السبت، 6 أكتوبر 2012

ترجمات من الأدب الألباني المعاصر

محمد المزديوي2009-07-19
  لعقتُ ملعقتي بعد آخر لقمة. مسحتُ صحني وأنهيت خبزي ووضعت الملعقة في كيس بلاستيكي. ثم وضعتُ الكيس في جيبي. نهضتُ وخرجتُ متوجّهاً، ببطء، نحو العنبر الأكثر قربا من سور السجن. نحنُ في شهر يناير والثلوجُ زاد سمكها. وفي المنحدر يمارسُ جيزيم سيتوزي عادة صيد العصافير. كان يخدعها عن طريق فخاخ مطاطية. يترك لها بعض فضلات الطعام فيُصيبها.

كان كل معتقل يمر بالقرب منه يخيفه. إذ أنه كان سيتوزي ضعيف العقل.

أقول له:

- أترك العصافير تنعم بالهدوء.

يرد عليّ، وهو يُخرج عصفورين ميتين من جيبه:

- سوف أطبخها في وعاء مغلق، مصحوبة بالرز.

أعود إلى العنبر وأنا متقزز.

تعود إلى ذاكرتي قصة اللقلاق «سيب». هي قصة بما تحمل كلمة قصة من معنى. لا أعرف أي درجة من الصدق تحتوي عليها، ولا أين يوجد قسم الكذب، ولكني أصدق هذه القصة، كما حُكيَت لي أكثر من مرة. كم من مرة أتيحت لي الفرصة لأسمعها من فم سجين قديم... لأن الوقائع حدثت قبل عشرين سنة في سجن ريناس. السجين خيتي يجد نفسه في هذه القصة. من حين لآخر أسأله عن بعض التفاصيل كي أكمل في رأسي هذه القصة الغريبة والمُبجَّلَة.

كانت الفترة فترة بناء مدرجات مطار. كانت عنابر السجن والورش قد انتهت. كان الأمر يتعلق بوضع الخرسانة، وكما نعرف أن وضع الخرسانة هو إحدى الأشغال الأكثر صعوبة وقسوة. يتوجب وضع الزفت ثم تمديده. وهذا المُدرَّج كان معمولا لاستقبال طائرات الشحن العملاقة. إذ أن الروس افتتحوا خطا لطائرات طوبولوف، وأصبح من الضروري بناء مدرج في العاصمة تيرانا. هو مطار عسكري ومدني في آن، وسيكون أكبر مطار في البلد.

يتوفر هذا الموقعُ الذي يوجد في مكان منخفض على مياه. إذ توجد بالقرب منه بعض الغدران الراكدة حيث ينمو القصب.  المكان هادئٌ وبعيد عن المدينة، وكانت الطيور المهاجرة تحط فيه كي تستريح. وكانت بعض اللقالق تتيه في الورش. ذات يوم ظهر طائرٌ أبيض من بين طيور أخرى. اقترب سين وتعرف على لقلق. جلس على الأرض وطفق يتأمله. أدار اللقلق رأسه وبدأ يفحص باهتمام من دون حركة.

اقترب السجين من الطائر. حاول اللقلق أن يطير لكنه لم يستطع، فسقط. حينها أدرك السجين بأن جناح الطائر منكسر. سين كان خياطا عاديا من العاصمة تيرانا، ولكنه كان يمتلك يدين خبيرتين. اقترب من اللقلق من الخلف وأمسك بعنقه وضمه إلى صدره.

عاد إلى الورشة مع طائره. أحاط بهما السجناء مكونين شكل دائرة ولم يتفوهوا بكلمة.

- سوف أصطحبه إلى العنبر. لقد تكسر جناحه، ولهذا السبب فهو لا يستطيع الطيران.

أخبر سين الشرطيَ المكلف بالورشة بقصة اللقلق. بواسطة بطانيّة قديمة من الزغب صنع عشا بالقرب من سريره وقام بتمديد اللقلق، الذي لم يُصدر أيّ حركة مقاومة. حين جسّ جناحه اكتشف سين الجرح. استخدم بيضتين وشيئا من الصابون وقطعة من القطن. عالج هذا الكماد، مزّق إحدى قمصانه القديمة واستخدمها لتثبيت الجبيرة. من الغريب أن الطائر استسلم للعلاج. عينه، فقط، كانت تدور في محورها، مثل مِنفاق.

طيلة يومين لم يحضر سين إلى الورشة. كان يظل بالقرب من الطائر. أخذ زميلٌ في السجن مكانه في العمل مع المجموعة. قام بتعميد لقلاقه بـ«سيب»، ثم كان يصطحبه إلى الورشة ويضعه بالقرب من إحدى الغدران. كان اللقلق كثيرا ما يلتفتُ لرؤية العمال وهم يشتغلون في المدرج. ذات مساء، وبعد ثلاثة أسابيع، قرر سين نزع الجبيرة، فقام الطائر بالانبساط. فتح جناحيه، حركهما ثم أغلقهما.

- لقد أصبحنا متعودين مع اللقلق. ولكنه سيطير غدا. أسراب من اللقالق تمر من هنا، في اتجاه الجنوب، وسيتبعها.

صباح الغد، طار اللقلق فوق السور وفوق السجناء، من السجن إلى المدرج. رسا هناك وانزلق في الماء.

بينما كان المعتقلون يستعدون للدخول، في الساعة الثانية، انطلق اللقلق، استشاط دون أن يكلفه أحد. حلق فوق مجموعات العمال، مثل طائرة، واتجه ليرسو الأول أمام السجناء وحراس السجن. حين فتح الحارس الشباك، كان اللقلق أول الداخلين.

ابتداءً من هذا اليوم، في الساعة السادسة إلا عشر دقائق، في كل صباح، يبدأ اللقلق في القوقأة في نفس المكان بين المعابر.

- كْراكْ... كْراكْ...

كان كل السجناء يعرفون أن ساعة العمل قد دقّتْ. فيما يخص ساعة الانتهاء من العمل، في الساعة الثانية إلا عشر دقائق، فاللقلق يهب من خلال بسط جناحيه، يشرب قليلا من الماء ويقترب من الورشة.

- كراكْ.. كراك...

كان السجناءُ متأكّدين منْ أنّ ساعة الانتهاء من العمل قد حانتْ، إذ أنهم كانوا محرومين من معرفة الوقت ومن امتلاك الساعات. لم يكن اللقلق يخطئ أبدا. كان دقيقا. ومن الغريب أنه لم يرحلْ، فقد قضى فصول الخريف والشتاء والربيع برفقة السجناء.

- الله هو من بعث به إلينا !

- إنه آية من آيات السماء !

- إنه يشعر بالطمأنينة معنا، وهذا يكفينا.

لكن شيئاً ما كان بصدد القدوم من دون أن ينتظره أحدٌ.

دخل اللقلق، كعادته، لتناول العشاء. كان كل العمّال قد تخلّصوا من آلاتهم والتحقوا بالصفّ. لم يعودوا يستطيعون الاشتغال في بناء الخرسانة. كانت تحدوهم الرغبة في العودة إلى المعسكر.

صاح فيهم أحد رجال الشرطة:

- عودوا إلى العمل.

رد السجناء:

- إنها ساعة الدخول، فاللقلق موجود، هنا، وقد بدأ قوقأته.

صاح الحراس

- لم يَحن الوقت بعدُ.. عليكم أن تشتغلوا أكثر.

كان جواب السجناء:

- أنتم تكذبون، إن هذا اللقلق بعث به الله إلينا، وهو لا يكذب أبدا.

بدأ الحراس يستعدون للهجوم لتفريق السجناء، ولكن السجناء قاوموا. جاء موظف الأمن السامي وجمع قواه من جهة والسجناء تجمعوا في جهة ثانية مع اللقلق، الذي كان أنيقاً، وكأنما يترأس محكمة، في معطفه الأبيض، المعطف المقدس، وكان ثابتا. بدت الصرامة على وجه اللقلق ولم يُبْدِ أيّة حركة.

- انظروا إلى اللقلق، إنه لا يتحرك. ثمة شيء بصدد الوقوع، لا تبتعدوا، لا تعودوا إلى المنزل.

ظل الجميع في مكانهم، صامتين.

تجمع أفراد الشرطة في موقعهم. اتصل موظف الشرطة السامي بوزارته عبر الهاتف. كان ينتظر الأوامر. ثم أصدر القرار بإدخال السجناء إلى المعسكر.

حينما التحق كل واحد من السجناء بسريره، استقر اللقلق كعادته، بالقرب من سين. كان هذا الأخير ينظر إليه. اكتسح ظلٌّ، فيه كثيرٌ من اللغز، عيني الطائر الجميلتين. مرّ فصلا الصيف والخريف، وبدأت أسراب الطيور تتجه صوب منطقة «اليزه» في اتجاه الجنوب، كي تقضي فصل الشتاء في المناطق الحارة.

ذات صباح، ظهر سربٌ كبير في المساء، بدأ اللقلق سيب يستعد للطيران، وهو يرسم دورة وداع في السماء، قبل أن يلتحق بالسرب. كان كل السجناء يتبعونه بنظراتهم، وأنفاسهم تتقطع. ولكن الشيء الغريب هو أنه حينما اقترب من السرب، انفصلت خمسة لقالق ضخمة الحجم كي تهاجمه. ضربته على كل الأطراف. لم يُرِدْ أن ينفصل عن السرب، إذ كانتْ تحدوه الرغبة في الطيران معها. لكن اللقالق الخمسة واصلت ضربه على جسده، على رأسه وعلى جناحيه. وفجأة توجه نحوه لقلق ضخمٌ وضربه على جمجمته.

بقي السجناء، وهم جالسون على الأرض، بجانب السياج، مندهشين. في إحدى اللحظات أبصروه وهو يسقط بشكل مستقيم  عليهم. تمدد جسد اللقلق وانفتح جناحاه وتكسَّرا، وطار بعضٌ من ريشه، وانسابت بعض من قطرات دمه، وهي تذكر بِدَم الرفاق الذين تم إعدامهم. اصطدم الطائر بالأرض، مُحدثاً صوتا خفيفا يشبه صوتَ كَمان خافض. هبّ سين نحو الطائر، الذي كان مُسْجى من دون روح. التقطه وضمه بين ذراعيه، ثم وضعه في عربة،. وقف كل السجناء أمامَهُ، صامتين.

- إنّ السّرب لم يقبله بين أحضانه. لقد عرف نفس مصير السجناء. سجين «ريناس»، لقلقنا سيب. لا أحد يفكر فينا سوى الله، الله هو من بعث بك إلينا، أيّها القدّيس.

انحنى على ركبتيه وقبَّلَ اللقلق، ثم أخذ مجرفة واتجه نحو الغدير. قام بحفر قبر عميق، في مكان جافّ، قرب أشجار القصب. عثر على حصيرة عتيقة، قام بتمديد جسمه، ضغط جناحي اللقلق إلى جسده، ووضعه في القبر، مغطيا إياه بثوبٍ، ثم وضع لوحتين. نهض من مكانه، وظل على هذه الحالة، في صمت، ثم أهال عليه التراب أخيرا.

عاد السجناء إلى المعسكر من دون اللقلق سيب. بعد سنة أدرك سين أن اليوم الذي أتى فيه اللقلق، وقبيل وصوله بنصف ساعة فقط، كانت الوزارةُ قد صممت على معاقبة السجناء. هذا العقاب تسبب في مقتل سجينين وجرح خمسة آخرين أثناء عودتهم، فقد أطلق عليهم الحراس النارَ بدعوى إفشال محاولة هرب. بفضل هذا الطائر، الذي بعث به الله، فقد تم تحاشي حدوث مجزرة... هذا ما كان يؤمن به، يقينا، السجناء.

منذ هذا اليوم، ونحن نعشق الحيوانات والطيور، التي تعتبر الكائنات الوحيدة التي تبادلنا الصداقة.

في نهاية فترة الاستراحة التي تسبق تناول العشاء، قمتُ من سريري، حيث كنتُ مضطجعاً، تحت غطاءين. انتعلت حذائي، وضعت على جسدي المعطف العسكري الأصفر المصنوع من جلد الماعز واتجهت صوب الشباك. كان ثمة ظلامٌ بسبب الضباب، وكان مشهد الثلج يعطي بريقا شفافا ومشعا. المنظر يبدو بريئا، طاهرا، على أهبة مواجهة المستقبل. كان ثمة كقعج بالقرب من السياج، جلستُ عليه متأملا.

استبد بي البردُ. وقفتُ وتوجهت نحو المطعم. حينما لا أعرف إلى أين أذهبُ، وهي حالة كثيرا ما تحدث لي، فإن خطاي تقودني إلى المطعم. هو مكانٌ يسود فيه العطر العائلي. فيه نهيئ أطباقنا، وفيه نستطيع أن نرى، بعيوننا الحقيقية، البطاطس والبصل والقطاني والطماطم وقطعات صغيرة من اللحم والدقيق والزيت والسكر والقهوة، أي ما يمتلكه الناس الأحرار. هذه الأشياء نادرةٌ، بطبيعة الحال، ولكننا دائما نرى شيئا أو آخر. إذ هنا، في السجن، نحن في حاجة إلى أن نُقارِنَ أنفسنا مع الناس الأحرار، وكذلك مقارنة هذه الممتلكات بممتلكات الناس الأحرار.

ألج المطبخ، وهو صغيرٌ. هناك، في السجن الآخر، كنا قد شيدنا مطبخا أكبر. هذا المطبخ ليس أكبر من علبة، ولكن في هذه الأوقات، لا يهتم أحدٌ بتوسيعه. فتفكير كلّ الناس، هنا، يوجد بعيدا. سوف نعود إلى ديارنا. ولكن هذه العودة ربما ستنتظر سنوات. يتوجب أن نظل يقظين وألاَّ نُؤْخَذ فُجاءةً.

لا يمكن تصديق ما يستطيع السجناء أن يتخيلوه. السجينُ هو ذئبٌ، فيما يتعلق بالحرية. فهو يشمها من بعيد. أقول في نفسي: إنها نهاية السجون. أجلس على كرسي. ألمحُ سيتوزي وعينيه اللامعتين. حين تكون بحوزته بعض المأكولات، يكون سعيدا. يدور في المطبخ ويثبت عينيه على الفُرن. هذا الفرن، الذي نستخدمه لطبخ المواد الغذائية، كان عبارةً عن عربة تم تكسيرها، نصفين، وقمنا بتلحيمها، حيث أضفنا إليها بَابَيْن ومَحْرقاً؛ يمكن تشبيهها بقاطرة القيصر. إنني أُبالغُ. إنه يطبخ الأشياء جيدا. وحينما غيرنا السجن، قمنا بنقله معنا، ودحرجناه. كان من الواجب أن يصل إلى غايته، ولم يكن من الوارد أن نتركه لسجناء الحق العامّ. إذا كانوا يريدون واحدا يشبهه، فما عليهم سوى أن يصنعوه.

رفع سيتوزي غطاء الفرن، وسحب منه قِدْراً صغيرة. وضعها على الكرسيّ حتى لا تحترق يداه. كان يجدح، يستروح، ويتذوق بطرف لسانه. ودون أن يترك الطبق يبرد، سحب من جيبه ملعقةً، وأدخلها في القدر مصحوبة بتنهيدة. في وسط القِدْر، لمحتُ ساقي عُصفور، مطبوخَتَين ويابستين. بينما كان الرز على الأطراف.

التهم سيتوزي الرزّ، ثم التهم العصفور الأول، في لقمة واحدة. استعاد أنفاسه، شرب جرعة من الماء، وعاد لالتهام القطع الأخرى. أخيرا لم يتبق لا رأسٌ ولا لحم من العصفورين. لم يبق أي شيء في القِدْر.
 
ترجمة محمد المزديوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق