الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

Patrick Besson الكاتب الفرنسي خصّ الشاعرة السورية مرام المصري بمقال جميل


باتريك بيسون.. ناقد متفرد في رتابة الساحة الثقافية الفرنسية
يترقبه المكرسون بحذر وينتظره القرّاء بلهفة








باريس: محمد المزديوي
«حينما أقرأ الصحافة الأدبية ينتابني انطباع بأنّي كاهن كنيسة
وفيها كثير من البلهاء يأتون لأكل البطاطا المقلية»
(باتريك بيسون)

لا حاجة للبرهنة على أن ثمة فارقاً كبيراً ما بين النقد الأدبي الأكاديمي الفرنسي كما يُدرَّس في الجامعات ويُعبَّر عنه في مجلات أدبية ونخبوية مهمة وبين النقد الثقافي الفرنسي كما يجده القارئ في الملاحق الثقافية والأدبية للصحف الفرنسية والمجلات الأسبوعية. ولأن الكثير، (لحسن الحظ ليس الكل)، من كبار النقاد الفرنسيين لا يجدون صدى كبيرا لكتاباتهم في كتب النخبة، فقد قرروا تبسيط كتاباتهم ونشرها في الصحف، وهكذا دخلوا في مسلسل الرفع من قيمة كتاب إلى أعلى عليين او تحطيمه وإنزاله إلى القاع الذي لا يوجد بعده قاع. ولكن الذي يجمع بين كل هؤلاء النقاد وممارسي تقديم الكتب، هو انضواؤهم تحت لواء مجلات أو ملاحق تمتاز باحترامها الشديد لخط تحريري وأيديولوجي واضح. من هنا فملحق "لوفيغارو" يتميز برؤيته وتعريفه للأدب الجيد، من خلال انخراطه في قراءة يمينية للأدب. تشتكي مازارين بانجو، مثلاً، ابنة الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران من حقد لا يبرر من طرف ملحق "لوفيغارو" الثقافي. نفس الشيء ينطبق على ملحق صحيفة "لوموند" التي تختار من البداية من ستصوت له كي يفوز بالجوائز الأدبية، أو بجيوب القراء، وأيضا نفس الشيء يمكن تلمسه مع مجلة "ليزانروكيبتيبل" وغيرها.
كل شيء يبدو نمطيا في هذا الجو الثقافي الفرنسي. كل شيء يبدو نمطيا لولا بعض كتاب لا نمطيين يأتون ليكسروا الصورة الرتيبة. ومن بينهم أنجيلو رينالدي، الكاتب الروائي والناقد الذي كان معظم الروائيين يخشون مقالاته في "لوفيغارو" و"ليكسبريس"، ولكنه يبدو أنه وصل إلى مرحلة من الحكمة، إذْ أنتخب في الأكاديمية الفرنسية، فلم نعد نقرأ مقالاته اللاهبة.
الكاتب الذي يفرض نفسه بقوة، في هذا المشهد المتواطئ، هو باتريك بيسون Patrick Besson.
والذي يساعدنا، دفعة واحدة، على تصويره ككاتب مختلف عن القطيع، كونه يكتب في مجلات وصحف مختلفة المشارب الأدبية والسياسية والأيديولوجية، من مجلة "لوبوان" إلى صحيفة "لومانتيه"، ثم مجلة "ماريان"، وقبل هذا مع صحيفة "ليديو أنترناسيونال"(الأبله الدولي) التي كان يديرها الروائي والسجالي الفرنسي الراحل جون إيدرن هالييه.
إن عدم انضمام باتريك بيسون لطاقم مجلة أو صحيفة واحدة، يمنحنا دليلا آخر على أنه لا يعطي أهمية لأي انتماء لا للقطيع أو النخبة أو الحزب.
ولد باتريك بيسون في باريس في الأول من يونيو (حزيران) سنة 1956 من أب روسي وأمّ كرواتية. ولكن هذا الامتزاج لم يؤثر كثيرا في شخصيته. فهو في حرب البلقان (وهذا دليل آخر على لا نمطيته) اتخذ موقفا لم يشاطره فيه إلا القليل، من بينهم ريجيس دوبريه بالطبع. وهو دعم لا مشروط لموقف الصرب من الحرب، على خلاف معظم الكتاب الفرنسيين، خصوصا المتصهينين منهم وعلى رأسهم برنار هنري ليفي وفينكلكروت وغوبيل وغيرهم، الذين ساندوا الكرواتيين والمسلمين.
وقد أبان بيسون عن نبوغ مبكر. نشر أول قصة قصيرة له في سن الرابعة عشرة من عمره، ثم كتب أول رواية له في ثلاثة أيام وثلاث ليال: "آلام الحب الصغرى". نشر أول كتاب له في سن السابعة عشرة، وفاز بالجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية في سنّ العشرين، وحصل على جائزة "رونودو" في سن الثلاثين. ويعتبر الآن، ومنذ سنة 2000، واحدا من أعضاء تحكيمها.
رواياته تثير دائما الكثير من الجدل وتسيل الكثير من الحبر. ومن النادر العثور في الأوسط الثقافية على من يكرهه أو يحبه باعتدال، على حد تعبير الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب: لا أريد الحب إلا عنيفا". روايته في هذا الدخول الأدبي 2007 حملت عنوان: Belle-sœur وصدرت عن دار "فايار". ولاقت الكثير من التقريظ، وإن كانت لن تفوز بالغونكور، حتما، لأسباب غير أدبية.
بالإضافة إلى مقالاته وكتبه، تظل قراءاته ومقالاته النقدية هي مما يثير الإزعاج والألم للكثير من المؤلفين. وهو يذهب بعيدا في رفض المحاباة أو الصفقات الثقافية، إلى درجة تجعله يغرد باستمرار خارج السرب وخارج الذائقة الأدبية السائدة.
سنأخذ مثالين للدلالة على ما نقوله: في المقال النقدي الأخير في العدد الأخير من مجلة ماريان (22 سبتمبر 2007) والمخصص لجديد الروائية الفرنسية ماري داريوسيك، نقرأ في العنوان: "المسار الجنائزي لماري داريوسيك". وهو عبارة عن استعراض لكلمة الموت في الرواية: "موت توم" ص10 "توم مات" ص11، و"ضريح توم" ص19. وهو استعراض يثقل كاهل القارئ من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة : "هكذا الأمر إلى أن نصل إلى الصفحة 247 حيث ينتهي دفن القارئ." يريد بيسون أن يشعرنا كقراء على أنه ليس فقط "توم" من مات، بل حتى القارئ أيضا.
عينه النقدية الجارحة لا تخص فقط عالم الكتب، بل تتعداه إلى السينما والمسرح والغناء والميديا بما فيها البرامج التي تتطرق بطريقة أو بأخرى للأدب والكتب. ودخل في مشاحنات عنيفة ضد العديد من النقاد والكتاب الفرنسيين ومن بينهم ميشيل بولاك ورومان غوبيل وديديي داينيكس وغيرهم.
ومن بين أهمّ مقالاته (وهو المثال الثاني)، التي لم يَخَفْ فيها لومة لائم، هي التي خصّ بها برنامج tout le monde en parle، لتيري أرديسون، عندما كان ضيفه الكبير هو الفكاهي الصهيوني إيلي سيمون Elie Semoun. والمقالة حملت عنوان: "كلمة إيلي سيمون الأخيرة"، الذي يصفه الكاتب بكونه: "يستطيع أن يكون مضحكا حين يشاء، وغبيا حين يفكّر."
في ذلك البرنامج الثقافي الترفيهي، كان أرديسون يستقبل أيضاً الكاتب الفرنسي الكبير رونو كامي Renaud Camus. كاتب لا يراه الناس، كثيرا، في التلفزيون. وكانت الفترة هي فترة "قضية كامي" التي ابتدأت حينما كتب كامي في مذكراته الحميمية "بادية فرنسا" أنه يتواجد كثيرٌ من اليهود في برنامج "بانوراما" الذي يقدمه راديو "فرانس كولتور". يعلق بيسون على الأمر بالقول: "لا يوجد كثير من اليهود في "بانوراما" فرانس كولتور، بل يوجد كثير من الأغبياء. ثلاث جمل في كتاب يتضمن الآلاف منها، كان الأمر كافيا كي يَغْضَبَ المجتمع الأدبي الطيب. المثقفون يعشقون الاستنكار. يعتقدون أن الاستنكار سيمنحهم الشرف، خصوصا حينما يتعلق الأمر بإغراق زميل لهم. صحيح أن عددهم كبيرٌ جدا، عددهم يفوق الحد. يتوجب التصفية. وبالمناسبة يتوجب تصفية رونو كامي."
كان إيلي سيمون، ينضح غضبا وحقدا، وهو يرى كامي بجانبه في البرنامج . كان يتصور أنه "بجوار حيوان نجس". فيسأل، وهو يتقنفذ حقدا بابتسامة فيها تكلّف الكاتبَ إن لم يكن يرى أنه يتواجد كثيرٌ من المثليين الجنسيين في مجال الاستعراضات الفنية. يسأل إيلي سيمون عن هذا لأنه يعرف أن الكاتب كامي مثلي جنسي. يعلّق باتريك بيسون على الأمر: "أنا لم أجد ما الذي يمكن أن يربط ما بين اليهودي والمثليّ". ولكن رونو كامي عرف كيف يخرج من المصيدة، حين قال: "لو أني اكتشفتُ أن ثمة برنامجا في راديو فرانس كولتور، كل المتدخّلين فيه من المثليين. وإذا كان هؤلاء لا يتحدثون سوى عن مواضيع مثلية، فسوف أحتجّ." يرسم بيسون صورة عن خروج كامي من البرنامج: "تحت وقع تصفيقات هزيلة ومتضايقة. أحببتُ ظهره الثقيل والأزرق المعبّر عن محارب منذهل من حرية التعبير." عين الصقر بيسون، تتابع من دون توقف تتَابُع المَشَاهد على الشاشة: "تأتي الممثلة أنّا موغلاليس التي تسوّق منتجات شانيل للعطور. يخاطب أرديسون، مُعدّ البرنامج، ضيفه الفكاهي سيمون: ها أنت ترى، كنت وعدتك بحضور فتيات جميلات هنا يردّ سيمون: "نعم، ولكنّ (المرأة) الصلعاء ذات الشارب، لم أحبّها كثيرا." ينهي باتريك بيسون مقاله: "هكذا كانت كلمة إيلي سيمون الأخيرة: نكتة عنصرية." انتقادات باتريك بيسون طالت الكثيرين، ومن بينهم فيليب سوليرز بالطبع، ومن يسير في دائرته خصوصا طاقم ملحق الكتب لصحيفة "لوموند".
في كل أسبوع يترقب كاتب ما، خصوصا المُكرَّسين، سرير التشريح، سرير باتريك بيسون، بقلق وحذر، في حين أن القارئ ينتظره بألف تلهف. هو لوحده ظاهرة في الوسط الثقافي الفرنسي. وهو ما يدفعنا أن نزعم بالفعل، إذا ما استعرنا جملة من المأثور الإسلامي، إنه يمكن اعتباره "أُمّة وحده". في فرنسا، بالطبع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق