الخميس، 11 أكتوبر 2012

ماري فرانس يونيسكو تكتب عن أبيها "المُضْطَهَد"


العدد الثاني والخمسون  ماري- فرانس يونيسكو بورتريه الكاتب في القرن
محمد المزديوي2009-07-18

  المكانة التي يحتلها الثلاثي الروماني «يوجين يونيسكو» و«ميرسيا إلياد» و«سيوران»، في الأدب والثقافة الفرنسيين كبيرة جدا، ومن النادر أن نعثر على أحد في الوسط الثقافي الفرنسي ينكر التأثير الذي مارسوه على العديد من المثقفين الفرنسيين وغير الفرنسيين. ولكن ما بدأ يلفت النظر، بصفة غير بريئة، في السنوات الأخيرة هو نوع من «صيد الساحرات» الذي طفق الكثيرُ من المثقفين الفرنسيين يمارسونه، وخصوصا الكتاب المنحدرين من رؤى ونزوعات صهيونية، ترى في الكثير من الكتاب الفرنسيين الكبار إمّا فاشيين أو أنهم معادون للسامية، مستفيدين من نكوص اليسار أو من انزلاق بعض اليساريين إلى اليمين في غياب(موت) أقطاب الفلسفة والفكر الكبار، ومن بينهم بيير بورديو وجيل دولوز وجاك ديريدا وغيرهم.



رأينا ممارسة «صيد الساحرات» في الهجوم الذي تعرض عليه سيلين وأيضا الهجوم الجارح الذي تعرض له جان جونيه، مؤخرا.  

في الآونة الأخيرة صدرت كتب «حاقدة» تنبش في ماضي وشباب هذا الثلاثي الروماني، ومن بينها كتاب «مارتا بيترو»: يونيسكو في بلد الأب» وكتاب «الكساندرا لافاستين»: «سيوران، إلياد، يونيسكو، نسيان الفاشية»، وقد شاءت ماري-فرانس يونيسكو، وهي ابنته(وكل فتاة بأبيها معجبة، كما تقول العرب)، أن تدافع عن أبيها وتفند مغالطات المتهجمين، ومن هنا كان هذا الكتاب الجميل الذي ارتأينا ترجمة أحد فصوله الشيقة، وهو بعنوان «المنفى»..  

 قصيدة صلاة

سماءٌ صغيرة، يا إلهي،

من أجل روحي الصغيرة،

يا إلهي أنا ورقة في مهبّ الريح

أنا بندقة

أنا ضفدعةٌ مذعورة

أنا عصفور جريح.

كلّ أعشاشي سُرِقتْ منّي

كل المقاليع جرحَتْني

يا إلهي الصغير، ارفعني

واجعلني أكون سعيدا

مثل البقرات ذوات القرون البريئة

مثل الكلاب ذوات عيون الملائكة

مثل النيلوفر

مثل الحَصَوات الناعمة.

نصّ

المنفى

المنفى باعتباره حنينا (رغبة في العودة)، يستوجب ما «قبل» المنفى، حالة امتلاء يُولّد توقفه الشعور بالمنفى. هذا الامتلاء عاشه يوجين يونيسكو في لاشابيل- أنتنيز، قرية صغيرة في المايينMayenne، حيث قضى سنوات طفولته والتي ظلّت فردوْسَه... ضائع مثل كل الفراديس. نعم في فردوس، بطبيعة الحال، ولكن بعيدا عن الزمن. «في لاشابيل-أنتنيز Chapelle-Anthenaise ، لم يكن للزمن وجودٌ. كنت أعيش في الحاضر. الحياة كانت نِعمة، فرحة الحياة[...]، الزمنُ كان عجلة، نعم، وكانت العجلة تدورُ من حولي وكنت أُحسُّني جامدا وخالدا؛ كنت مركز العالَم؛ لكن للأسف قوةً نابذة  دفعت بي إلى الحلبة، إلى الزمن.» أي نعم، إن المنفى، قبل كل شيء، وكما يقول سيورانCioran ، السقوط في الزمن. أمّا الفردوس فهو، أيضا، الضوءُ: «أتذكر أحد الصباحات السعيدة جدا والمضيئة جدا، حيث كنت أتوجه في ثياب يوم الأحد إلى الكنيسة. لا أزال أرى السماء الزرقاء، ولا أزال أرى في السماء قبّة الكنيسة. أسمع الأجراس. كانت ثمة سماء، وكانت ثمة أرضٌ، التزاوج الكامل ما بين السماء واٍلأرض[...]، اليونغيون (أتباع المحلل النفساني الشهير يونغ C.G. Jung)  يقولون بأننا نقاسي من الإحساس في دواخلنا بانفصال السماء والأرض.

«المنفى الأول كان هو العودة إلى باريس. «حين عدت إلى باريس، ثم في عمر الحادية عشر، كنت شقيا جدا. كان ينتباني الشعوربأني في سجن. حيطان باريس كانت تمثل هذا السجن، بمنازلها الكبيرة التي تشبه حيطان السجون».  المنفى الثاني كان هو الرحيل من فرنسا إلى رومانيا، وترك المشاهد العائلية وكذلك ترك اللغة الأمّ. «وصلتُ إلى بيخاريست حين كنت في عمر الثالثة عشرة ولم أعد إلى فرنسا إلاّ حين بلغت السادسة والعشرين من عمري. تعلمتُ اللغة الرومانية هناك. في سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة حصلت على معدلات سيئة في اللغة الرومانية، ولكني سرعان ما حصلت على معدلات جيدة في نفس اللغة في سن السابعة عشرة والثامنة عشرة. كنت قد تعلمت الكتابة. وطفقت أكتب قصائدي الأولى باللغة الرومانية. ولم أكن أكتب باللغة الفرنسية بشكل جيد. كنت لا أزال أرتكب بعض الأخطاء. حين عدت إلى فرنسا كنت أتقن اللغة الفرنسية، بطبيعة الحال، ولكني لم أكن أعرف الكتابة بها.  ما أقصده هو أني لم أكن أعرف أن أكتب من «الوجهة الأدبية». كان يتوجب عليّ أن أتأهّل من جديد. أعتقد أن هذا التعلّم، ونسيان التعلم، والتعلم من جديد، تمارين هامة. ثم إنه كان ثمّة تمزّقٌ، لأنني أحسستُ هناك بأني في منفى».

يعلّق يوجين يونيسكو، بسخرية، على انتمائه الثقافي المزدوج بالقول: «في مدرسة القرية الابتدائية تعلمتُ أن اللغة الفرنسية، التي كانت لغتي، هي أجمل لغة في العالم، وأن الفرنسيين هم أشجع شعب في العالم، وأنهم هزموا دائما أعداءهم[...]، وحين وصلتُ  بيخاريست، علموني أن لغتي، هي اللغة الرومانية وأنها هي أجملُ لغة في العالم، وبأن الرومانيين انتصروا دائما على أعدائهم[...]. لكن من حسن حظي أني في العام التالي توجهت إلى اليابان».

يوجد لدى يوجين يونيسكو منفى آخَرُ، المنفى الداخلي المرتبط بالانفصال عن الأقرباء(القريبين) والذين لا نستطيع أن نتتبع خياراتهم والتزاماتهم الأيديولوجية. هذا المنفى عاشه يوجين يونيسكو للمرة الأولى في رومانيا أثناء فترة التكرْكُد rhinocérite   الخضراء (يتحدث يونيسكو عن الأمر من خلال مسرحيته الكركدّن، مكتشفا تعبير التكركد وتعني مرض التحوّل إلى كركدن، وتعني من الناحية الأيديولوجية التأقلم مع كل الموضات وكل الأيديولوجيات) وشعر بها مرة ثانية في فرنسا ابتداء من سنوات الخمسينات أثناء التكركد rhinocérite  الحمراء. «كان لدي العديد من الأصدقاء. إلا أن البعض منهم انتقلوا ما بين سنتي 1932 و1936 إلى الفاشية. كما هو الحال اليوم مع المثقفين الذي أصبحوا «تقدميين»، كما يقولون، لأن الأمر كان موضة[...]. أنا لا أحبّ الكليشيهات «التقدمية» كما أني أمقت الكليشيهات الفاشية، ولديّ الانطباع اليوم بأنّ تقدميي اليوم هم، على نحو ما، فاشيّو الأمس».

تجارب المنفى الأخلاقي هذه بالإضافة إلى الرحيل من فرنسا إلى رومانيا في سن الثالثة عشرة، ومن رومانيا إلى فرنسا (ابتداءً من سنة 1937 والذي سيكون رحيلا نهائيا في سنة ١٩٤١)، كما أن فظاعة انغلاق الدول الشيوعية جعلته يحسّ، بعمق، بهشاشة واحتمال الانتماءات الوطنية، و«جوازات السفر» الثمينة وجوازات مرور هشّة تتيح الإقامة في المكان الذي نحس فيه بِألمَ أقلّ. هكذا جاءه حُلْم المنفيّ التموذجيّ(الأصلي) الذي راود عددا كبيرا من أصدقائه الرومانيين (ومن بينهم ميرسيا إليادMircea Eliade ) أو المنحدرين من بلدان أخرى من شرق أوروبا. حلم، أو هو بالأحرى كابوس رَجُل يجد نفسه من دون أن يعرف لماذا ولا كيف في بلد كان بَلَدَهُ، بلد هرب منه ولكن لا تزال حقائبه تربطه به، يظل هذا الحلمُ هو مصدرُ الرجل ذي الحقائب.

ثم شاءت الظروف أنه حتى هذا «البيت» أصبح لا يُطاق. « في باريس الفظيعة، في باريس هاته التي لا يمكن العيش فيها، وفي هذا الحيّ الذي لا يحتمل. [...] باريس اليوم أضحت نقيض الفردوس، المَطْهَر(مكان العذاب) أو الجحيم. من أجل العثور على مكان يمكن العيش فيه يتوجب البحث في مدن صغيرة مثل سويسرا الناطقة بالألمانية أو في المدن الباروكية أو روكوكو(طراز معماري بائد) منطقة بافيير. Bavière

 في هذا الصباح من

شهر حزيران على شاطئ البحر»

ولكن المنفى الأساسي والمؤلم بالنسبة ليوجين يونيسكو، المنفى الوحيد في واقع الأمر، هو المنفى الميتافيزيقي، أو بشكل أكثر دقة المنفى الروحي. المنفى الذي ظلّ- منذ قصائد مرحلة الشباب إلى «البحث المتقطّع»- يحاول أن يهرب منه. هذا المنفى هو خسارة حالة النعمة، السقوط من جديد في العتمة بعد التنوير، في الشكّ بعد الالتقاء بالوضوح، في اليومي بعد التجربة الصوفية. ومن المثير للدهشة أن المُؤلَّفَيْن معا لا يتطرقان، أو بالكاد، للتجربة الكبرى والنهائية التي عاشها يوجين يونيسكو في سنّ الثامنة عشرة في رومانيا والتي طبعت حياته إلى الأبد. تجربة «ضوء أكثر إضاءة من الضوء»، التي جعلته يستشفّ وطنه الحقيقيّ. هذه التجربة الصوفية، هذه الـ«ساتوري»...satori ( مصطلح بوذي  ياباني يعني اليقظة والتيقظ) هذا اللقاء مع «الظهور والتجلّي»، التقى بها، وسيلتقى بها من جديد ومن دون توقف، بحنين لم يَكل أبدا في «يوميات محطَّمَة» وفي «الحاضر الماضي» وفي «الماضي الحاضر» وفي «ما بين الحياة والحلم» وفي «ترياق» وفي» البحث المتقطّع».  «المتوحد»، وهي روايته الوحيدة، تنتهي بهذه الكلمات «شيء ما من هذا الضوء الذي وَلَجَني ظلّ في داخلي. وهو ما أعتبره آية. « هذه التجربة ظهرت أيضا في مسرحية «الكراسي»، مع التذكار القصيّ للـ«حديقة»: «كان في أقصى الحديقة... هنا كان... هنا كان... كان مكاناً، زمنا رائعا... لم أعُدْ أتذكر قطّ المكان... إنه بعيد جدّا... لم أعد أستطيع قطّ... اللحاق به... أين كان.»، وأيضا «قوية جدا، ضوء كبيرٌ اجتاح الخشبة من الباب الكبيرة ومن النوافذ التي استضاءت بقوة حين وصول الإمبراطور اللامرئيّ.» إنها أيضا المدينة المُشعّة في «قاتل غير مأجور»، المدينة المضيئة التي ذكّرتْ بيرينجيBérenger  هذه اللحظة حيثُ: «فجأة أصبح الفرحُ كبيرا جدا، زاحفا على كلّ الحدود والضوء كان أكثر بريقا، من دون أن يفقد شيئا من رقّته، كان من الحدة بحيث إنه كان صالحا للتنفّس. كيف يمكن لي أن أتحدث معكم عن الوميض الذي لا يُقارَن؟.. كان الأمر كما لو أنه كانت توجد أربع شموس في السماء.» إن تذكّر هذه التجربة يَظْهَرُ أيضا في نهاية «راجل الهواء»: «ربما سيذوب الثلج... ربما ستمتلئ الهوّات السحيقة... ربما... الحدائق... الحدائق...» وهي التجربة التي تريد الملكة ماري أن تُذكِّر بها الملك: «تذكّر، أرجوك، هذا الصباح من شهر حزيران على شاطئ البحر[...] حيث كانت البهجة تضيئُك وتدخل أعماقك. حصلتَ على هذه البهجة، كنتَ تقول بأنها توجد هنا، غير قابلة للتغيّر، خصبة، لا ينضب مَعينُها. إذا كنت قد قلتها، فستقولها. هذا الفجرُ الرائع كان يوجد بداخلك. إذا كان موجودا، فإنه لا يزال موجودا دائما. اكتشفه من جديد. في داخلك، ابحث عنه.» ولكنه لم يمسرح، بشكل حرفي، هذه التجربة المتوقفة إلاّ في «ضحايا الواجب»، في صعود وسقوط «شوبيرت» الباحث عن «مالوت»: «شوبيرت: لا مدينة، لا غابة، لا واد، لا بحر، لا سماء. أنا وحيدٌ. [...] أعدو من دون أن أمشي. [...] أنا وحيدٌ. فقدت توازني. لا أحسّ بالدوار.. لم أعد أخاف من الموت. [...]في صباح يوم من أيام شهر حزيران. أستنشق هواءً أخفّ من الهواء. أنا أكثر رشاقة من الهواء. الشمسُ تذوب في ضوء أكبر من الشمس. أتمشى مخترقا كل شيء. الأشكال اختفت. أصعد... أصعد... ضوء يجري... أصعد...[...]هل أستطيع أن أثِبَ... فوق. هل أستطيع القفز.. خطوة.. خفيفة... أتزحلق على الممر الصغير، العالي جدا، أستطيع أن أطير]...[  أستطيع أن أطير[...] أنا أسبح في الضوء. الضوء يلج أعماقي. أنا مندهش من وجودي، مندهش من وجودي... مندهش من وجودي. [...]أنا ضوء أطير  آه  أتردد... أحسّ بألم... أَثِبُ.  يُسمع شوبيرت وهو يُصدر تأوهات. ضوء على الخشبة. شوبيرت ينهار على سلّة أوراق كبيرة». 

من خلال انعدام التلاؤم هذا والذي يلفت الانتباه في اختيار الكلمات ، وهو ما يعبّر عن نقص في الحساسية الروحية أو موقفها الدائم في الانتقاص والحطّ، تصف «مارتا بيترو Marta Petreu» هذه التجربة بـ«الإحساس الصبياني-التهريجي»، قبل أن تستشهد، من خلال بتر هذه الجملة، وهي مقطع من كتاب «   homme en question » نعم، أحاول أن أتذكر تجربة ضوء، تجربة عشتُها منذ فترة بعيدة، والتي تحدثت عنها كثيرا في العديد من مؤلفاتي. حدث الأمر على هذا الشكل: كنت في سنّ السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، أتجول في مدينة من الريف نحو منتصف النهار، في شهر حزيران، وفجأة أحسستُ بحضور ما، وأحسست، أو أنني اعتقدت أني أحس خلال هذه اللحظة بأحدهم يحملني في يده، وأننا لم نَضِعْ. «لكن هذا الإلهام غادره للأسف: «لماذا توقّف هذا الاجتياح عن طريق الضوء؟ لماذا لم تعانقني، أنا، هذه النار الكونية؟ ما هو الشيء الذي يوجد فيّ والذي أوقف كل شيء، أيّ حادث منع كل شيء، أي خطأ؟ كما لو أن الطاقة المضيئة اصطدمت بحاجز لامرئيّ في مثل خفة سحابة، مثل دخان غطّى كل شيء، وسوّد كل شيء. في لحظة أصبحت الأشياء ثقيلة وغائمة ومظلمة. من هذه اللحظة عرفت أن الأشياء تكون جميلةً بقدر ما تحافظ على قليل من هذا الضوء.»

هذا يكشف إلى أي درجة حملتُ كلُّ حياته حِدادَ هذا الضوء الذي تبَيَّنَهُ والذي لم يعرف كيف يحافظ عليه في كيانه. ندمه ووخز ضميره يتأتيان من كونه لم يعرف ولم يستطع اختيار هذا الضوء الذي هو ليس ضوء العالَم. « في اللحظة التي لم يكن يتبقى لي فيها سوى خطوة لتجاوز ما وراء هذه النقطة التي لا يمكن الرجوع من عندها، استولى عليّ تردد كبيرٌ ثم جاء شيءٌ شبيه بدوار[...]. تركْتُني أتساقط. استسلمتُ». 

في مؤلَّفات «الحاضر الماضي» و«الماضي الحاضر» و«يوميات متشظية» و«ما بين الحياة والحلم»، بل في كل مؤلفاته، يتحدث يوجين يونيسكو عن لحظات ضوء أخرى ليست سوى عبارة عن ظلال سريعة الزوال، «ارتدادات»- بالمعنى الزلزالي-، للتجربة التأسيسية التي عاشها في سنّ الثامنة عشرة. هكذا تشكّلتْ لديه ثيمة تناوب وتعاقب الضوء/العتمة، الطيران/السقوط، الصمت/ انتشار الكلمات. هكذا وهو يعلّق على «جاك أو الإذعان»، يقول مفسّرا: «توجد، فيما أعتقد، في «جاك» إحدى حالتين أحسّ بهما بشكل متعاقب، وهما الوزن والرشاقة، الضوء والعتمة. صمتُ الضوء يقابله صمتُ الوَحَل. في نفس الكتاب يبوحُ لـ«كلود بونفوا»  Claude Bonnefoyبالنسبة لي، كما بالنسبة لك، أحيانا يكون الوجودُ غيرَ محتمل وثقيلا وشاقّا وثقيلا ومدهشا وأحيانا أخرى يبدو لي(أي الوجود) وكأنه التعبير عن الألوهيّة والضوء.»

سيكتب بالتحديد من أجل التصريح بحنينه الأساسي وربمّا من أجل أن يعثر على نفسه. «لديّ حظوظٌ أن أعثر على نفسي إذا ما عدت دائما إلى خطاي، إلى مكان الخطوة الأولى؛ العودة إلى وميض الصورة الأولى، هنا حيثُ الكلمات لا تعود تعبّر عن شيء سوى عن الضوء. و«أكرّر أنه من أجل استعادة هذا الجمال، سالما في الوَحَل، فأنا أشتغل على الأدب. كل كتبي، كل مسرحياتي هي نداء، هي التعبير عن حنين، أبحث عن كنز مطمور في البحر، ضائع في تراجيديا التاريخ. أو إذا شئتم فأنا أبحث عن الضوء ويحدث أن يستولي عليّ انطباعٌ بأني عثرتُ عليه من حين لآخر. هو السبب في كوني لا أشتغل فقط على الأدب، بل هو السبب الذي أتغذى من أجله. دائم البحث عن هذا الضوء، الذي يوجد يقينا وراء الظلمات. أكتب في الليل وفي القلق المُصاحَب، من حين لآخر، بإضاءة الفكاهة. ولكني لا أبحث عن هذا الضوء، ولا عن هذه الإضاءة. الغرفة أو الاعتراف الحميمي أو الرواية، كل هذه الأشياء، تظل مُظلمة إذا لم أنْفُذْ، في نهاية الظلمات، على الضوء.»

هذا المنفى يلتحق بمنفى نهاية الطفولة. «يوجد عصر ذهبيّ: إنه عصر الطفولة وعصر الجهل؛ بمجرد ما نعرف بأننا سنموتُ حتى تنتهي الطفولةُ[...]. خارج الطفولة وخارج النسيان لا يوجد سوى النعمة التي يمكن أن تقدم عزاء الوجود أو التي تستطيع أن تمنح المرءَ الامتلاء، السماء على الأرض وفي القلب[...]. كيف يمكن العيش من دون النعمة؟ لكننا نعيشُ مع ذلك.»

إنه منفى وُلد من نهاية الطفولة، نهاية المؤلِّف ولكن أيضا نهاية العالَم، العالم ما قبل الانفصال، ما قبل السقوط أو الخطيئة الأصلية(الأولى). «مرّ زمن، قديم جدا، كان العالَم يبدو فيه للإنسان مليئاً بالدلالات بحيث لم يكن يوجد زمنٌ لطرح الأسئلة، كان التجلّي بالغ المهابة والإدهاش[...] وكان كلّ شيء عبارة عن أعياد الغطاس الخالدة(عيد الظهور الإلهي عن المسيحيين). العالَمُ كان مُحَمَّلا بالمعنى. كان الظهورُ يتغذّى بروح الآلهة[...] العالَم كان حادّاً[...]. في أي لحظة خلا فيها العالَم فيها من جوهره، في أي لحظة لم تَعُدْ فيها العلامات علاماتٍ، في أيّ لحظة حدثت القطيعة التراجيدية، في أي لحظة تمّ فيها التخلّي عنّا من قِبَل أنفسنا؟»

«يا إلهي اجعلني أومن بك»

المنفى هو إذنْ العيشُ في عالَم مفكَّكَ المعنى، في عالم منحطّ ومعطوب ومنزوع القدسيّة يقابله يوجين يونيسكو بـ«العالَم الممتلئ» عالَم ما قبل السقوط الذي لا يمكن أن يوجد سوى بفضل النعمة: «وحدها النعمةُ يمكن أن تمنح اليقين بأن العالَمَ حقيقيٌّ، وجوهريّ. وحدها الحقيقة الميتافيزيقية يمكن أن تمنح الامتلاء، وتمنح محتوىً لِواقعٍ يوميّ يبدو لي، خلاف هذا، فارغا ومُعلَّقاً في العَدم.»  

يأسف  يوجين يونيسكو لأن الميتافيزيقا أصبحتْ لدى «الحديثين» (أصحاب النزعات الحديثة) «غير مقبولة». «لأنهم يخشون أن تقودنا الميتافيزيقا إلى الله.»

نصل هنا إلى ما هو في صلب عمل يوجين يونيسكو، أي البعد الديني. هذا البحث عن المعنى، هذا التساؤل أمام النهايات الأخيرة كان هو الأصل والحافز لما كتب. إن كل ما كتب يأتي من هذا «البحث» على الرغم من «تقطّعه»، لأن «الإنسان المقطوع من جذوره الدينية أو الميتافيزيقية هو إنسانٌ ضائعٌ، وكل مسيره يصبح بلا معنى وغير مفيد وخانق». هذا النقصان الأنطولوجي لعالَم من دون إله يلطّخ ويَسِمُ كل نشاط بشريّ، بما فيه الفن. «إنّ وجهة النظر الإستيتيقية هي أيضا هزيلةٌ. إنّ الذكاء الأسمى والكاتدرائيات لا تمثل بالنسبة للملائكة والضمير الإلهي أو العقل إلاّ كومات بدائية من الحجارة وتصاميم أولى غائمة من العلامات ولغة طائشة وموسيقى باخ، نفسها، شيئا ما يحدث صريرا، بمشقّة.

هذه البنية للرجل الديني Homo religiosus هل ستقوده إلى الإيمان؟ في كل الحالات لن تغادره الرغبةُ العميقةُ التي لا تُرْوى و» التعطّش والجوع» إلى الإيمان. « يا إلهي اجعلني أُومِن بك»، كان عنوان إحدى مقالاته الأخيرة. الرغبة في الإيمان هل هُو الإيمان؟ الجوابُ يكمن في لغز العلاقة ما بين الله وبينه، ما بين الله وكل واحد منّا.

بخصوص هذا الموضوع تطرق سيورانCioran ، مرتين، إلى يوجين يونيسكو: «تعرفت إلى يونيسكو حين كنا طالبين. كان لديه دائما ميلٌ إلى الدين[...]. القلق يوجد في صلب ما كتب. هو أكثر تدينا منّي، أنا الذي لم يستهوني الإيمان أبداً. يونيسكو دائما على وشك أن يكونه. في نفس الكتاب، وفي حوار أجراه معه فرانسوا فيجتوFrançois Fejto يقول: «نحسّ دائما لدى يونيسكو إيمانا عميقا. أما أنا فشكّاكٌ، بشكل جوهريّ.»

لم يَحْظَ يوجين يونيسكو بنعمة إيمان هادئ وفيه سكينة، إذ هو يتحدث عن ندمه لكونه لا يمتلك «إيمان فحّام». في أعماقه يتعايَشُ الإيمان والشكّ، لكن أَلَمْ يَقُلْ بيرنانوسBernanos بأن الإيمان هو أن تشكّ ٢٣ ساعة و٥٩ دقيقة و٥٩ ثانية وأن تُؤمن ثانية واحدة. إنه إيمانٌ على طريقة بيرنانوس أكثر مما هو إيمانٌ على طريقة كلوديلClaudel. على الرغم من... على أنه على الرغم من أنّ جيرالد أنطوانGérald Antoine قرأ في ندوة كلوديل-يونيسكو الذي انعقد في برانغس Brangues  سنة 1995،  مقطعا من يوميات  كلوديل، هذا الكائن «الجلمود» فيما يخص الإيمان، الذي يقول في اعترافاته: «لمْ يمُرَّ عليَّ يومٌ لمْ أشكَّ فيه.» يوجين يونيسكو حينما كان طفلا، مثل حالة كلوديل، كان يتطلّع إلى أن «يكون قدّيسا»، كان يريد لاحقا أن يصبح راهباً: «كنت أريد أن أكون راهبا»، هذا ما قاله في حوار مع غابرييل لييسيانوGabriel Liiceanu. لا يزال يحتفظ من هذه الفترة بالندم ووخز الضمير«(خضوع» جاك في «جاك أو الخضوع») وظل خلال فترة طويلة مرتبطا بالقسّ الكسندر، وهو مُعرّفه(الاعتراف الكنسي) في ديْر دارفاريDarvari الذي يتحدث عنه في يومياته.

مَهْما يكن، لا يمكننا سوى استنتاج استمرار رغبته في الإيمان منذ كتابه «مرثيات من أجل كائنات صغيرة»، أول مجموعة نشرت سنة ١٩٣١، والتي تنفتح على قصيدة (صلاة) (نترجمها أيضا)، إلى كتابه الأخير الذي نشر سنة 1986 «البحث المتقطّع»، الذي يُدرج فيه نصّ «أبونا» والذي نقرأ فيه، ضمن مقاطع عديدة، ما يلي: «لا أتخاصم مع الله. ليست بيني وبينه كلمات. أنا أخشى الله. أحبّه، بشكل أفضل في ابنه: إنه صديق. إنه أخي: ألسنا جميعا أبناء الله، أو ليست العذراء أمّنا؟ إننا أبناء الله.» وهذا البحث المتقطّع ينتهي بهذه الكلمات: «الصلاة من أجل أي كان. أتمنى أن يكون من أجل المسيح».
 
  ماري- فرانس يونيسكو
بورتريه الكاتب في القرن
يوجين يونيسكو (1909-1994) 
تقديم وترجمة: محمد المزديوي
كاتب ومترجم مغربي يقيم في باريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق