الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

موسيقى الراي

أسرار فن اخترق الحواجز إلى العالمية
موسيقى «الراي» التي أنطقت العالم العربية
باريس: محمد المزديوي
مشهد الشاب «خالد» أو الشاب «مامي» وهما يحركان الآلاف من الآسيويين أو الغربيين ـ الذين لا يعرفون العربية، وربما يسمعون إيقاعاتها للمرة الأولى في حياتهم ـ لهو دليل على أن التأثير الساحر الذي يمارسه هذا الجنس الغنائي والموسيقي الذي يدعى «الرّاي» قد أصبح ظاهرة تستحق الكثير من التأمل والاستبطان.
قد يبدو للوهلة الأولى ان «الرغبة في معرفة الشرق العربي» من بين دوافع الافتتان بأغاني الراي، أو هو نوع من استشراق جديد في زمن انتهى فيه الاستشراق، وهذا قد يكون نسبياً مقنعاً.
صحيح أن الشاب «خالد» وآخرين استفادوا من علاقات وصداقات في الوسط الغنائي الفرنسي، وصحيح أيضا أن الأغاني التي انتشرت كالنار في الهشيم يعود تلحينها إلى الملحن الفرنسي الكبير «غولدمان» لكن هذا وحده ليس بكافٍ لفهم الظاهرة.
لغة الراي:
* تستعير هذه اللغة من الملحون (جنس غنائي) كثيرا من خصائصها، وتستخدم لفائدتها الحمية الدينية، ولكن أيضا المعيش اليومي وشعر المتخيَّلات الشعبية. هذا ما رأيناه مع شيخات الراي، أما الشباب، المنحدرون من المدن ومن المجتمع الاستهلاكي وأبناء السيارة والبارابول، فقد أصبح الراي، عندهم، أكثر جسدية وأكثر مادية.
نطرح هنا في هذا المقال، موضوع عالمية هذا الجنس الغنائي والموسيقي. صحيح أن الشاب «خالد» و«مامي» أصبحا عالميين ومعروفَيْن، ولكن هل معنى هذا أنّ «الراي» أصبح عالميا؟ ثم ما الذي يَفْتِنُ ويجذبُ غيرَ العرب إلى هذا النوع الغنائي؟ هل هو موضوع الأغاني، أي الكلمات والحدث؟ بالتأكيد لا. يبدو أن ثمة أسباباً كثيرة وراء النجاح العارم لهذا النوع من الأغاني، وهذا النوع من الموسيقى... نحن نعرف بأن كلمات أغاني الراي بسيطة وأحيانا تثير الضحك لدى سامعها. فهي خلط بين كلمات عربية فصحى وعامية وفرنسية، مزج بين كلمات تحيلُنا إلى الكولاج وإلى الكتابة الأوتوماتيكية التي دافع عنها شعراء السوريالية، بالإضافة إلى اشتغالها على مواضيع تتطرق إلى المحرمات والحب المستحيل والتغني بالأوضاع السيئة والصعبة التي تعيشها شبيبةٌ لم تعرف الثورة الجزائرية، بعد الاستقلال. شبيبة تتساءل كيف تلبي تطلعاتها ورغباتها، وذلك من بؤس وفقر وبطالة وانعدام للحرية إلخ.. خصوصا وأن العالم أصبح الآن قرية كونية، بإمكان الفرد أن يرى ما يُعاشُ على بعد آلاف الأميال منه، فكيف بما يعيشه من يفصل بينهم ومن بين من يعيشون ظروفا أفضل منهم، بحرٌ فقط
بالطبع تلعب الإيقاعات والأنغام دورا كبيرا في تحريك المستمعين وجعلهم يرقصُون انتشاء وطربا. إنها أغان حزينة مغرقة في سوداوية وكآبة وشجن، تذهب بنا بعيدا وعميقا في مقارنات وتشابهات مع أغاني «الفادو» أو «الصوداد» البرتغاليين، حيث الفقدُ والحنينُ والضياع واللاطمأنينة (نسبة إلى مؤلَّف الكاتب البرتغالي الأكبر «فيرناندو بيسوا») سيد الموقف. أَلَيْستْ برشلونة كما شواطئ الجزائر الطويلة مدعاة للرغبة في الطيران والهجرة والحزن؟! مَنْ منا لا يموت طربا وحزنا في نفس الآن، حين يستمع إلى الشاب «زهواني» وهو يصدح: «قُلْ لأمي أن لا تبكي/فابنها الذي غادر لن يعودَ أبدا/لأنه أصبح منفيا!».
طبعا هذه العوامل لوحدها لا يمكنها أن تفسر سرعة انتشار الراي في العالم. لقد كان من الضروري أن يُقيم رُوَّاد هذا النوع الغنائي في فرنسا بصفة خاصة، ويشاركوا في مهرجانات غنائية دولية، يأتي في أولها مهرجان «بوبيني» (بالضاحية الباريسية). بعد هذه الموجة من الرواد المقبلين من الضفة العربية للبحر المتوسط كان لا بدّ أن تظهر فئة أخرى من المغنين، من أبناء الجيل الثاني للهجرة، وعلى رأسهم «الشاب فُضيل» وغيره.. هذه المهرجانات عرَّفَت المنتجين العالميين للأغاني والألبومات على هؤلاء المغنين الخجولين الذين كان يبدو وكأنهم رضوا لأنفسهم ان يخاطبوا أبناء جاليتهم العربية فقط. يقول «دون فاس» Don Was وهو منتج أغان أميركي شهير: «في بدايات سنة 1993كنا، الشاب خالد وأنا، مدعوين إلى برنامج في التلفزيون الأميركي. في اليوم التالي هاتفني خمسة من أصدقائي الموجودين في أطراف البلد الكبير، كي يقولوا لي بأنّ هذا النوع الغنائي (فانكfunk ذا الربع صوت) كان أروع شيء سمعوه في حياتهم. حين ذلك أدركتُ أن أول مرحلة من برنامج الشاب خالد من أجل التحرير العالميّ للعقول، من خلال خلط الحدود الموسيقية كانت نجاحا ساحقا». يتحدث «دون فاس» عن الخلط والمزج، وإذاً عن العولمة والتهجين(اختلاط الأجناس)، هذا النوع من الراي (الذي يترعرع في فرنسا) يلعب دورا مُوحِّداً بين موسيقى جزائرية (لأن الراي في جوهره جزائري مع بعض الإضافات والروافد المغربية) تأخذ على عاتقها تعددية المصادر والثقافات مع أجناس أخرى ومن بينها الثقافة البربرية (القبائلية) بشكل خاص. هل يجوز التذكير بأن أول أغنية جزائرية عرفت نجاحا عالميا كانت «أبابا إنوفا» (بابا الصغير) التي سجلها المغني الجزائري القبائليّ «إيدير سنة 1973. وهي أغنية تتحدث عن أجواء منزل قبائلي في فصل الشتاء قبل ظهور التلفزيون، وقد أصبحت هذه الأغنية نشيدا للهوية».
إلا أن مغني الراي الجزائري الذي أنجز فتوحات كونية يظل هو الشاب «مامي»، هذا الشاب المقبل من مدينة «سعيدة» والمولود سنة 1966، والذي حقق أول نجاحاته من خلال أدائه «للمرسم» وهي أغنية أحد فحول أغاني الراي الشعبي «الشيخ محمد الروج»: «أيها المزار! قل لي ماذا حدث بين ربوعك! لأننا عشنا، هنا، لحظاتِ سعادةٍ/غَزالي وأنا/أحدثك بكلام لطيف/ولكنك تظلّ صامتاً ولا تُجيبني..». هذا الشاب(مامي) الذي يظل وريث المغنين المتنقلين(التروبادور) عبر عن طموحه في تقاسم أناشيده بعيدا عن منطقته من أجل ألا يظل منحصراً، وكي يلعب ورقة الكونية مثل موسيقى الروك والريجي. سيكون الشاب مامي أول مُغني راي يغني سنة 1986في قاعة الأولمبيا الفرنسية الشهيرة (التي تذكرنا بطبيعة الحال بأم كلثوم حين دعيت للغناء فيها)، وسيكون كذلك، أول مغن عربي يغني في قاعة أميركية «سوند أوف برازيل» في نيويورك سنة 1989، وأيضا أول من سجَّلَ ألبوماً في الولايات المتحدة سنة 1990 لم يعرف النجاح، لسوء الحظّ، بسبب توقيته مع حرب الخليج الأولى.
ما هو الجديد الذي أتى به الشاب مامي، ومن خلاله باقي مغنيي الراي؟ على الرغم من وفائه لغناء شيوخ وشيخات مدينته «سعيدة» الرتيب وللأهمية المركزية التي تحظى بها آلات الكمان والطبل أو العود، ولعدم إهماله للعمود الفقري للراي، ألا وهو إيقاعية اللغة فإنه سيقوم، عبر ألبوماته، بإدماج لقاحات موسيقية متنوعة في موسيقاه (فلامينكو، أفرو ـ شرقي، هيب بوب، راغاموفين، فونك، الأغنية الفرنسية، الرقص....). عنصر آخر، لا يخلو من أهمية مركزية في دفع أغانيه إلى مصاف الكونية، وهو تعاونه مع فنانين عديدين ومع مهندسي الأستوديو (نذكر بعضا منهم إذ هم كُثُر، تونتون دافيد، أسواد، إيدير، شارل أزنافور، نيل رودجيرس، نيتين ساوني، زيجي مارلي...). هذا التعاون حقق نجاحات متباينة. ولكن الحدث الأهمّ يبقى لقاؤه مع الفنان العالميّ «ستينغ» Sting. وهنا تُذكَرُ واقعة طريفة تبين كيفية لقاء الرَّجُلَيْن. كان «ستينغ» في تاكسي حين سمع الشاب «مامي» في إحدى الإذاعات، أُعْجِبَ بالأغنية وبالمغني فقرر التعاون معه. هذا اللقاء الذي سيخرج منه «مامي» أقوى وأكثر شعبية. بعد غنائه في قاعة «بيرسي» الباريسية بمناسبة مرور عشرين سنة على بداياته الغنائية/ سنة 2001 سيغني مع «ستينغ» أغنية» Desert Rose حققت مبيعاتٍ تصل إلى 7 ملايين ونالت الدرجة الثانية في أميركا من حيث أكثر الأغاني مبيعا وانتشارا) أمام 130 مليون مشاهد أميركي في افتتاح مسابقات نهاية كرة القدم الأميركية، أهم حدث رياضي في الولايات المتحدة الأميركية.
إن هذا النجاح المتواصل حقق آثارا إيجابية حتى على الجالية المغاربية والعربية المسلمة الموجودة في فرنسا، إذ بدأت هذه الجالية تشب عن الطوق، وتدافع عن هويتها المتعددة (فرنسية وعربية). أصبح الكل في فرنسا يغني ويرقص على إيقاعات «ديدي» و«عيشة»، وهذا في حد ذاته انفتاحٌ على جالية كانت إلى حدود الأمس القريب منبوذة ويشار إليها بالبنان.
مع كل هذا يظلّ الواقع الجديد لهذا الجنس الموسيقى عنيدا حيث إن ممثليه الموجودين في أوروبا منهمكون في جعله منفتحا على إيقاعات وأنغام وموسيقى متنوعة فيما يظلّ نظراؤهم الموجودون في أرض الوطن (الجزائر)، «حراس معبد الموسيقى» ينتظرون تأشيرات فرنسية (فيزا) مرفوضة ويتطلعون إلى الضفة الأوروبية من البحر المتوسط، هذا الأفق المستحيل الذي يُمعن في البعاد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق