريباً... فَقَدْتُ
وَعْيِي، ولكن، بصفة مفاجئة! إستعدتُ وعيي كَمَا يحدث في الأفلام بِالمقلوب.
إستعَدْتُ وعيي في المستشفى. كانت أعصابي الخاصّة بالشمّ تشتغل، دائما بصفة
طبيعية، لأني شممتُ رائِحَةَ دواءٍ، أو ربّما علي أن أقول رائحة مستشفى، رائحة
متميّزة، بشكل خاصّ، شمَمْتُهَا بمجرّد ما أن إستعدْتُ وعْيِي، وهو ما جعلني
أعتقدُ، لاحِقاً، بأنّ تلك اللحظةَ لمْ تَكُن اللحظةَ التي كُنتُ فيها الأقربَ من
الموت. في تلك اللحظة كانت أعصابي السمعيّة تشتَغِلُ بصفة طبيعيّة. كنتُ أرى
سَقْفَ قاعة المستشفى، أبيضَ، كنت أرى حيطان القاعة، بيضاء، كُنتُ أرى مُمرِّضَةَ
المُدَاوَمَة، لابِسَةً الأبيضَ. كانت جالسةً، وهي بِصَدَد قراءةِ كِتَابٍ.
الكِتَابُ لَمْ يَكُنْ أبيضَ. ولكني لم أكن أعرف، بعدُ، مَنْ تَكونُ، ولم أَكُنْ
أعرفُ أنني أُوجَدُ في مستشفى، ولم أكن أعرف أين أُوجَدُ، بالرغم من رؤيتي لِكِيسِ
الدمّ المُعلَّق في جانبٍ من سريري. لابدّ أنني خَسِرْتُ كثيراً من الدمّ، وتمّ
تعويضُهُ. ولكنّي حين شممتُ رائحة الأدوية، قُلْتُ في نفسي: ها أنت في المستشفى.
لابُدَّ أنَّ أَحَداً مَا قادكَ إلى المستشفى. وعدتُ إلى النوم، من جديد، دون أَنْ
أَهْتَمَّ بشيء، لأنّي تَصَوَّرْتُ أنّ حياتي ليْسَتْ في خَطَر. في تلك الفترة،
كنتُ شابّا وأكثر قوّةً من الآنَ. كنتُ في نهاية سنتي الأولى بالجامِعَة.
تغيَّبْتُ عن الدروس خلال عدة أيّام. وحين عاودتُ متابعة دروسي، كنتُ في منتهى
الشّحوب. وكان ما زال عليّ أن أتمشى بخطى محسوبة وأكتفي بغذاء خفيف. ولكني، الآنَ،
نسيتُ، تقريباً، طعنة السكّين، بالرغم من أنني أحتفظ، دائماً، بِنُدبة الجرح، التي
تمّ تخييطها بِعِنَاية. كنتُ قد قلتُ لنفسي بأنها كانت تجربةً لن أنساها أبداً،
وبأنها ستظلُّ محفورة، بشكل دائم، في ذاكرتي... تلقَّيْتُ طعنة سكّين بِسَبب فتاة
شابّة- مرأة شابّة أَوْلَيْتُهَا كثيراً من الأهميّة، بينما لم تكُنْ، والحقّ
يُقالُ، سوى فتاة غريبة الأطوار وطَموحةً بشكل مُبَالَغٍ فيه وتبحث عن الإثارة وعن
التسليّة الغبيّة يوماً فيوماً. بعد طعنة السكّين هذه، اختفتْ من حياتي. حينما
كُنتُ مُراهقاً، كان لي صديقٌ[28] وكانت علاقَتُنَا وثيقةً جدا. أَكَلْنَا، هو
وأنا، مِنْ نفس الطَّبَق، ونُمْنَا تحت نفس الكِلَّة، ودخَّنّا الحشيشة معاً، ولكن
في نهاية الأمر لم أَرَهُ من جديد قطّ. ولا أَحَدَ مِمَّنْ كانوا يعرفونَهُ،
رآهُ، قطّ، من جديد. سَرَتِ الإشاعاتُ أن الشرطةَ أوْقَفَتْهُ. لقد كان إنسانا
رائعاً. وكان يمتلك قَسَمَات مُخَنَّثَة جدا، وهو ما كان يَفْتِنُ الفَتَيَات. كان
"بريتي بُويْ"(الطفل الجميل) بِكُلّ تأكيد، ولكنه كان إنسانا رائعاً.
اختفى دون أن يتْرُكَ أَثَراً. ونفسُ الشيء ينطبِقُ على قائد "تِيوِي
سامونت" رقم 9 اخْتَفَى من حياتي. لم أَكُنْ أخشى شيئا في مثل هذا العمر،
توجهتُ إلى رَصِيفِ الصّيد في "فوكيت" Phuket، وتمّ تشغيلي كَوَاحِد من طاقم هذا المركب. في تلك الفترة، كنتُ
قد أنهيتُ، للتوّ، السِّلْكَ الأول، وكنت لا أفكّرُ، قط في معاودة الدراسة. ولكني،
ها أنا وقد غادرتُ "تيوي سامونت" رقم 9 دون توديع قائد المرْكَب. غادرتُ
المركبَ، خِفْيَةً، حين اكتشفتُ أنّ الموسم الحارّ بصدد الانتهاء وبأنّ معاودة
الدروس قريبة. وهو تصرّف مُعتادٌ وَمُنْتَظَرٌ مِنْ قِبَلِ شخص متهوِّرٍ. أتذكر أن
قائدَ المَرْكَبِ كان رَجُلاً صَمُوتاً، ولكنّي كنتُ أعرف أنه كان يُحبّني في
قرارة نفسه. والاهتمامُ الذي كانَ يُولِيهِ لي كان اهتماماً يُوليهِ أجنبِيٌّ
بَالِغٌ لأجنبيٍّ مُراهِق. وكان قد الْتَقَطَنِي، ذات يوم، من إحدى نوادي القِمَار
التي تُقَدِّمُ "الماريخوانا" والتي كانت تتفرّخ وتَتَكَاثَرُ في
حيّ الميناء. كان قد انطَلَق في أثَرِي، وانتهى به المَطافُ بالعثور عَلَيَّ،
وأشَارَ إليَّ برأسِهِ أن أخْرُجَ. ولم يَنْبِسْ ببنتِ شفَة. هَزَزْتُ رأسي،
باسترخاء، مثل شخص ينبثق من حُلم، وكان دخان الحشيشة يَخْرج من أنفي ومن فَمِي،
وخرجتُ وتَبِعْتُه في مشية مترددة وحزينة على نفسي أكثر من إحساسي بتأنيب ضمير.
كان الوقت متأخّراً جدا. وعلى الرصيف لم يكن يوجد سواه وسوايَ. وكان الهواء البحريُّ
يهُبّ بقوة. والسماءُ تتألّقُ بنجوم حيّة. لم أَكُنْ أقول شيئاً، ولكني كنتُ
أُحِسُّ بالامتعاض. ظلَّ وَاقِفاً وهو يَنْظُرُ إلَيَّ، وأنا أتقيَّأُ في البَحْر.
أتذكّرُ أنني تَوَقَّفْتُ عن المَشْي، لأَنّي كنتُ أَتَمَايَلُ وتقيّأتُ. كان جسدي
مطويّا على اثنين، فتقيّأْتُ البَسْكويت المُحَلَّى بالسُّكَّر الذي يَتَنَاسَبُ
مع الحشيشة والذي أفرطتُ في أكلِهِ بِنَهَمٍ، تقيّأْتُ الأحْلامَ الثَّمِلَة،
الضحكات الثملة، الثرثرات الثملَة لِحَلَقَة المُدَخِّنِينَ. لم يقتَرِبْ منّي
لمساعدتي، أو لتقديم المواساة، ولكنه ظلّ وَاقِفاً، باستقامة، مِثْل عمود. كان
صغيراً ولكنه قويّ البنية، وكانَ لابِساً قميصا نفيساً، وسروال صيّاد رخيصا جدا.
وبِدُون شكّ، فإنّ ثمن القميص يمكن أن يغطيّ ثمن شِراءِ عشرة سراويل. وكان حافِيَ
القدَمَيْن مثلما هو حالُ كلّ[29] الصيّادين. في البحر، كان يشبه حيوانا بحريّاً.
ولم يَكُنْ يشبه كائناً بَشَرِيّاً إلاّ حين يكون على اليابسة. وهو الذي علّمني
استخدام مختلف اكسسوارات الصَّيْد، وكيفية الاعتناء بها. ولكن، ها أنا، الآن، لا
أستطيعُ أن أتذكَّرَ إسْمَهُ. ولقد مَرَّتْ سنواتٌ عديدةٌ، والحقُّ يُقالُ، منذ أن
نسيتُهُ، في الأسبوع الأوّل أو الشهر الأوّل بعد أن أَدَرْتُ بِظَهري للبحر،
وأعْلَمُ حَقَّ المعرفة، أنّني لن أتذكَّرَهُ أَبَداً. وهو أيضا، وبدون شكّ، نسيَ
إسمي. كان يدعوني بِـالعَنيد الملعون. وأُشَكِّل واحداً من الذين اختفوا من حياته،
مثلما هو أَحَدُ الذين اختفوا من حياتي. ونفس الشيء ينطبق على الفتاة التي
كَلَّفَتْنِي طعنَةَ السكّين. إنْسَقْتُ مع التيّار. هي وأنا، كُنَّا نَعيشُ معاً.
وقد ضاجَعْتُها وضَاجَعَتْنِي مرّات عديدة، ولكن في النهاية أخذ كلّ واحد منّا
سبيلَهُ. كانت فتاةً جميلةً. أنَا أعشِقُ الفَتَيات الجميلات، النساء الجميلات.
وكُلَّمَا كُنَّ جميلات جدا، كلمّا كُنَّ سِرِّيّاتٍ، ولا أتَوَقَّفُ حتى أكتَشِفَ
سِرَّهُنَّ. ولكنّي، ومنذ أن عرفتُ طعنة السكين، فأنا حينما أرى امرأةً، أحياناً،
أَبْدَأُ في الرَّجَفَانِ من خوفٍ لا عقليٍّ. ولكنّ هذا الخوف، لم يكُنْ ينتابني سوى
في بعض الحالات، أنتِ تعرفين هذا. إنني أخشى السكّينَ المَشْحُوذ واللاَّمِع لتلك
الليلة. لا! ليس هذا! صرختُ في بطني.. وصرختُ، حقيقةً، من ذهول ومن تردّد جُنونيّ،
مأخوذا من الشفقة وبالقلق تجاه حامل السكّين الذي كان يُرِيدُ بي شَرّاً. كان
بإمكاننا أن نَتَفَاهَمَ دون اللجوء إلى العنف. كان صراخي يُشبِهُ صراخَ وسيطٍ
روحيّ على منصَّة يدخُل في غَشْيَةٍ. كان عليّ أن أفِرَّ، عَدْواً، ولكن لم يحدث
هذا. كنتُ مذهولاً، ومتأسِّفاً من أجله ومن أجلي. لم يكن علينا، أن نصل إلى هذا
أبداً. كنتُ أُمْسِكُ بسيجارة في يدي، في هذه اللحظة. وربما سقَطَتْ من يدي، حين
تلقّيتُ طعنةَ السكّين. ثم فقدتُ، بعدها، الوعيَ. وقُبَيْلَ أن أفْقِدَ وعيي،
رأيتُ كلّ شيء يضطرِبُ، يتضاعف مرّتين، ثلاث مرّات. كان الليل يُسْدِلُ خيوطَهُ في
هذه الفترة. وعندما عُدتُ إلى رُشْدِي، كان الظّلام سيِّدَ الموقف. ولم أكن أملك
أدنى فكرة عن الوقت. كنتُ أعرف، فقط، أنّ الجرح يؤلمني. كنت أعرفُ، فقط، أن
حَاسَّةَ البَصَر عادت إليَّ. عرفتُ هذا، شيئاً فشيئاً، وبطريقة مشوَّشَة
ومُلتَبِسَة، ثم بطريقة متدرِّجَة، وأكثر بعثا على الطمأنينة، ولكنّي أحسستُ
بِدُوَارٍ. وما أن أُغْلِقَ عينَيَّ حتّى أُحِسَّ بتحسن. مثلما هو الحالُ، الآنَ.
لا أريدُ، قطّ، أن أفتح عينَيَّ. أُحِسّ بالألم وأُحِس أنني مُرْهَقٌ. ولكنّي لا
أَشْعُرُ بِدُوّار الغنم. أُنْظُرِي، ها هو القَمَر صَعَد، مِنْ جديد، قُرْص أحمر
زَاهٍ مُشابِهٍ لقمر الفجر. [30] مع أن القمر لم يكن بَدْراً، بل كان اليوم الثاني
أو الثالث من الفترة التي يتضَاءَل فيها القَمَرُ. ويمكن أن يكون الموت في ضوء
القَمَر. والموت، بالنسبة لي، ليس مُشْكِلَةً، ولكن تَصَادَفَ أنني ما زلتُ قادراً
على الاختيار. ولا ينفَعُ في شيء، كونُ هذه الليلة المقمرة جميلةً. وأنا لا دخل لي
في هذا. البدرُ يتسلل عبر النوافذ. البدرُ رائِعٌ. كان يتوجّب عليّ أن أكتب لكِ
رسالة. كتبتُ لكِ عدة رسائل، ولكن لَمْ أُنْهِهَا. وثمة رسائل عديدة، يتوجب عليّ
أن أكتبها، عشرين، ثلاثين سنة، ربّما، ولكني لَمْ أَكْتُبْهَا. أحياناً، كتبتُ
رسائل، ولكني لم أَضَعْهَا في البريد. الأحرى أن أقول إني لم أُكَاتِبْ أحداً.
ولستُ مستعدّاً لاتصال بأيٍّ كَانَ. ومثلما العقد مع الموت، الذي وضعْتُ على أسفله
توقيعي منذ زمن. أنا منهوكُ القِوَى. لقد ضِقْتُ ذِرْعا. وها قد مرّتْ شهورٌ
وشهورٌ، لَمْ أَقُم فيها بأيّ شيء، والديون بدأتْ تَتَرَاكَمُ وتدفنني، كما لو أنّ
الأرضَ تمتصُّني في حُمَمِ الجحيم. أعرف كيف أحتمي في حُضور الشرّ، ولكنّ احتراسي
يُعادِل، أيضاً، تَحَدٍّ موجّه لنفسي. لقد مَرَّتْ ثلاثة أشْهُر بالكمال والتّمام
وأنَا أحترِسُ من أن أؤدّي خدمةً لنفسي من خلال القيام ببعض الأذى. وكذلك في ما
بَعْدَ هذه الظهيرة، استسلمتُ للأَلَم مرة أخرى، تَعِباً إلى حَدِّ تسليم روحي.
"كوان"، عِقْصَة الرّوح. إنّ إسْمَهَا جميلٌ إلى درجة أنّني أحلُمُ به
طولَ اللّيل. لقد ضاجعْتُها بسبب اسمها. ويبدو أن موتَ "إِيتّي" هو السببُ
الرئيسِيُّ لِوَهني الجسديّ والذهنيّ. منذُ أن ماتَتْ، تَصَوَّرْتُ أنّه لم تَعُدْ
لي، قطُّ، القوّةُ لمضاجعة أي امرأة، ولكني لا أعرف أينَ وجدتُ الطاقة الإضافية
التي بَذَلْتُهَا في مضاجعاتنا الوحشيّة والمُلْتَهِبَة. انتهتْ فترة التعقيدات
والتجميد والمماطلات. كانت تُحضِرُ لي رسائِلَكِ. وَوَجَدْنَا نفْسَيْنَا
وَحِيدَيْن في منزل مهجورٍ في شَرْنَقَة الضباب، في أتون الشمس المخبول.
أَتَنَاوَلُ، في كثير من الأحيان، مُنوّمات وبربيتوريّات، والموتُ يسكُنُ أفكاري.
وقد اختلط عليّ الأمرُ، كلية، حين تصورتُ أن الموتَ في مُتَنَاوَل يدي. وهو تقديرٌ
مغلوطٌ، بشكل كليّ، من جانبي. ما كان عليَّ أن أُضَاجِعَهَا، ليس لأنّي أخشى
الموتَ، ولكنّي كنتُ أعرفُ أنّه ما كان عليَّ أن أُضاجِعَهَا. ولكن، من جهة أخرى،
كنتُ أريدُ أن أموتَ وأنا بصدد ممارسة الحبّ. الموتُ من جرّاء أزمة قلبية. الموتُ
من اللَّذَّة. ولكنّي لَمْ أَمُتْ، أنا فقط مُنْهَكٌ وحزينٌ وضائع ومُضْطَرِبٌ
وقَلِقٌ. أردتُ مضاجَعَتَهَا لأني كنتُ أعرفُ أنّ الأمرَ محظورٌ ولأنه كانت لديّ
رغبةٌ في[31] انتهاك ما هو محظورٌ. أنا ذو مِزَاج مستفِزّ. كنتُ أريد أن أستخفّ بـ
المحرمَّات، وأُوَاصِل التحدّي، أيضا وأيضاً، وأن أُلَطِّخَ السماءَ والقَمَرَ
والنجومَ. كنت أريد أن أرتكِبَ جريمة و أُجَلِّلَ الكونَ بالحدادِ. الاستخفاف
بالمحرَّمَات، أيْضاً وأيضاً. ربما كانت تحبّني. إلتقَيْنَا، مرّات عديدة،
وتحادَثْنَا مرّات عديدة. وقد اختلطَ عليها الأَمْرُ، إذا كانتْ تعتقد أنني إنسانٌ
وديعٌ. ففي الواقع، أنا وديعٌ مع النساء، بقدر ما أنا وديعٌ مع النساء اللائي
أريدُ مُضَاجَعَتَهُنَّ. أعرف كيف أتَحَدَّثُ إليهنَّ بكلماتٍ جذّابة حين أشاء.
وأنا قادرٌ على الإيهام بأنّني أمتَلِكُ، كليّةً، فنَّ التَّحَادُث، حين أشاءُ.
وأستطيع أن أَظْهَرَ بِمَظْهَر العَاشِقِ الجيّد، حين أشاءُ. خَرَجْنَا للتنزُّهِ
في الحقول، ثُمَّ عُدْنَا، هنا، إلى المنزل المهجور والهادئ. كان الجوّ بارداً،
ومن نافل القول أن أُذَكِّرَ به. تمدَّدَتْ على سريري، لأنَّهُ كان المكانَ
الوحيدَ النظيفَ شيئاً مَا. كانتْ راحتا يَدَيْهَا تَعْرَقَان من التأثُّرِ.
كُنَّا بَعِيدَيْنِ جِدّا من باقي العالَم. وكُنَّا، في الواقع، رأساً لِرَأْسٍ.
تناولتْ كتاباً وطَفِقَتْ تقرأ فيه. أمّا أنا فقد كنتُ أُدَخِّنُ في صمتٍ، على
طاولة اشتغالي. الشَّمْسُ المارّة بالقرب من الشفق تَتَسَلَّلُ من خلال شقوق الحيطان،
شقراءُ شَاحِبَةٌ ومُنْتَشِرَةٌ. وقد حَدَثَ لي أن تَوَاجَدْتُ في نفس الغرفة مع
امرأة دون أن يستتبع ذلك فِعْلٌ جِنْسِيٌّ. نساء عديداتٌ. مرات عديدة. مُمَدَّدَةٌ
على هذه الطريقة، وأنا مُعَذَّبٌ، ولكن أحيانا مستسلمٌ: فَبِمُجَرَّدِ ما أن
تَمُرَّ الليالي من دون جِنْسٍ، حتى تُصبِحَ جميلةً جدّا. فقط علاقات من النوع
الذي يربط بين صديق وصديقة أو بين أخ وأُخْتٍ. ربّما كانت "كوان"
تنتابها رغبةٌ في مضاجعتي، ولكنه كان مزاجاً عابراً بدون شكٍّ. وللحقّ، ما كان
عليَّ أن أَنْتَهِزَ الفرصةَ. أنتِ تعرفينَ أنَّ هذا ما أعتقدهُ، حقيقةً. ولكنّ
الظلامَ، في الخارج، كان يتجسَّدُ، وكانت الشمس تختفي خلف الجبل. ولم يكن في
المنزل إلاَّ وُضُوحُ الشَّفَق الشاحبُ. نَظَرْتُ إليها. كانت نائمةً أو على
الأقلّ كانتْ عيناها مُغْلَقَتَيْنِ، والكِتَابُ على صدرها، وجسدُهَا مُمَدَّدٌ
على طوله. لِمَاذا لَمْ تَضْطَجِعْ على إحدى جنبيْهَا أو بِسَاقٍ مثنيّة، بما أنها
كانت يافعةً وجميلة؟ أَلَمْ تَكْتَشِفْ أنني لم أَكُنْ في حالتي الطبيعيّة؟ إنّ
جُزَيْئَات الجنون الهائج في قلبي يُمْكِنُهَا أنْ تلْتَحِمَ في إعصارٍ في أيّة
لحظة. إنها لم تَشُكَّ، إذاً، أنّها كانت خلال هذه الأشهر الثلاثة تتجوّلُ مع
مجنون؟ وأنَّهَا كانتْ[32] تعتني بِمودّة مجنون؟ والتي هي في هذه اللحظة،
مُمَدَّدَةٌ على سريرِ مجنونٍ في منزل مهجورٍ حيث يُوجَدَانِ وَحِيدَيْنِ؟ أَلَمْ
تلاحِظْ، أبداً، وخلال ثلاثة أشهر منصرِمَة، علامات انحراف وغياب في عينَيَّ؟
أَلَمْ تطرَحْ، أبداً، أَلَمْ تُشَكِّكْ في تصرُّفَاتِي وفي أقوالي؟ أم هل
سَلَكْتُ، حقيقةً، في حضورِهَا مَسْلَكاً حَسَناً؟ لقد كان صَدْرُهَا كبيرا جدّاً
بحيث يَحُولُ دون أنْ تكونَ جميلةً، حقيقةً. كَانَ يفوحُ منها خليطٌ من العَرَق
ومن العِطْر. وكان قلبها يدقُّ بقوة. ظللتُ، لفترة طويلة، جالسا وأنا أُنْصِتُ
لدقّات قَلْبِهَا- فترة طويلة جعلتْنِي أنسى، تقريباً، أيَّ شيء آخَرَ. بل إنّي
قلتُ لها إنّ قلبها يدقّ بقوة، كما لو كان فعلاً يبعثُ على تهمة. ثمّ إنّ الأمرَ
كان قَدْ قُضِيَ. كَانتِ الرَّغْبَةُ في قمّة حالتها الخالصة، ومرة أخرى كانت
متجرِّدَةً من الحُبّ. كُنتُ أعتقدُ أنني عاجزاً، من الناحية الجنسيّة، ولكنها
تكفّلتْ بِأن تُثْبِتَ لي عكسَ ذلك. لا أتوقف عن القول إنّني أعاني من هذا أو من
ذاك. كيف نُسمّي هذه الأشياء بعبارات عيادية؟ لا أستطيع أنْ أتذَكَّرَهَا، بلْ
ربّما لن أتذكّرَهَا على الإطلاق. أنتِ تعرفين، حين يكون بيننا شيءٌ ليس على ما
يُرامُ ونكونُ قد عمِلْنَا مِن الحَبَّة قُبَّة؟ ولكنْ ما كان علينا أن نُمارِسَ
المُضَاجَعَة. بَكَتْ. وأنا، أيضاً، أحسَسْتُنِي مُخطئاً. إنّها صديقتُكِ.
لقد مَاتتْ "إيتّي" للتوّ. إحساسي بالذنب آتٍ، ربّما، من هذين
العامِلَيْن. لقد حاولتِ، أنتِ، دائماً أن تَتَحَمَّلِينِي منذ أن تَعَارَفْنَا.
لقد بحثتِ لي دائماً عن أعذار. أنتِ ذهبتِ إلى جنازة "إيتّي". وأنا لَم
أذهبْ إليها. الجنازة في "واتْ تَاتُّونْغْ". جنازة على مَقاسِهَا. أنتِ
ذهبتِ إلى الجنازة في الوقت الذي كنتِ فيه، قادرةً على عدم الذهاب. وأنا لم أذهبْ
إلى الجنازة في الوقت الذي كان عليَّ فيه الذهابُ. لقد كنتُ في منتهى الثمالة من
الصباح إلى المساء، منذ أن ماتتْ. هاتفتُ وَالِدَيْ "إيتّي" ليأتيا
للبحث عن جثمان ابنتهما، والقيام بالأشياء الضرورية. هربتُ. كنتُ ثَمِلاً. ولم أكن
قادِراً على القيام بأي شيء مفيد. لقد أقدمَتْ على الموت. جُعَّة ومنوِّمات. كان
فَمُهَا مليئاً بالدمّ، وباللُّعاب، وكانت الأصابعُ منكمِشَةً، وكان الذراعان
مثلما الساقان مُتَوَتِّرَيْن، والجسدُ مُكَزَّزاً. أبواها كانا يعرفانها حقّ
المعرفة، وأنا لم أفعل أي شيء سيّء. كانت مراسيمُ الجنازة حزينةً. ماذا كنتِ
تُريدِينَنِي أن أفعل؟ جنازاتٌ على المَقاسِ وحزينةٌ، نعْثُرُ على الآلاف منها،
كلّ سنة، في "بانكوك"، ومن دَيْرٍ لآخَر. والناس لا يُعيرونَهَا، في
الحقيقة، [33] أيّ اهتمام. الناس، في "بانكوك"، لا يهتمّون سوى
بِتَعَرْقُلِ السَّيْر، وهُمْ قلِقُون من عدم استطاعتهم التَنَقُّلَ بسهولة. بعد
موت "إيتّي"، لم أَعُدْ أُعِيرُ الانتباهَ لأيّ شيءٍ. أهملتُ نفسي خلال
فترة طويلة. دون هدف. إلى الانحراف. إذاً، فَحِينَهَا لحِقْتِ بي وَوَضَعْتِنِي في
القطار الذي قَدِمَ بي إلى هذا المكان، وطَلَبْتِ من "كوان" أن تَعْثُرَ
لي على منزل للإيجار. وبالإضافة إلى هذا، كنتِ تُكاتِبِينَنِي كثيراً، مرة واحدة
في الأسبوع على الأقلّ. فاضطرّتْ "كوان" أن تتكلّف بإحضار رسائلكِ في
غالب الأحيان. وأحياناً كانت تأتي، فقط، لِتَنَسُّمِ أخباري، بِأَدَبٍ وبِخُشُونة
الأطفال. وهي ليست سوى امرأة تُحِسُّ بعزلتها. وأمّا أنا، فَكَمَا تعرفين، فإنسان
وَغْدٌ يُحِسّ بالعزلة، وبدأنا نقتَرِبُ من بعضِنَا البعض. واندهشتْ من كوني
اشتغلتُ، في الماضي، كَمُتَرْجِمة في l'USAID،
رغم أن اشتغالي لَمْ يَدُمْ طويلا. وقد سهَّل علينا، هذا، كثيراً التحادُثَ،
وضحكتْ، كثيراً، حين فسّرتُ لَهَا طبيعةَ الأمريكيين. وللحقيقة، رَاقَهَا كثيراً،
حينما قلتُ لها إنّ الأمريكيِّينَ إنسانيّون في البيوت وأنهم يُخطِئون حين يعتقدون
أنّ اللهَ إذا كان موجوداً، فَهُوَ بالضرورة أمريكيٌّ. وأضفتُ أنّ حُلم
الأمريكيين هو السّيطرةُ على العالَم بأسره عَبْرَ التحكُّم من بُعْد. كانت تُوقِف
شاحِنَتَهَا اليابانيّة الصغيرة في القرية، ومن هناك تأتي لرؤيتي هنا. أحيانا تأتي
مشياً، وأحياناً أخرى تستعير دَرَّاجَةً هوائيّةً من أحد القرويين وتَدْفَعُ بِهَا
عبر كُتَل أعشاب البستان، تضغط على الجرس الصغير وتناديني-"ماذا تفعلُ؟
هَلاَّ تُريدُ أن ترتدي ثيابك المحتشمة مرة واحدة على الأقلّ؟ لقد جاءتكَ زيارةٌ
نسائية! أحيانا تتسلّى بتقليد لهجة الشّمال، وهو ما يجعلني أعْثُرُ لديها على
جاذبيّة مُدهِشَة. ولم يمضِ وقت طويل، قبل أن تتعوَّدَ على رؤيتي كُلَّ يوم ،
تقريباً، مساءً بعد انتهائها من الشغل. تعوّدتُ على هذا، إلى حدّ أنها حين كانت
تتغيّبُ عن المجيء، كنتُ أُحِسُّ، بشكل غريب، أنني عاطل عن العمل وكَمَا لو أني
مُتَّجِهٌ نحو الانحراف. وأحيانا، حين كانت تعرف أنها لن تأتي في المساء، كانت
تمُرُّ في الصباح، فقط لِتَقُول لي ذلك. لا أعرف عنها، تقريباً، أيَّ شيء، سوى
أنها تملك منزلاً في "بانكوك"، وبأنّها تَعَافَتْ من القطيعة التي حدثتْ
مع عشيقها منذ ما يقارب السنة، والْتَجَأَتْ إلى هذا الجِماع الذي حَدَثَ هنا، دون
مشروع للعودة إلى "بانكوك" في مستقبل قريب. ثلاثة أشهر من فصل بارد.
سبعة وتسعون، ثمانية وتسعون يوماً، منذ أنْ تَعَارَفْنَا، وهي فترة طويلة سمحت
لعلاقاتنا الصَّدَاقِيَّة أن تُغَيِّرَ شَكْلَهَا ومظهرَهَا. ربّما بسبب[34]
العزلة والبعاد، بسبب السماء والجَبَل والغابة والنَّهْر السّريع الجَرَيَان
والضباب في الشفق. إطارُ الحياة الجديدُ، هذا، هو أبعد من كلّ كانت تشكله حياتي في
"بانكوك". دَعَتْنِي إلى جولة طويلة، وكي أكونَ لطيفاً، قلتُ لها:
"مُوَافِق". استَعَارَتْ دراجة نارية من أحد القرويين. سأَلَتْنِي:
"أين تريد أن نذهب؟" قلت لها: "لرؤية النّهر". فَقَدْ مرّ
وقتٌ طويل منذ آخر زيارة جلستُ فيها على ضفّة نهر، وأنا أتأمّلُ انسياب الماء.
مَرَّ وقتٌ طويلٌ وأنا أَوَدُّ أن أقول لأَحَدٍ مَا، كَمْ أُحِبُّ الأنهارَ.
وَجَّهَتْنِي إلى ضفة ماء سريع الجَرَيَان على دراجتها النارية التي تَشُقُّ
الهواءَ المُتَجَمِّدَ، وهي راكبَةٌ خلفي مضغوطة ضدّ ظهري. برودةُ الهَوَاء
أَزْكَمَتْنِي. كان الشهر هو الثاني عشر حسب التقويم القَمَريّ، شهرُ الفيضانات،
والماءُ يَحْلِقُ الحدائق. إلى حدود هذه الفترة، لم نَكُنْ قد قمنا بالمضاجعة
بعدُ. جِلْدُ جسدِهَا جميلٌ ووَاضحٌ، وهي بَدينةٌ. وشَعَرُ رأسِها قصيرٌ، وهو ما
يُظهِرُ وَجْهاً كَبيراً. فِيمَ فكَّرَ عشيقُهَا السَّابِقُ كيْ يَتْرُكَهَا
وَحِيدةً هكذا؟ لم يكن النهرُ جميلاً- نهرٌ هائجٌ، نهرُ الموت. في تلك الفترة، لم
أكُنْ أُفَكِّرُ، حقيقةً، في مُضَاجَعَتِهَا. أو على الأقلّ، لم أكن قد وضعتُ
تَصَامِيمَ وخِطَطاً. كنتُ شارِدَ الفِكْر، ومُنْصَرِفاً بِكُلِّيَتِي إلى أفكاري
وتأمُّلاتِي حَوْل الموت. ولم أكن أتمنى إلاّ أن أَظَلَّ وحدي كي أُوغِلَ في أعماق
نفسي. مَوْقِعُ إحراق الجثث مكانٌ جَيِّدٌ بالنسبة لي. موقع إحراق الجثث هو
المكانُ الذي كنتُ، قبل فترة غير بعيدة، أدخل إليه كي أستريحَ، جثة بدون أهلٍ، جثة
بدون إسم. موقع إحراق الجثث-وليس مستشفى الأمراض العقلية أو السجن. ليس على
الإطلاق. في أعماق نفسي تتحرَّكُ أَمْزِجَةٌ غير مُستَقِرَّة خارجة عن المعايير.
أنا قادرٌ على أن أقتُلَ. هي لا تعرفُ هذا. هي لا تعرف أنني فكّرتُ، في الماضي، في
القتل، وأفكّرُ فيه حالياً، وسأُواصِلُ التفكير في المستقبل. لم أقتُلْ أَبَداً،
ولكنّي أتمنى أن أَقْتُلَ. أُريدُ أن أعرف ما الذي يُحسُّهُ قاتِلٌ حين يمارس
عملية القتل. ولكنّي أخفي، بعنايةٍ، هذا الاندفاع. إنّ عمليةَ القتلِ تجعلني أرتعد
من الخوف، الخوف من ارتكاب القتل. ولكن تحت أشجار الشَّوْرَى العتيقة على ضفة
النهر، أتيتُ لأفكّر في شيء آخَرَ مختلف. إمرأةٌ وأنا... لِيَمْضِ ماضيها إلى
الجحيم! أحسَسْتُنِي شابّاً. أزهارٌ مُتَفَتِّحَةٌ، سماء منقشعة وصافيةٌ، هواءٌ
باردٌ في ما بعد ظهيرة فصل بارد، والهواء القادمٌ من النّهر الذي يصفع وَجْهِي
ويُسفِّلُ شَعَري. وامرأةٌ، إمرأةٌ حقيقيّةٌ، ليست كاريكاتير إمرأة، إمرأة
حقيقيةٌ، مُنْشَرِحَةٌ ونَيِّرَة، ثرثارة و[35] سريعة الضَّحك... مع إمرأة مثل
هذه، حياة جديدةٌ يجب أن تكون ممكنةً. موتٌ، انتحار وأمراض عقلية يجب طردها من
التفكير، ولكن بعد أن تأمَّلْتُ النَّهْرَ، خلال فترة طويلة، كنتُ ما أَزَالُ
كئيباً، وعَاوَدْتُ التَّفْكيرَ في الموت. آثارُ خُطَى الموت لم تكن قد امَّحَتْ،
قطّ، من ذاكرتي. النهر لم يكن جميلاً. لا أعرفُ، ربّما لم نَكُنْ في المكان الجيد.
كنا نَتَوَاجَدُ في طرف مَزَارِع أشجار "اللونجان"[1] de longanes.
وعلى الضفّة الأخرى تَتَجَاوَرُ حقول ذُرَةٍ وحقول تِبْغ وحقولُ حِنْطة السودان،
دون شكّ تحت مراقبة إدارة التنمية الفلاحية، بالإضافة إلى حقلٍ تنمو فيه أشجارُ تَمر
هنديّ حديثة العهد، بالكاد أطول من كائن بشريّ. وفي الجهة العليا لم يكن النَّهْرُ
جميلاً. الماءُ يَحْلِقُ البساتين، يجري بِقُوّة، سريعاً وعَكِراً، أحمر رماديا.
ربّما كان سيكون مظهرُهُ أفْضَلَ، لَوْ نُظِرَ إليهِ مِنْ بَعيدٍ، على ضياء
القَمَر أو على ضوء الشفق. ولكني لمْ أَطْلُبْ من "كوان" أن تأخذني لنرى
النهر في مكان آخَرَ. ظَلَلْنَا معاً واقِفَيْن وصامِتَيْن مثل عاشِقَيْن. لم
أَكُنْ أعرفُ فِيمَ تفكر فيه، ربما كانت تُفكّر في عشيقها السابق. ومن هنا، ذهبنا
إلى المدينة، والمدينة صغيرةٌ وبائسةٌ، وتوقفنا في مكتبة صغيرة، ثمّ في مقهى بائس.
كان المقهى عصرياً مثل المقاهي التي نَراهَا في كل مكان من "بانكوك"،
إلاّ أنه كان مهجوراً وصامتا. وكان فيه اختيار بين حلويات لذيذة. أحسستُ بسعادةٍ
في أن أَجِدَ نفسي جالساً في مقهى كهذا، مع روائح القهوة والحلويات الجيدة والطيبة،
وكذلك جوّ الهدوء والسكينة أيضاً. السيجارة كان لها مذاقٌ جيّدٌ. وقد حدث لي أن
كتبتُ في مكانٍ يُشبِهُ هذا المكانَ، قصائدَ لائقةً، أو جاءتني، أحياناً، أفكارٌ
مُناسِبَةٌ لِكتاباتٍ قادِمَةٍ. كانت جالسةً، وكانت ساقاها مُمَدّتَيْن بشكل
مُريحٍ، مستَنِدةً على الكرسيّ، وكانت تقرأ، وأحياناً تصقل، بِيَدها شَعَرها إلى
الوراء. كانت جلسَتُهَا طبيعيّةً ومُغْرِيَةً. وحين العودة إلى القرية، على
الدراجة النارية، وَاصَلَتْ معانقتي بشدّة، وِجْنَتُهَا مضغوطة إلى كَتِفي. شَعَر
رأسها الخَشِنُ، الذي يشبه شعر الأطفال، كان يثقب قماش قميصي، وينخز جِلْدِي. وقد
أَوْشَكْتُ أن أُشَقْلِبَ، عمداً، الدراجة الناريّة في الحفرة مرات عديدة، أو أن
أصدم الشجرات الكبيرةَ على جانبي الطريق، أو الشاحنات وعربات الفلاّحين الذين
يأتون في الاتجاه المعاكس. لا أريد أن أكون سعيداً جدا. فَمَا مِنْ مَرَّةٍ كُنتُ
فيها سعيداً جِدّا، إلاّ وجاءتني الرغبة في الانتحار. يبدو أنني سُحِرْتُ كي
أُحْرمَ مِنْ أن أكون سعيدا. يبدو أنّ السَّعَادة[36] شيءٌ مُحَرَّمٌ علَيَّ. يبدو
أنني أكثرُ وعياً من أيٍّ كان في العالَم بأن السَّعَادةَ شيءٌ عابِرٌ وهشٌّ.
شَمْسُ المساء الذهبيّةُ تَغْسِلُ المرزّات والبساتين، المنازل والأكواخ الصغيرة،
تغسلني وتغسلها، وتغسلُ أسفَلْت الطريق والأعمدة الكهربائيّة ونُصَب الكيلومترات
والقناطر ومجاري المياه، ولكنّ أشِعَّةَ الشمس لم تَجْعَلْ أحداً خَالِداً، مثلها
مثل البَدْرُ ومثل ضوء النيون الساطع. ضَمَّتْنِي إليها، بِقوّة، والسبب يعود، في
قسم كبير، إلى أنني كنتُ أقود الدراجة النارية بسرعة. فأنا لا أحبُّ أن أَظَلَّ
مقسوطاً على مقعد الدراجة النارية، فترةً طويلة. لقد قرفتُ من هذه الحياة. أريد أن
أصدِمَ شيئا كي أرى. أو أن أقفِزَ من جِسْر، وننتهي من الأمر. أَيُّ معنىً للبقاء
جالِساً أُعاني من تشنُّجات مُؤلِمَة في مُراقَبَة هذا وفي الحَذَر من ذاك،
واليدان والرِّجْلاَن منشغِلَةٌ بِشكلٍ دائم؟ فإذا ما وَقَعَ حَادِثٌ، فَلَنْ
يَكُونَ الأمرُ سيّئاً. أتمنّى أن يُصِيبَنِي حَادِثٌ مَا كي أُغَيِّرَ سَيْر
الأشياء، ولو على الأقلّ، من أَجْلِ معرفة ما الذي سيتَغَيَّرُ وكَيْف. رُبَّمَا
إذا كنتُ قد قرَّرْتُ مضاجَعَتَهَا، فربّما، فقط، كي أرى كيف ستتغَيَّرُ العلاقةُ
بينها وبيني. هي تَثِقُ فِيَّ لأنني صديقُكِ، ولأنّها، بدون شكّ، تعتقدُ أنني شخصٌ
جيِّدٌ مثلكِ. لا أُريدُ، والحقّ يُقالُ، أن أتسبَّبَ في المزيد من المَشَاكِل.
كفى هذه المشاكل. ولكنّ مُضاجَعَةَ "كْوَان" هي التعقيدُ الأحدثُ عهدا.
تَخَيَّلِي أنها تريدُ بعض الأشياء الغبيّة، مثل الزواج وإنجاب طفل! أنا لَمْ
أُخْلَقْ لقضاء حياتي مع أيٍّ كان، ولم أُخْلَقْ لأُنْجِبَ أطفالا. أعرف هذه الأشياء
عبر التجربة. فأنا في حالة إفلاسٍ، إفلاس أخلاقي. وسيكون من الصعب عليَّ، من دون
شكّ، أن أُشْفَى من هذا المرض. وإذا ما توصلتُ إلى الشفاء، فربّما سأنْجحُ في
العثور على عَمَلٍ مَا. وهو ما أتمنّاهُ. رُبَّ شيء قليلٍ أفضلُ من لا شيء. ولكنّي
لَمْ أَقُمْ بأيّ شيء ملموس، أبداً، لحدّ الآن، في أي ميدانٍ، وآخُذُ
الأموالَ التي تُرْسِلِينَهَا لي كلَّ شهر. آهٍ، لقد مللتُ من اضطراري للهروب
مرَّةً أخرى. أحياناً أفكِّرُ في الرحيل من هنا، الهروب مثلما سبق لي أن فَعلْتُ،
والتيه بلا هَدَفٍ هنا وهناك في أي مكان، والنوم لدى هذا الصديقٍ أو ذاك، السَّفَر
في شاحنةِ نقلٍ عمومية أو في قِطَار. وأحيانا[37] كثرةُ السَّفَر تُتْعِبُنِي،
وأخْرُجُ منها منهوك القوى، ولكنّي أَعْشِقُ هذا. أَوْ رُبَّمَا الهروبُ في ثمالة
دائمةٍ، يوما بعد آخَر، ليلة بعد أخرى. أنتِ تخافين أن أصير مجنوناً. قُلْتِ لي
بأنّه فيما يَخُصُّكِ، فأنتِ لَنْ تسمِحِي أبداً برؤيتي أعيش على هذه الحالة،
وحين قَبِلْتُ القدوم إلى هذا المكان كما كانت رغبتُكِ أنتِ، وسقطتُ، هنا أيضاً في
وَرْطات. وظلّت ديوني القديمةُ غيرَ مدفوعةٍ. أنتِ تعرفين، ودون أن أُحْصي ما
أَدِينُ لَكِ بِهِ، كان رائِعاً هذا التَّسْليفُ الذي مَنَحنِي إيّاه كُلُّ
دَائِنيِيَّ مُجتَمِعين، إنها عشرات الآلاف "بهت" bahts(عملة تايلاندا الوطنية) التي أنا مَدِينٌ بِهَا، ولَمْ أفعل
بأصابعي العشرة شيئاً عَدَا أَنْ أُصبِحَ مجنوناً، مع مرور الزمن.
"كوان" ليس لها حظٌّ. بسببي سقطتْ "إيتّي" في الجحيم، وهو
السبب الذي سَقَطْتُ أنا أَيْضاً مِن أجلِهِ في الجحيم. "كوان" هي بصدد
السقوط في الجحيم، وهو السبب الذي من أجله سأسقطُ، من جديد، في الجحيم، أنا أيضاً،
في الوقت الذي كنتُ فيه منهمكا في تسلُّقِ مَمَرَّات الصخور نحو الضياء. لماذ يُوجَدُ
كُلُّ هؤلاء الناس المتوحّدين؟ إنّ أدنى ابن عاهرة في "بانكوك" يُحسُّ
نفسَهُ وحيداً ويبحثُ، لنفسه، عن شخص ما. السبب، رُبَّمَا، هو أنني لَعبتُ دَوْرَ
شخصٍ جيد، رقيق وطيّب(وهو دورٌ يُتقنُهُ كثيرون آخرونَ بشكلٍ أفضلَ منّي) في كلّ
مرة إلتقيتُ فيها بِهَا. فَهَلْ، إذاً، لَمْ تَشُكَّ، أبداً، في أنها تُمارِسُ
المُضَاجَعَة مع حيوان متوحِّش؟ خَسِئَتْ فَلْتَذْهَبْ! فلتَذْهَبْ لِتَبْحَثَ
عَمَّنْ يُضاجِعُهَا! فهل يمكن أن تكونَ من هذه النساء اللواتي نَجُرُّهُنَّ مِنْ
رَأْسِيّة الرَّسَن إلى العيادة من أجل أن يُجهِضْنَ؟ فَلْتَنْصَرِفْ! الليل
يتقدَّمُ. عشرة أو إثنا عشر حبّة مُهدِّئات يمكن أن تُلائِمَنِي. هذه، هي ليلتي.
أهلاً وسهلاً إلى ليلتي الأخيرة. والفجرُ، غداً، سيكونُ، من دون شكّ، فَجْرِي
الأخير. أنا وُلِدْتُ فَجْراً. هذا ما قالَتْهُ لي أُمّي. حين وُلِدتُ، كان كلُّ جسدي،
ووجهي كله مُغَطًّى بِزَغَبٍ لَزِجٍ من الدمّ. كانت فمي مفتوحةً على مصراعيها على
تكشير أنياب، وقلتُ "أنا أريد... أنا جائع"...لا، أنا أمزحُ. ما هو
صحيحٌ، هو أنّي وُلِدْتُ في الفجر- وِلاَدَة رومانطيقية، فجر شهر يونيو،
بُرْج الجوزاء، بُرْج التَّزَاوُج. وبِفَضْل مُعَايَنَةِ قَابِلَةٍ، فإنّ شَخْصاً،
مثلي، وَجَدَ الوسيلةَ لِوِلاَدَة رومانطيقية، على مُنخُل من خيزُرَان مَوْضُون،
على ضوءِ شُعْلَةٍ ومصباح، يُحيطُ بالمكان ساتِرٌ خفيفٌ من المطر. المكان الذي
وُلِدْتُ فيه، هو قريةٌ رائِعَةٌ، "بريكنامدونغ". لا أخفي أنني أتمنى
لنفسي موتاً جميلاً، وإذا لم يكُنْ ذلك ممكناً فأتمنى [38] ألاّ يَكونَ موتاً
فظيعاً جدّاً، لأنّ الحياةَ تكفيها الفظاعةُ التي هي عليه. ولكنْ إذا كان عليّ أن
أموتَ موتاً فظيعاً، فالأمرُ لا يَهُمُّ، لأنّي لن أكونَ الوحيدَ في جنّة الفردوس،
نظراً لأنّ كثيراً من النّاس يموتون بطريقة فظيعةٍ كلَّ يوم من السنة. ولو أنَّكِ
تَنْتَبِهِينَ، فقط، بعضَ الشيء، إلى الإعلانات الخاصّة بالوَفَيَات في الجرائد،
فسوف تَرَيْنَ أنه توجد حالات وفاة فظيعة كلّ يوم. ونحن البشر نَموت كلَّ يوم.
كلُّ العالَم يموتُ. الحقُّ في الوفاة هو حقٌّ غيرُ قابِلٍ للتقادُم لكل فرد.
"بوذا"، أيضاً، ماتَ، بعد أن التَهَمَ خنزيراً فاسِداً، وقبل أنْ يموت،
قال: "يا أتباعي(تلاميذي)، لا ترتكبوا أيَّ عمل مُتَهَوِّرٍ."
"القيصر" تمّ طعنُهُ، وقَبْلَ أن يموتَ، قال: " Et tu Brute?"، و"بيتهوفن"، والّذي كان، مُلزَماً في الفراش،
طَرِيحاً، في ليلة رَعْدٍ، انْتَصَبَ، فجأةً، على مُؤخِّرَتِهِ، أَشَارَ بأصبعه
نحو السماء وسَقَط، من جديد، ميّتاً. يُقالُ إنّ الفيلسوف الكبير
"فولتير"، قَبْلَ وفاته، فَقَدَ عقلَه، إلى درجة أنّه كان يأْكُلُ
بِرَازَهُ. ويَجِبُ أن يكونَ سعيداً، لأنه لم يطلب بِرَازَ الآخَرين! المُفَكِّرُ
الكبيرُ "شوبنهاور" كان قد ماتَ، حين تَسَبَّبَتِ الغازاتُ الصاعدةُ من
معدته في طرد وإسقاط طَقْمَ أسنانِهِ، وَسَط تأثُّرٍ كبيرٍ من تلامذته الذين كانوا
مُجتَمِعين من حوله. المسيحُ ماتَ على الصليب. هَلْ كُنْتِ هُناكَ، أيضاً، اليوم
الذي وُضِعَ فيه على الصّليب؟ كثيرٌ مِنَ الأموات هُمْ من الشخصيات المَهِيبَة...
ذات يوم سَتَمُوتينَ، وسأموتُ. ذات يوم سيمُوتُ الكُلُّ، بِنَفْس الطّريقة التي لم
يكن فيها أَحَدٌ، في أحد الأيام، قَدْ خُلِقَ بعدُ. عالَم ما قبل بُزُوغ
البشرية... كنتُ أتمنى لو أني رأيتُ العالَم قبل أن يُخْلَقَ الإنسانُ، وبعد أن
يختفي الجِنْسُ البَشَريُّ. لا أحدَ يهتمُّ بهذا سِوَايَ وبعض علماء الآثار في
الكواكب الأخرى. أَلَمْ أَقُلْ لكِ، من قبل، إنّ أُمِّي انتحرتْ؟ يبدو لي أنّ
الجوابَ سيكونُ بالنفي، أو أني إذا ما أخبرتكِ، فإني فعلتُهُ، فقط، في أفكاري. لا
يُؤَثِّرُ فِيَّ أَحَدٌ، أبداً، حين يقول لي إنّ أُمَّهُ انتحرتْ، وإنه هو، أيضاً،
يتأهَّبُ للانتحار. أمّا، الآن، فأتَرَجَّاكُمْ، إِنْتَحِرُوا إذاً! إنّه آخِرُ
مَخْرَج طَوارِئ، وهو مَخْرَجٌ شعبيٌّ جدّا. الأمرُ يُشبِهُ الأغاني، فبعضُ
الأغاني جميلةٌ، ولكنَّهَا شعبية، بِشَكْلٍ مُبَالَغٍ فيه، وبسرعةٍ تُصبحُ
مُحزِنَةً، بَدَلَ أن تُثِيرَ الإعجَابَ. السِّعْرُ الرخيص يخلُقُ الوُفْرَةَ،
السِّعْرُ الرخيصُ يُصبِح عاديا. والشيءُ نفسُهُ ينطبق على الانتحار. من الممكن
جدّاً أن أختارَ الحَياة. الحياةُ غريبةٌ جدا. ما الذي أستطيعُ [39] أن أفعَلَهُ
بنفسي وبالآخَرين؟ في زمانٍ مُعَيَّن، في مكان معين، إنّ كُلَّ ما هو موجودٌ-هو
الحياة. يُوجَدُ أنا وأنا. يوجد أنا والآخَرُون. وأنا، بالأحرى، لا مُبَالٍ
للعلاقات بين أنا وأنا. وأنا ليس عندي كبيرُ شيء أَنْتَظِرُه من نفسي. أنا
مُستبِدٌّ إزَاءَ نفسي. أنا "إيفان الرّهيب" تجاهَ الآخَرِينَ.
وأُحَاوِلُ، أيضاً، تجنُّبَهُمْ. ولكنّنا لا نعيش لِوَحْدِنَا. وهذا فِعْلٌ
مُضْنِكٌ. في العلاقة مع الآخَرينَ، يتوجَّبُ التحكُّمُ في الذات، بشكل كبيرٍ.
القابليّة للعَيْش مع الآخَرينَ تبدو معياراً للتفوق. إنّه شيءٌ يتوجَّبُ
تَعَلُّمُهُ. ولا تَنْقُصُ الدُّروسُ والعِبَرُ حول هذا الموضوع، منذُ الفلسفة
السياسيّة والدين والعادات إلى حدود آداب المائدة. لقد قرفتُ من بُطْئِنَا في
تعلُّم هذه الأشياء. أُريدُ أن أكون حُرّاً. أريد أن أكون واحداً مِنْ بين
أَوَائِلِ أفراد "الإنسان المُعَاصِر" Homo sapiens في العَالَم، وأُغَطِّي جسدي بِجِلْد حيوانٍ رَثٍّ، وآكُلَ
لحماً نيّئاً، محاطاً بمجموعة من الكِلاب القَذِرَة، وبعقلٍ حُرٍّ. ولكن بسبب
التحدّي الذي واجَهَتْنِي بِهِ أُمّي في الحُلم، قرَّرْتُ أن أُضاجِعَ صديقَتَكِ.
ربّما لأني أَردتُ أن أَجْرَحَ أُمّي في الصّميم. كلّ مرة طرحتِ عليَّ أسئلةً
بخصوص أُمّي، تَحَاشَيْتُهَا بتغيير موضوع المحادثة، أو بِالتِزَامِ صمتٍ عنيد.
إنّ الذي جعَلَكِ تقولين: "لن نتحدَّثَ أبداً عن هذا الموضوع، إذا كان
يُضايِقُكَ، سنتحدّث عنه حين سَتَكُونُ أكثر ارتخاءً وهدوءًا." ولكني لم
أَكُنْ، أبداً، بما يكفي من الراحة والسكينة كي أتحدث لكِ عن أُمّي. إنّ ما تريدين
معرفتَهُ يَتَجَاوَزُ، بشكل كبير، حالةَ أُمّي. ولكني لم أكنْ أبدا بما يكفي من
الراحة السكينة، كي أتحدث لكِ عن وَالِدَيَّ وعن طفولتي. إلتقيتُ أبي منذ ثمانية
أيّام، في "بريكنامدينغ". لقد شاخَ كثيراً، وما زال صموتاً، يُشبِهُ
بُرْجَ مُراقَبةٍ كَدِرَةٍ وبِدون عُمْر، مُحَاصَراً بَيْن شَبَكة شُقوق الهَرَم
وبين تنفُّس فَرَاغِهِ الدَّاخِلِي المُفَرَّى من الحَزَاز والذي يُسْعِدُ البُّومَ
وأسرابَ الخفافيش. يبدو أنني، بالنسبة له، لستُ إلاّ رَجُلاً مُفْلِساً بين كلّ
الرجال المُفْلِسِين، مُفْلِس كما كان هو في الماضي. تَصَرَّفَ معي بِرِقَّةٍ، نظر
إليَّ بِشَفَقة. أُريدُ أن يموتَ، ولكنه ما زال، دائماً، على قيد الحياة، حياة
يعيشُهَا بالطريقة التي يراها الأفضلَ والأضمن والأقلّ مُضَايَقَة للآخَرِين
والأكثر نفعاً وفائدة له وللآخَرينَ. هو رَاهِبٌ. "بْهِيكْهو" bhikkhu. لقد عَثَرَ على طريق وُجُودٍ هادئ. ولكنّي وَاصَلْتُ شَقَّ
مَمَرٍّ[40] لي في الرُّكَام المُخْتَلِط والمتسلِّط للحياة. إنه لا يعرف شيئاً عن
مصائبي، وأنا حريصٌ على أن لا يَعْرِفَ عنهَا شيئاً. وليست لديّ أدنى نِيَة في أن
أجِدَ نفسي متورِّطاً في قَضَايَاهُ في أي مفترق طُرُق. إكتفيتُ بِزِيارتِهِ
باعتباره من مَعارِفِي القُدامى. عُدْتُ لزيارتِهِ لأنه كانت
رغبة"دِينْ". لم يكن غاضبا عليَّ لأيِّ سَبَبٍ كانَ. مثلما لم أكُنْ
غاضِباً عليه لأيِّ سَبَبٍ كَانَ. كنتُ أَكْرَهُهُ، ولكنَّ الحِقْدَ الذي كان
تِجَاهَهُ اختَفَى كُلّيِةً مع مُرور الزمن. بل إنّه شَجَّعَنِي، عبر لفٍّ
ودَوَرَان، بأن أَتَرَهَّبَ، ولكنّ كلَّ الرهبان يتحدّثون، بهذه الطريقة، وبدرجةٍ
خاصّة الرُّهْبانُ المُسِنُّونَ. ولكن حين يعرفون أننا لا نُريدُ شيئا من
بِضَاعَتِهِمْ، فإنهم لا يستطيعون أن يَمنَعُوا أنفسَهُمْ من التّباهي، واسترعاء
انْتِبَاهِنَا. أتمنى أنْ يموت بنفس الطريقة التي أحب أن أموتَ عليها. هيّا، مُتْ!
أتمنى أن أتحدث إليه، هكذا، بِلَهْجةٍ آمِرَةٍ. أُريدُ، فقط، أن أعرِفَ ما الذي
سيحدُثُ بمجرّد أن يموتَ. لو كانَ شخصيّةً في القصّة التي أكْتُبُهَا،
فَسَأَجْعَلُهُ يَمُوتُ. ولو كانت أُمّي ما تزالُ حيّة إلى اليوم، كنتُ أُحِبُّ أن
تموتَ. ولحسن الحظّ، فقد ماتت منذ زمان. هذا لا يمنع أنني لا أتوقّفُ عن أن
أَنْذُرَهَا للموت. أن تموتَ في الموت. ولم أستفق بعدُ من دهشتي من رؤيتها في
المنام. لقد رأيتُ أبي للتوّ، ولكني لا أَحْلُمُ به. ولْنَفْتَرِضْ أنّ أُمّي
ظهرَتْ في منامي كَمُمَثِّلَة للوعي، فإنّ أبي يستطيع أن يؤدي الدور نفسَه. يمكن
أن يتصدّى لهذه المهمة بطريقةٍ مُرضيّةٍ أيضا. أتَسَاءَلُ إنْ كانت
"كوان" سَتَصِيرُ حامِلا. فثمة مَخَاطِر من فترة الخصوبة هذه. لقد
التقَيْتُ بأبي. وهو ما يعني أنني أعود إلى "بريكنامْدِينْغْ". لقد
تحدثتُ لكِ، أحياناً، عن "بريكنامدينغ". "بريكنامدينغ"، هذه
المدينة اللعينة! "بريكنامدينغ"، مسقط رأسي حيثُ لم أرجِعْ منذ أربعة
عشر أو خمسة عشر عاماً. لقد جَرْجَرْتُ خِصْلَتَيَّ في كلّ مكان، وذهبتُ إلى أقصى
مكانٍ، ولكني لم أَعُدْ، أبداً، إلى "بريكنامدينغ" إلاّ قبل ثمانية
أيام. والحقّ يُقالً، إنّه يتوجب عليَّ أن أكون هناك، في هذه اللحظات، وليس هنا.
ففي "بريكنامدينغ"، يَتَوَجَّبُ عليّ أن أُتَابِعَ فترة النقاهة
الروحية. ولكنكِ لستِ في حاجةٍ، الآن، لِمَعْرِفَة سببِ عدم بقائي هناكَ. لن
نتحدّث عن "بريكنامدينغ"، على الأقلّ[41] ليس الآن. أنا تَعِبٌ. ومنحطٌّ
بشكل كبير جدا. لقد أَحرقْتُ "بريكنامدينغ" ألفَ مرة في أفكاري. حقولُها
القاحلة المُفَرْقِعَة، ومساحات نخيل السكر، ومنازلها وأكواخها وقطعان أبقارها
المتضوِّرَة جوعاً إلتَهَمَتْهَا النيرانُ في أفكاري. أُحِسّ بالبرد. هنا يُوجَدُ
بَرْدٌ جحيميٌّ. ولديَّ حساسيّة كبيرة تجاه كثرة برودة الجوّ. تنقُصُنِي
الفُكَاهَةُ. لَقَدْ تقلَّصَتْ فكاهتي. الفكاهة-الضحك تشبه الفكاهة-البطن. في
الزّمن الماضي، لم أَكُنْ أتوَقَّفُ عن إِضْحَاكِكِ. في تلك الفترة، كُنَّا
مُلْتَهِبَيْن حَماساً. في تلك الفترة، كانت الحياة مَا تَزَالُ جَميلةً. لم نَكُن
نتوقف عن الضحك. وفي جميع الحالات، أكثر من الآنَ. ما أُريدُ أن أقول حين بدَأْنَا
نقترب من بعضنا البعض، حين كُنَّا صَدِيقَيْن وحِينَ بدأْنَا نَعْشِقُ بعْضَنَا،
أي حين لم أَكُنْ، بعدُ، قد تعوَّدْتُ على العيش في وقتٍ غير مناسب، النوم في
النهار والعمل في الليل. وهذا المنزلُ، في النهاية، لمْ يَكُنْ سيّئاً، وخصوصا في
النهار. إنّ انشغالاتي في النهار هي انشغالاتٌ عاديّةٌ. أُهَيِّءُ أطباقاً بسيطةً
أو آكُلُ بعض الأشياء مُهَيَّأَة سَلَفا، أغسل الأواني في النّهر سريع الجريان.
أُنَظِّفُ بِالفَرْك الغلاّية والقِدر لطبخ الأُرْز كلّ يوم باستخدام الرَّمْل على
ضفّة النَّهر السّريع الجَرَيَان. وكلَّ يوم تأتي أسماكٌ لِتَلْتَهِمَ النفايات-
أسماك السِلَّوْر الرقطاء، والقوراميا والبُوريّ وأسماك أُخرى لا أعرف أسماءَهَا.
أسماكُ البوريّ أجملُ من الأسماك الأُخرى. ولهذه الأسماك مَيْلٌ نحو البَقْدونَس
وبُذَيْرات الصوجا. لو كنتُ أَصْطادُ لكانت غلّتي كبيرةً في كل يوم. البَقْدونَس
وبُذَيْرَات الصوجا. البَقْدونَس المقطَّع والدقيق، بذيرات الصوجا في
ذُنَيْبَاتِهِ. اليَعَاسِيبُ تَتَكاثر بسرعة. وتُشَكِّلُ طُعْماً رائعا. هل سبق
لكِ أن أَمْسَكْتِ بِيَعَاسِيب؟ عليكِ أنْ تتحرّكي دون إثارة أيّ جَلَبَة
خَلْفَهَا وتقبضي بِذَيْلِهَا بين الإبهام والسبابة، وإذا ما طويْتِ الذَّنَب
وقَرَّبْتِهِ من منقارها، فإنها تبتلِعُهُ بِنَهَمٍ، ولا تتوقّف عن التهمامهِ إلاّ
حين تَكْتَشِف أنّها منهمكة في افتراس نفسها وهي حيّة. إنّها حَشَرَاتٌ شَرِسَةٌ
وجميلةٌ. ولكني لم أعد أمسك، قطّ، بيعاسيب. ولم أَعُد أصطاد، قطّ، أيضاً. ولم تعد
لديّ حتى الرَّغْبَةُ في إزالة نسيج العنكبوت من السقوف، ليس لأنّ عندي التنبلة،
ولكنْ لأني أُشْفِق على العناكب. فَبُعَيْد التَّكْنِيس، تبدأ العَنَاكِبُ في نسج
بيوتها، وإذا بِالنَّسيج مُخْتَلِطاً مثلما كانَ من قبل. أَنْ أدَعَ للحيوات
الدُّنيا حَظَّهَا- هو مبدأٌ إلْتَقَطْتُهُ مِنْ [42]كِتَابٍ لا أَتَذَكَّرُهُ.
فَلْتَسْقُطْ كُلُّ الكُتُب في الجحيم! إنّني، والحقُّ يُقَالُ، لا أُحِبُّ هذه
العناكِبَ. فهي سمينة وَكَريهةٌ. بالإضافة إلى أَنَّها سامّةٌ. إنَّ لها، تقريباً،
حَجْمُ سَرَطاَناَت المَنْغروف[1]. ولحمُهَا هو تقريباً نفسه، إلاّ أنها أكثرُ إثارة للتقزّز.
بيُوتُها جميلةٌ جدّاً، جميلة إلى حدّ أنها، نفْسُهَا، كريهةٌ، وتمّ تصوُّرُها
مِثْلَ حُلم أحدِ المِعْمَارِيّين من الطِّرَاز الرّفيع، ولكن يمكن القول إنّها،
جميعاً من نفس الموديل. وهُنَا مَكْمَنُ حدود إمكانياتها. يُقالُ إنّ العنكبوتَ
الذي يذهب تَعَبُهُ سُدىً هو فَأْلٌ سَيّءٌ. أَيُّ صَوْتٍ يحْدُثُ حين تذهَبُ
أَتْعَابُ عنكبوت سُدىً؟ هُنَا، في سُكُونِ الليل، تنْبَعِث أصوات غريبة، بِاسْتِمْرار،
ولكن ما يَخُصّ صوتُ عنكبوت ذهبتْ أتعابُهُ سُدىً، فاتركيني أتحدث. وأمّا صوت
الوَزَغَة، فهو بالمُقَابِلِ، يُجمِّدُ الدِّمَاءَ. في الظلام، في الصمت، في
العزلة، فإنّ صرخة الوَزَغَة المتكرِّرة تُجَمِّدُ الدماء مِثْلَ استهلال(صراخ
الوليد) طِفْلٍ ميّت. في بعض الليالي تُدَوّي صرخَتُهَا مِنْ جَوْف شجرة ميّتة في
البستان، وفي ليالٍ أخرى تَنْبَعِثُ الصرخةُ من تَحْتِ السّقف، وفي ليالٍ أخرى،
تحت موطئ قَدَميَّ في أسفل سريري نفسِهِ. هذه الصرخة تُسَبِّبُ لي القُشَعْريرة.
أُحْدِثُ أصواتاً كي أَدْفَعَهُ للْفِرَار، ولكن لا شيء يُخيفُهُ. بالإضافة إلى
أنه لا تُوجَدُ واحِدَةٌ فقط. فهي في حدود أربعة أو خمسة أو سبعة أو ثمانية!
لَسْتُ مُتَأكِّداً. وأحيانا تلتَصِقُ بِدِعَامَاتِ النَّوَافِذِ. في الليل
أُضِيءُ المصباحَ وأجلسُ وأقْرَأُ أو أكْتُبُ. كثيرٌ من الحَشَرَات تَأْتِي لِتَمْرحَ
حول المصباح. لا أعرفُ أَيَّ نوعٍ هي، ولا أعرف من أين تأتي. الوَزَغَات تأتي،
خِلْسَةً، لاصطياد الحشَرَات، دون أن أَكْتَشِفَ هَذَا. وحين أَرْفَعُ رأسي أراها
تُثَبِّتُ فيَّ نَظَرَهَا بِكُدْمَاتِهَا الجَاحِظة. أَمُدُّ يَدِي نحو الحائط
لِطَرْدِهَا. فَتَفْتَحُ منَاقِيرَها كما لو أنّها تُريدُ أنْ تَعُضَّنِي. ولكنّي
لا أفعلُ أكثرَ مِمَّا فَعَلْتُ، وَأَدَعُهَا فَارِغَةً. ومَعَ كُلِّ هَذَا فأنَا
أريدُ أن أعرف إلى أَيِّ مَدىً تستطيع أن تَقْتَرِبَ مِنّي، ولكنّي أخافُ. إنّ
الوَزَغَات تُذكِّرُني بأشياء تتجاوز الطبيعيّ. في بعض الليالي، في الصمت الهادئ
والمدعومِ لِلَّيْل، حِينَ تأْتِي لِتَصْرُخَ بالقُرب منّي، أَشْعُرُ بالهلع
الشديد، إلى درجة أنني أصرخُ مِثْلَهَا. لا تَنْسَيْ أنني أعيشُ وحيداً،
وبَعِيدٌ من كلّ الناس. وَزَغَة! وَزَغَة! أصرخُ، مذعوراً، وأكْتَشِفُ أَنَّنِي أُحِسُّ
بنوع من اللذة الشاذَّة. نفس الصرخة، أربَع أو خمس مرّات. صوتي الأَجَشّ
والمُتَهَدِّج مثل صوت وَزَغَةٍ سَقِيمَة ومُعَمِّرَة. أَتَهَاوَى وأتمدَّد على
أرضية المنزل. أَزْحَفُ على صدري في الظلام.[43] أصرخُ: وَزَغة! وزغة! أتَجَوَّلُ
في أعماق كُتَلِ الجنونِ الجميلةِ جدا والسّاحِرة. أحياناً ينتابني الخوفُ من عدم
قدرتي على الخروج من هذه الوضعية، ولكني، أحياناً، أُحِسُّ بأنني مَا زِلْتُ لَمْ
أُوغِلْ بَعِيداً. لم أعد أمتلكُ، قطّ، قِوىً، ولم تَعُدْ لديّ محفّزات، قطّ. غير
أني لا أنهضُ لِفِعْلِ شَيْءٍ، أي الانخِرَاط في الكِتَابة. ولكنَّ مُضاجَعَةَ
"كوان"، جَعَلَ فِكرةَ الانتحار تَسْكُنُ تأمّلاتي وتُصْبِحُ مَلاذاً،
وهذا ما لا يُمْكِن الصّفح عنه. إنَّكِ تَلُومِينَنِي، دون شكٍّ. تُحِسّينَ أنَّني
أَثْقَلْتُ علَيْكِ. لم تَمْضِ ستةُ أشهر على وَفَاة "إيتّي"، وأنا
مسؤولٌ، في قسم كبير، على وفاتِهَا. لقد التقطتُ حياتَهَا، وغازَلْتُهَا حتى أبواب
الجحيم، ودفَعْتُ بها فيه دون رحمة ولا شفقة. إنّ عليَّ، والحقّ يُقالُ، أن
أَحْمِلَ الحداد عليها في هذه اللحظات. عليَّ أن ألبِسَ الحِدَادَ حتى نهاية
أيامي. ولكنّي لستُ حزيناً بِمَا فيه الكفاية، وكما يتوجّبُ عليّ أن أَكُونَ. لقد
غرقْتُ في الثَّمَل. وعانَقْتُ حُزْنِي كَصَابُورَة كي أَغْرَقَ في الثمالة. ولكن
فيما يخصُّكِ أنتِ، فإنه ما كان على "إيتّي" أن تَنْتَحِرَ. أنتِ
تعتقدين أنّ كُلَّ حياةٍ ثمينةٌ، حتى ولو كانتْ حياةَ واحدة من حاشية الملك أو
حياة مُومِس أو حَيَاةَ قَاتِلَةٍ. أنتِ تعتقدينَ بهذا، لأنكِ مثالِيَّةٌ
تَنْقُصُكِ تَجَارِبُ الحَياةِ، ولأنَّكِ إنسانةٌ طيِّبَةٌ وغبيّةٌ. ولَكِنْ،
فِيمَا يخُصُّنِي، ما كان عليها أن تَظَلَّ على قيد الحياة، ولو يوماً إضافيّاً
واحِداً. جَيِّدٌ أنها ماتت. لقدْ تأخَّرَ، والحَقُّ يقالُ، مَوْتُهَا. وأنا كذلك
أُضيعُ كثيراً من الوقت قبل أن أموت. كثير من الوقت الضائع، حقيقةً. عشراتٌ من
المرّات، كانَ عليّ أن أموتَ فيها، مثل المرّات العديدة التي تمنّيْتُ فيها موتَ
أُمِّي. كان عليَّ أن أكون ميتا منذ زمان. لاَ أَصْلُحُ لِشَيْءٍ في هذا العالَم.
إنّ العالَمَ سيُوَاصِلُ دورانهِ بِدُونِي، والعالَم سيُواصل مسيرَهُ نحو
الانحراف. والعالَم ليس به ما يُحَرِّكُهُ. لستُ قادِراً على تجنُّبِ صفيحة
الحياةِ الحادّةِ. إنّ إفلاسي كُلِيٌّ ولا عِلاَجَ لَهُ. إنّك تُحَرِّمِينَ عليّ
أنْ أُفَكِّرَ بِهذهِ الطريقة. في رسائلكِ تُحَرِّمِينَ علَيَّ أن أُفَكِّرَ
بهذِهِ الطريقة. في رسائلكِ تَنْتَبِهِينِ إلى ما تَكْتُبِينَهُ. تقولين لي إنّ
الموسيقى الخالِصَةَ هي مَلاَذٌ جيّدٌ. في رسائلكِ تَنْتَبِهينَ، جيداً، إلى ما
تكتبينَهُ. أنتِ تَخَافِينَ أن أتَعَامَلَ مع كلماتِكِ بِتهكُّمٍ واستهزاءٍ، وألاّ
أرى فيها إلاّ سلوى رخيصة. أنتِ بنفسكِ، تفكِّرينَ بِهذهِ الطَّريقة. أنتِ، أيضاً،
تستخْدِميِنَ الموسيقى الصافية كَمَلاَذٍ. لا حاجَةَ لي للعزاء. لا عزاءَ ضروري.
أنا وَطْوَاطٌ. هل تَرَيْنَ جَنَاحَيَّ ؟ أنا وَطْوَاطٌ، [44]الحيوان الذي
يَعْشِقُ الليلَ. أنا قائد أوركسترا شيطانية. هل تريدين أن تَسْمَعِي سمفونيّتي؟
لن أنتحر بِشَكْلٍ غبيٍّ. أُرِيدُ أنْ أَجِدَ لي مكاناً هادئاً حيث أسمعُ فيه
سمفونيَّتِي. لقد قرفتُ من الكلمات، ومع ذلك فسمفونيّتي مُشَكَلَّةٌ مِن
كلمات.
هوامش: الأرقام التي ترد في النص بين قوسين
معقوفين تشير إلى رقم الصفحة في النص الأصلي.نسابا
[1] عاصمة
اللاوس، تقع على نهر الميكونغ.
[2]مصباح ذو شعلة محمية من الرياح.
[3] "لونجان" شجر قريب من نوع أشجار
"ليتشي".
[4]شجر استوائيّ تنبثق من أغصانه جذورٌ جديدة.
محمد المزديوي. باريس

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق